ما هي أهم المؤاخذات على النصوص الإسلامية بشكل عام، والنصوص التي تعنى بحقوق الإنسان وحرياته؟ وماهي أهم المؤاخذات على نصوص حقوق الإنسان من وجهة نظر علماء المسلمين والطوائف الإسلامية؟ وكيف يتسنى لنا كمسلمين مراعاة حقوق الإنسان، في علاقاتنا، ومع غيرنا مع الالتزام بنصوص الشريعة الإسلامية؟...
الشريعة الإسلامية ومعتقدات المسلمين وعاداتهم الاجتماعية. وفي الغالب يُنتقد الإسلام على هذا الأساس. كما أن العديد من الطوائف الإسلامية والمسلمين لا يرون في قضايا حقوق الإنسان ما يلاءم معتقداتهم الدينية وعاداتهم الاجتماعية، بل قد تعد حقوق الإنسان المذكورة في تلك الإعلانات الدولية مخالفة بشكل صريح لعقائدهم الدينية وعاداتهم الاجتماعية، وفي الغالب يرفضونها على هذا الأساس. وفي الأحوال كلها تحصل بين الحين والأخر سجالات بين الطرفين واتهامات متبادلة تطال النصوص الإسلامية ومبادئ حقوق الإنسان في تلك الإعلانات الدولية، ومازال النقاش مستمرا...
فما هي أهم المؤاخذات على النصوص الإسلامية بشكل عام، والنصوص التي تعنى بحقوق الإنسان وحرياته بشكل خاص؟ وماهي أهم المؤاخذات على نصوص حقوق الإنسان من وجهة نظر علماء المسلمين والطوائف الإسلامية؟ وكيف يتسنى لنا كمسلمين مراعاة حقوق الإنسان، في علاقاتنا مع بعضنا بعضا، وفي علاقاتنا مع غيرنا مع الالتزام بنصوص الشريعة الإسلامية؟
من حيث المبدأ لا يفرق العديد من منتقدي الإسلام بين النصوص الإسلامية وبين العادات والتقاليد الاجتماعية التي تتمسك بها شعوب البلدان الإسلامية بغض النظر عن منشئها التأريخي، هذا من جهة. ولا يفرقون أيضا بين النصوص التي جاءت في القرآن الكريم كونه المصدر الأول للنصوص الإسلامية، وبين النصوص التي جاءت في الأحاديث النبوية كونها المصدر الثاني للنصوص الإسلامية، وأقوال العلماء واجتهاداتهم من جهة ثانية. وفي الحقيقية لا تقتصر هذه النظرة الإجمالية على غير المسلمين، بل المسلمون أنفسهم لا يفرقون بين هذه المصادر إلا النزر اليسر، ويرونها فيها تعبيرا عن الإسلام، فيتهمون الإسلام بأنه يتناقض مع حقوق الإنسان المعاصرة.
هنا ينبغي أن نميز في إطار الإسلام بين النصوص القرآنية المصدر الأول للشريعة الإسلامية، وهي نصوص قطعية الصدور عن الله عزل وجل، وهي غير قابلة للتحريف، وقد وصلتنا كما نزلت على رسول الله (ص) من غير زيادة ولا نقصان، فقد قال الله تعالى: (إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ولا شك أن جميع نصوص القرآن الكريم تتفق تماما مع أساسيات حقوق الإنسان من الكرامة والعدالة والحرية والمساواة وغيرها. وإذا كان هناك تناقض أو اختلاف بين النصوص القرآنية وبين مبادئ حقوق الإنسان، فينبغي أن يلتزم المسلمون بتلك النصوص، ولا يلتفتون إلى أي نص آخر مخالف. وفي إطار النصوص القرآنية فلم يثبت لدى الجميع وجود نصوص تخالف مبادئ حقوق الإنسان إلا ما جاء في تأويل بعض النصوص القرآنية التي سيجري الحديث عنها في هذه المقالة.
أما الأحاديث النبوية، وهي المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، فهي ليست كلها قطعية الصدور عن الرسول (ص) بل بعضها قطعي الصدور، وبعضها محتمل الصدور، وبعضها مشكوك في صدوره. وهو ما يعبر عنه في علم الحديث بـ(الأحاديث المتواترة) أي الأحاديث التي يستحيل فيها الكذب على رسول الله. وبـ (الأحاديث الأحادية) وهي الأحاديث التي يمكن أن يقع فيها الكذب والتزوير على رسول الله. ومن علامات الحديث المزور أن يكون مخالفاً لنص القرآن الكريم، أو لما ثبت في السنة النبوية، أو للعقل، أو ركيكاً غير فصيح، أو يكون إِخباراً عن أمر هام تتوافر الدواعي لنقله، ومع ذلك لم ينقله إلا واحد، أو يكون الراوي مناصراً للحاكم الجائر.
وعلى هذا الأساس؛ فان الأحاديث التي لم يثبت صدورها قطعا عن الرسول (ص) والأئمة المعصومين لا ينبغي اعتمادها في الحكم على الإسلام كونها ليست منسجمة مع الأصول الإسلامية أصلا، وإن جاءت في ضمن الأحاديث النبوية الشريفة. إذ المعروف أن كثيرا من الأحاديث المنسوبة للنبي الكريم هي موضوعة ومكذوبة عليه بدوافع النيل من الشريعة الإسلامية كالأحاديث التي دسها البعض في الشريعة، أو بدوافع سياسية كالأحاديث التي تنسب الفضائل لبعض الصحابة، وتذم بعض الصحابة، فهي لا تمت للإسلام بشي، وإن جاءت في كتب الأحاديث.
وأما ما يٌنقل عن رأي علماء المسلمين واجتهاداتهم الفقهية، فهي وإن كانت تعتمد على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ولكنها تظل موضع أخذ ورد كونها اجتهاد يعبر عن رأي المجتهد، وقد يتفق معه علماء المسلمون أو يختلفوا فيها. وبناء عليه لا ينبغي أخذها كونها نصا مقدسا يعبر عن الإسلام، بل هي رأي في الإسلام قد يكون صحيحا وقد يكون خطأ. وهو موضوع قابل للنقاش والتصحيح مادام يعبر عن اجتهاد ونظر.
وأما ما يتعلق بالتقاليد الشعوب الإسلامية وعاداتها التي بعضها يعارض مبادئ حقوق الإنسان، فبعضها قد يكون مرجعها الأحاديث النبوية أو اجتهادات العلماء، أو رأي الطوائف الإسلامية، وقد لا يكون مرجعها ذلك، بل هي عادات وتقاليد توارثتها الشعوب الإسلامية، وجعلتها أساسا لتنظيم علاقاتهم الاجتماعية والشخصية، وبعضها يتلاءم مع مبادئ حقوق الإنسان وبعضها لا يتلاءم، ولكن تظل حاكمة ومؤثرة، حتى لو كانت تتعارض مع نصوص الشريعة القطعية، ولا يمكن تجاوزها ما لم تتغير المفاهيم والثقافة العامة للمجتمع. وعليه؛ فنسبة عادات المجتمعات الإسلامية وتقاليدهم إلى الإسلام ليست نسبة صحيحة، فربما تكون هذه التقاليد قد نشأت بفعل رأي عالم من علماء الدين، أو نتيجة ظروف ما فأضحت تقليدا محكما يصعب تركه، فتأصلت مع السنين حتى صارت كأنها جزء من الدين.
وإذا ما عرفنا أن منتقدي الشريعة الإسلامية من أنها لا تعنى بحقوق الإنسان بل هي تقف في بعض أحكامها بالضد من حقوق الإنسان المعلن عنها في الإعلانات والمواثيق الدولية، لم يميزوا بين المصادر الإسلامية قطعية الصدور عن الله عز وجل وعن رسوله الكريم، وبين ما هو غير قطعي الصدور عن الرسول (ص) أو ما يصدر من آراء واجتهادات للعلماء أو ما تعارف عليها المجتمع الإسلامي من تقاليد وعادات أضحت راسخة يعتقد أنها تعد مخالفة لمبادئ حقوق الإنسان، فإن أهم الانتقادات التي وجهت للشريعة هي تمييز الشريعة ضد المرأة: على سبيل المثال، تنال المرأة نصف نصيب الرجل في الميراث، وبينما يمكن للرجل أن يتزوج حتى أربع زوجات، تقتصر المرأة على زوج واحد فقط. وأن قانون العقوبات في الشريعة يفرض عقوبات قاسية ولا إنسانية، مثل بتر الأيدي بتهمة السرقة؛ بتر اليدين والقدمين أو الصلب لقطع الطريق والتمرد؛ الرجم بتهمة الزنا؛ والجلد العلني المخزي لشرب الخمر والقذف والزنا وغير ذلك من الجرائم. وأن الشريعة تجيز الرق، وأيضاً تحد من حرية الأقليات الدينية.
هذه الإشكالات وغيرها التي تطرح بين الفينة والفينة في المنتديات الفكرية والمؤتمرات الدولية، وتشكك في عناية الإسلام بحقوق الإنسان وتفضل النصوص الدولية المعاصرة كونها أكثر وضوحا وأعمق دلالة من النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة، رغم أنها ردت في أكثر من مرة، ولكنها انصافا لم تحض بالاهتمام المطلوب لدى جميع علماء المسلمين، فانعكس ذلك سلبا على الفئات الاجتماعية الأخرى ممن ليس له إطلاع على الدين أو على النصوص الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، حتى أضحت الإشكالية بين المسلمين أنفسهم بين من يرى أن الإسلام دين الإنسانية وبين من يرى أن الإسلام لم يراع حقوق الإنسان بل انتقص منها في عدة مجالات، ومنها ما ذكرناه.
لا شك أن الشريعة الإسلامية تتميز عن قوانين حقوق الإنسان من حيث أن واضعها هو الله عز وجل، وهو أعلم بشؤون عباده، وهو أدرى بالمشكلات والحلول المنطقية والواقعية التي يمكن أن يعتمدها المسلمون في حال حصول تلك المشكلات والتحديات، سواء أدركنا تلك الأحكام أو لم ندركها، وسواء طبقناها أو لم نطبقها، ولا ينبغي أن نحول عنها إلى ما يناقضها أو يختلف معها. ولكن أيضا ليس كل ما نسب إلى الشريعة الإسلامية من أحكام وعقائد ومعتقدات هي بالفعل من تشريع الله عز وجل، بل بعضها من صنع البشر - قاصدا أو غير قاصد- أضحت مع الزمن حكما شرعيا لا يمكن مخالفته.
وفي ذلك يرى بعض الباحثين أن الشريعة الإسلامية، علـى الرغم من أنها أتت بمبادئ كلية وعامة تقر مبدأ حرية المعتقد، وتحافظ على المساواة بين الناس، على الرغم من هذه المبادئ العامة، فإن الدارس يصطدم ببعض الجزئيات التي لا يمكن غض الطرف عنها، أو القيام بلـي رقـاب النصوص والقول بأن أحكام الشريعة الإسلامية تتطابق مع المبادئ العالميـة لحقوق الإنسان، ويرجع هذا الإشكال إلى مسألة تعد في غاية من الأهمية، ولا نجد الفقهاء المسلمين يعطوها أهمية في دراساتهم، وهي اختلاط الشريعة بالفقه. فمنذ بداية نشوء الفقه، والذي هو اجتهاد بشري لتوضيح أحكام القرآن والسنة، أو استنباط أحكام جديدة منها عن طريق القياس، نجد هذا الاجتهاد البشري قد اختلط وعـن إرادة متعمـدة بـدوافع إيديولوجية وسياسية واقتصادية بأحكام الشريعة كما وردت في القـرآن، فأصبح من الصعوبة بمكان أن يفرق الباحث بين أحكام الله واجتـهادات البشر.
وفي هذا الإطار؛ ينبغي أن نفرق بين موقف الإسلام من قضية حقوق الإنسان، وهو موقف حضاري متميز وداعم لهذه الحقوق، وبين الواقع الذي يعيشه الإنسان في كثير من البلاد العربية والإسلامية، ولا بد أن نعترف في شجاعة بأن وضع حقوق الإنسان في عدد من البلاد الإسلامية ليس نموذجاً لما جاء به الإسلام، ولا بد أن نعترف بأن دولاً إسلامية وعربية عديدة لا تحترم الكثير من حقوق الإنسان وتميل إلى إساءة استخدام السلطة بأعمال مختلفة وممارسات متنوعة وهو ما يرفضه الإسلام.
ومع ذلك لا ينبغي أن يركن المسلمون إلى ما جاءت به الإعلانات الدولية لحقوق الإنسان وكأنها قواعد قانونية مسلمة لابد أن نكيف حياتنا على أساسها، فليست بالضرورة كل ما جاء في هذه الإعلانات والمواثيق يوافق النصوص القطعية للدين، أو يوافق العادات والتقاليد السليمة الموروثة التي يعتقد أهلها أنها أفضل من أي إعلان أو وثيقة قانونية، كما أن بعض ما يرد من حقوق وحريات في تلك الإعلانات الدولية له جوانب فلسفية وسياسية واقتصادية قد لا تلاءم حياة بعض الشعوب والطوائف.
وبناء على ما تقدم نخلص إلى ما يأتي:
1. إن الله مصدر التشريع في الإسلام، وأن الله من خلال الدين الإسلامي جعل الإنسان محور اهتمامه وكرمه على سائر المخلوقات بالعقل والحكمة والمعرفة، ووفر له سبل العيش الكريم، وسخر له ما في الأرض، وجعله خليفة ليعمرها ويخرج خيرها ليعم على جميع البشر دون تمييز أو استثناء.
2. كل ما جاء في قرآن الكريم وفي السنة النبوية من أحاديث صحيحة هي مبادئ وأصول وأحكام تعنى بحقوق الإنسان وتكرمه، ولا يمكن أن نجد نصا قرآنيا أو حديثا نبويا صحيحا إلا وكان معبرا ومؤكدا وظاهرا لحقوق الإنسان وحرياته.
3.لا ينبغي أخذ آراء العلماء واجتهاداتهم أو تقاليد الناس وعاداتهم من أنها مصدر من مصادر التشريع الإسلامي وهي غير قابلة للنقاش والرد، مهما ترسخت وتجذرت في المجتمع الإسلامي، بل هي في الواقع قابلة للنقاش والأخذ والرد، وهذا ما يفعله علماء المسلمون من بيان آرائهم واجتهاداتهم إزاء العلماء والمفكرين الذين سبقوهم.
4. لا ينبغي للمسلمين أن يأخذوا ما جاء في الإعلانات الدولية من حقوق وحريات من المسلمات، وأن يغيروا مبادئ الدين أو يدعون إلى تغييرها اعتمادا على ذلك، فليس كل ما جاء من نصوص في تلك الإعلانات هو يمثل في الواقع حقوق وحريات الناس، بل ربما يصطدم بعض هذه النصوص مع المبادئ الإسلامي القيمة وفطرة الله التي فطر الناس عليها.
5. إن غاية الإسلام من تشريع الحقوق والحريات هي إصلاح الفرد وتوجيهه نحو الفضيلة كي لا تطغى شهوته ومطامعه على عقله. وإصلاح الأسرة وذلك بكل الحقوق والضمانات التي تجعلها أسرة تعيش حياة هانئة في مجتمع سليم. وإصلاح المجتمع بإقامة علاقة أفراده على أساس من العدل والمساواة والتكافل. وهذا المضمون الإنساني العظيم تفقده الإعلانات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
اضف تعليق