ما هي الكرامة الإنسانية؟ وهل (الكرامة الإنسانية) هي جزء من حقوق الإنسان؟ أم هي الأصل الذي بنيت عليه مفاهيم حقوق الإنسان؟ وسواء كان الجواب الأول أم الثاني كيف نظر الإسلام إلى مفهوم (الكرامة الإنسانية)؟ وماهي الإشارات الدالة على اهتمام الإسلام بهذا المفهوم، كمرتكز أساسي من مرتكزات الإنسان...

كثيرا ما يرافق مصطلح (الكرامة الإنسانية) مصطلحات حقوق الإنسان الأخرى، بل تأتي الكرامة -في الغالب- في مقدمة الإشارة إلى حقوق الإنسان في العديد من الإعلانات والمواثيق الدولية. فعلى سبيل المثال جاء في ديباجة الإعلان الدولي لحقوق الإنسان (لمّا كان الإقرار بمـا لجميـع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وغير قابلة للتـصرف، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم).

كما تنص المادة (1) من الإعلان على أن (يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق) وجاء مفهوم الكرامة أولاً في بداية ميثاق الأمم المتحدة، حيث نقرأ: (نحن شـعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا. وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية) والكرامة مبدأ أساسي في الدساتير الوطنية وأحكام القضاء الوطني في بلدان كثيرة.

والسؤال هنا ما هي الكرامة الإنسانية؟ وهل (الكرامة الإنسانية) هي جزء من حقوق الإنسان؟ أم هي الأصل الذي بنيت عليه مفاهيم حقوق الإنسان؟ وسواء كان الجواب الأول أم الثاني كيف نظر الإسلام إلى مفهوم (الكرامة الإنسانية)؟ وماهي الإشارات الدالة على اهتمام الإسلام بهذا المفهوم، كمرتكز أساسي من مرتكزات الإنسان الحضاري؟ وماهي هي مظاهر التكريم الإلهي للإنسان والإنسانية جمعاء؟

تعني (الكرامة الإنسانية) أن الإنسان بفطرته وبطبعه عزيز وشريف، وينبغي تقديره واحترامه، ولا ينبغي لأي أحد أن يذله أو يهينه أو يقلل من احترامه، بأي شكل من الأشكال، مهما كانت الأسباب، ومهما كانت الظروف. فالكرامة الإنسانية هي قيمة ذاتية، تجعل الإنسان يشعر كونه مخلوق عزيزا ومحترما. وكل شيء يقلل من كرامة الإنسان هو يتناقض مع مبدأ العزة والشرف والاحترام، مثل: التعذيب والشتم والمعاملة المهينة. وفي المقابل فان الإنسان المتمتع بهذه القيمة الجوهرية يجب أن يحترم كرامة الآخرين، منطلقاً بتصرفاته منها، ومحترماً لها في كل معاملاته.

وليس ثمة شك أن الكرامة الإنسانية لا تتأثر بأي قيمة اعتبارية أخرى، إن وجدت وجد الكرامة الإنسانية، وإن انعدم تخلفت الكرامة الإنسانية، أي أن الكرامة الإنسانية تظل قائمة لدى الإنسان بغض النظر عما يملكه من جاه أو مال أو ولد، أو ما يتمتّع به من صفات جسمية أو عقلية، أو ما يتصف به من مواهب وخبرات.

أما القول إن (الكرامة الإنسانية) هي جزء من حقوق الإنسان أم هي القاعدة التي تعتمد عليها حقوق الإنسان كلها؟ فبالنظر إلى كثرة استخدام مصطلح (الكرامة الإنسانية) ومرافقته لمفاهيم حقوق الإنسان، فهناك من يرى أن (الكرامة الإنسانية) هي أصل وقاعدة ومنطلق حقوق الإنسان، بمعنى أنه لا يمكن الحديث عن حقوق الإنسان ما لم يحضر مفهوم (الكرامة الإنسانية) فمن دون اعتماد مبدأ الكرامة لا يمكن الحديث عن أي حق للإنسان، وجميع حقوق الإنسان من دون مبدأ الكرامة هي حقوق شكلية ووهمية لا يقصد بها إلا الإمعان بإذلال الإنسان وأهانته.

بينما يتعامل بعض المهتمين بحقوق الإنسان على أساس أن (الكرامة الإنسانية) هي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان ويربطها -في العادة- بمبدأ المساواة. ونحن نميل إلى أن (الكرامة الإنسانية) ليست حقا من الحقوق، بل هي الأصل الذي تقوم عليها جميع الحقوق، فهي قرين كل حق وشريك معه، فلا يمكن أن نتصور حق الحياة بلا كرامة للإنسان، ولا يمكن أن نتصور حق الرأي من دون كرامة للإنسان، ولا يمكن أن تصور حق المساواة من كرامة للإنسان.

وفي الإسلام تحظى (الكرامة الإنسانية) بالأهمية الكبرى كونها الأساس المتين الذي تعتمد عليه التشريعات الإسلامية في التعامل مع الإنسان كانسان، وذلك استنادا إلى قوله تعلى ﴿لقد كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ فالإنسان خُلق مخلوقًا مكرمًا، وهذه الكرامة هبة من الله عز وجل لا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يسلبها منه.

ومن مظاهر الكرامة الإنسانية والحرية البشرية أن جعل الإيمان بالله أمرًا خياريًا لا أمرًا مفروضًا، فقال ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ وأيضًا قوله: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ وأكد القرآن الكريم أن الإنسان مخلوق كريم على الله، فقد خلق آدم بيديه، ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة، تكريماً للإنسان، وجاء ذلك في حوار بديع، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ثم أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم تعظيماً، واحتراماً له؛ لأنّ الإرادة الإلهية تعلقت باختياره، فقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ *فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ *فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ *إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾

ومن مظاهر التكريم الإلهي أن سخر الله للإنسان كل ما في السماء والأرض، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} وصرّح القرآن الكريم بأنّ الله تعالى خلق الأنعام، وملَّكها للإنسان، ثم ذلّلها له للركوب، والأكل، والمنافع، والمشارب، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ، وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ}.

وفي مجال تعزيز مبدأ الكرامة الإنسانية حث الإسلامُ الناسَ جميعاً إلى البِرِّ، والرحمة، والإخاء، والمودة، والتعاون، والوفاق، والصدق، والإحسان، ووفاء الوعد، وأداء الأمانة، وتطهير القلب، وتخليصه من الشوائب، كما دعا إلى العدل والمسامحة والعفو، والمغفرة والصبر والثبات، ودعا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحَثَّ على النصيحة وغير ذلك من مكارم الأخلاق والفضائل، والأخلاق الفاضلة تزين الإنسانيةَ، وتُعلي شأنها، وتُنسق بين أفرادها، وتصون العلاقات الجماعية، وتوجيهها إلى الخير والكمال، لتصوّر الحياة البشرية في أجمل صورها، وأحسن أحوالها، وتتجنّب الرذيلة، والفساد الخُلُقي والاجتماعي.

ومن لوازم حق الكرامة ومتطلباتها أن يحترم الإنسان كرامة الآخرين وألاّ يُؤذى إنسانٌ بآخر في حضرته، وألاّ يهان في غيبته، سواء كان هذا الإيذاء بالجسم، أم بالقول، فكما حرم الإسلام الإيذاء البدني، حرّم الإساءة اللسانية أيضًا من الهمز، واللمز، والتنابز بالألقاب، والسخرية، والغيبة، والشتم، وسوء الظن بالناس، وما إلى ذلك من المعاملات المهينة الشنيعة.

ولكن مع أن القرآن نصّ على منح الكرامة من الله تعالى لعموم بني آدم يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ إلا أن بعض علماء المسلمين قال بتجزئة الكرامة الإنسانية، وأنها خاصة بالمسلمين، فغير المسلم لا يشمله التكريم، وتضيق الدائرة أكثر بتخصيصها بالمؤمنين أي أتباع المذهب فقط، وما عداهم من المخالفين والمبتدعة، لا ينطبق عليهم عنوان التكريم، وتستباح بعض حقوقهم المادية والمعنوية. والحال أن الآية الكريمة صريحة واضحة في شمولية تكريم الله لبني البشر جميعا، وهذا ما أكده بعض المفسرين للآية الكريمة، وما ذهب إليه غالبية المفسرين المـتأخرين، ومنهم الإمام محمد الشيرازي.

حيث يرى الشيرازي أن الأساس المتين لتطوير مبادئ الحقوق والحريات هو مبدأ (التكريم الإلهي) للإنسان، ودون هذا المبدأ لا يمكن الحديث عن الحقوق ولا عن الحريات قط، بل يكون الحديث دعاية فارغة، يتلهى بها الناس ولا يحصلون على نتائج مضمونة. وأن الإنسان كائن مستحق للتكريم الإلهي، منذ الخلق الأول، وكائن له قيمة في الحياة بما يقوم به من دور إنساني واجتماعي بنّاء يساهم في البناء الحضاري، ويحقق السمو للنوع البشري، وإذا تخلف هذا الإنسان عن أداء دوره المنوط به فإنّه يفرط بذلك التكريم وينحدر إلى مرتبة دنيا، كما دل قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ *إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).

ليس هذا وحسب، بل ما يفرط به الإنسان، لا يفرط به الله تعالى، ولا قانونه الإلهي، ولا المنهج الإسلامي في الحياة، بل تبقى للإنسان كرامته الإلهية التي تفرض معاملته كإنسان بغض النظر عن انتماءاته الأخرى؛ لان الأصل في الإنسان هي الكرامة ودونها الاستثناء.

ويقول المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه احترام الإنسان في الإسلام: فإن من أهم الأمور التي أكد عليها الإسلام تأكيداً بالغاً، هو احترام الإنسان بما هو إنسان، مع قطع النظر عن لونه ولغته وقوميته ودينه ورأيه، فالإسلام يؤكد على احترام كل الناس حتى إذا كانوا كفاراً غير مسلمين؛ لأن الإنسان بما هو إنسان محترم؛ وأن احترام الإنسان متدرج يبدأ من احترام الإنسان لذاته، وفي دائرة أوسع احترام الإنسان في داخل الأسرة باعتبارها الدائرة الأقرب للإنسان فإن حسن التعامل والاحترام في هذه الدائرة مهم جداً بالنسبة للإنسان وللأسرة التي ينتمي إليها.

وخلاصة القول يمكن أن نتوصل إلى النتائج الآتية:

1. إن الكرامة الإنسانية بما تعني من عزة واحترام وتقدير للإنسان هي قاعدة أساسية لا تقوم عليها مبادئ حقوق الإنسان وحسب، بل تقوم عليها كل مبادئ وأصول الأديان السماوية، ومنها الدين الإسلامي.

2. إن الكرامة الإنسانية متحققة لكل إنسان، كائنا من يكون، ولا فرق بين الغني والفقير، وبين الرجل والمرأة، وبين المسلم وغير المسلم، وبين الصحيح والمعاق، وبين البصر والأعمى، فالكل يتمتعون بالكرامة، وهي غير قابلة للتنازل، ولا قابلة للتجزئة.

3. إن الإسلام أكد على الكرامة الإنسانية وبين مظاهرها وسبل تحقيقها، وعد كل حق لا يقوم على كرامة الإنسانية إنما هو دعاية فارغة لا حقيقة لها، ودعا المسلمين إلى التعامل مع بعضهم ومع غير المسلمين على أساس هذه الكرامة.

.......................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق