العاشر من كانون الأول في كل عام هو يوم حقوق الإنسان العالمي، ومناسبة تتبارى فيها الحكومات بمختلف اتجاهاتها ومشاربها السياسية بالحديث عما حققته في مجال حقوق الإنسان لشعوبها والشعوب الأخرى. ومن باب تأكيد المؤكد، فإنه لا توجد دولة من دول العالم الثالث، لم تتعرض لظلم...
العاشر من كانون الأول في كل عام هو يوم حقوق الإنسان العالمي، ومناسبة تتبارى فيها الحكومات بمختلف اتجاهاتها ومشاربها السياسية بالحديث عما حققته في مجال حقوق الإنسان لشعوبها والشعوب الأخرى. ومن باب تأكيد المؤكد، فإنه لا توجد دولة من دول العالم الثالث، لم تتعرض لظلم أو لعدوان غاشم، دبروا الاغتيالات السياسية للزعماء والمناضلين، واستخدموا وسائل الإعلام في تشويه الحقائق والأشخاص البارزين، وقتلهم معنويا قبل الإجهاز ماديا بالحصار الاقتصادي والتجويع، وربط المساعدات بالشروط المنتهكة للسيادة والقانون وأعراف الأخلاق، إنهم يوميا يلقون علينا المحاضرات في كيفية الحفاظ على إنسانية البشر وحقوقهم.
وفي هذا التباين السياسي العالمي تبرز للعلن سياسات واشنطن ومن معها ممن يرفعون زوراً وبهتاناً شعارات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، حيث أصبح القاصي والداني يعرف أن واشنطن وباريس ولندن ومن على شاكلتها، لم تكن يوماً من الأيام مناصرة للإنسان وحقوقه، بل إنها انتهكت هذه الحقوق في عقر دارها قبل دار الآخرين، حيث أصبحت العنصرية سيدة الموقف اليوم في الشوارع الأمريكية والأوروبية، وراحت الشعبوية تنتشر مثل النار في هشيم المجتمعات الغربية، نتيجة للسياسات العنصرية المتطرفة التي ينتهجها الكثير من ساسة الغرب ومسؤوليه، وترامب المنهزم أنموذجاً.
أما في الساحات الخارجية ومنها منطقتنا، فقد تنكرت الإدارات الأميركية والحكومات الأوروبية المتعاقبة بثوب الإنسانية، وراحت تستثمر في الإرهاب والتطرف لتحقيق سياساتها العدوانية ضد مجتمعاتنا ودولنا ضاربة عرض الحائط بجميع القوانين الدولية، ومبادئ حقوق الإنسان التي تجرم التدخل في شؤون الآخرين تحت أي مسمى.
لقد أكدت مقدّمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، على الأهمية القصوى للاعتراف بكرامة الإنسان وتساوي البشر في حقوقهم، والتشدّد على مخاطر تجاهل حقوق الإنسان وإغفال الحريات المرتبطة بها، مذكرة بالأعمال الهمجية التي شهدها التاريخ الإنساني جرّاء ذلك التجاهل والإغفال، ومبرزة إيمان شعوب الأمم المتحدة بهذه الحقوق والحريات وتعهدها بالعمل على تأمين احترامها.
أما مواد الإعلان الثلاثين الأخرى فتتعرض إلى مجموعة متنوعة من حقوق الإنسان، تمتدّ من الحقوق الفردية والشخصية: الحق في الحياة، المساواة، الحرية، الأمن، تحريم الرق والتعذيب والعقوبات الوحشية، الضمانات الواجب توفرها في أثناء التوقيف والمحاكمة، إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى الضمان الاجتماعي، وحق العمل واختيار نوعه، والحق في تأليف النقابات والحق في الراحة وتحديد ساعات العمل والعطل الدورية المأجورة والحق في التربية، مروراً بالحقوق والحريات المرتبطة بعلاقة الفرد بالجماعة والمجتمع بالدولة، والحق في الجنسية والحق بتغييرها، حق الرجل والمرأة في الزواج دون قيد، وحق اللجوء والتنقل، وحق التملّك، والحقوق الأساسية والحريات العامة وحرية الفكر والمعتقد والدين، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتماعات وإنشاء الجمعيات، والمشاركة في الشؤون العامة، وحرية الانتخابات والتساوي في التوظيف، والحق في نظام اجتماعي ودوري يحقق ما ورد في الإعلان، وحدود ممارسة هذه الحقوق. وعدم جواز تفسير مواد الإعلان بشكل يقود إلى منح أية دولة أو جماعة أو فرد الحق في القيام بعمل يرمي إلى تقويض الحقوق والحريات التي نصّ عليها، وينتهي الإعلان بأحكام عامة يشوبها الغموض وعدم الوضوح.
عندما تقرأ المواد التي تضمنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تتمايل طربا عند سماعها، وأنت تتنقل بين مادة وأخرى، كلمات رنانة تتحدث عن قيم العدل والمساواة والحرية، عبارات تشرح الفوائد عن حقوق الدول والإنسان امرأة كانت أم طفلا... لكن يظل السؤال الأهم هو ما مدى التزام الحكومات وبخاصة الولايات المتحدة والدول الغربية الكبرى بتطبيق هذه المواد في الواقع العملي؟
اليوم الولايات المتحدة وبحجة دعم حقوق الإنسان تثير الفتنة في العراق وليبيا وفنزويلا وبوليفيا ولبنان وسورية أو حتى في الصين، الأمر الذي يقصد منه التدخل في شؤون الصين الداخلية ومحاولة تفتيتها كي لا تصبح القوة الأولى في العالم. وكذلك تدخل الولايات المتحدة بحجة دعم الأكراد في شمال العراق وشمال شرق سورية، إذ وضعت أيديها على النفط السوري وتدخلت في شؤون البلد في محاولة منها لتقسيم البلاد، كما قام الناتو بقصف ليبيا خارج إطار الشرعية الدولية، والأمم المتحدة. بهذا المعنى، فإنّ الغرب ما زال يستخدم مفهوم "حقوق الإنسان" كأداة من أدوات التدخل في شؤون الدول المناهضة لسياسات النهب الاستعماري بهدف إضعافها والسيطرة على مواردها، أو احتلال موقع جغرافي، أو لنهب النفط، أو لحرمان السكان الأصليين من حقهم في إدارة البلاد كما حدث مؤخراً في بوليفيا وفنزويلا.
لقد استغلت الدول الكبرى الغربية "إعلان حقوق الإنسان" كوسيلة للسيطرة والابتزاز، وهي ورقة الضغط المفضلة لدى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وأدواتها من أجل التدخل في الشؤون الداخلية للدول الممانعة للمشاريع الاستعمارية، ومصادرة قرارها الوطني وتحطيم أية محاولة للانعتاق من التبعية بكافة أشكالها... لقد انعدمت الرؤية عند أصحاب القوة، فلا اعتراف بشيء أساسي للبشر وهو حق البقاء، إسرائيل تقتل وأميركا تقتل والغرب يقتل، أو على الأقل يقف شاهد زور، يصم أذنيه ويقطع لسانه ويفقأ عينه، لم ير ولم يسمع، عن تلك الممارسات الإجرامية بحق البشرية، عن ارتكاب أفظع الشرور في إبادة للجنس البشري، عن تدمير البنى التحتية للشعوب الضعيفة، عن التطهير العرقي، عن استعمار في كل أشكاله المختلفة، يمارس نهجا يتجاوز كل جرائم الحرب، وارتكاب المجازر بحق البشر المسالمين.
وإلى حدّ الآن فإن الدول الغربية هي التي تقرّر أين يُساء إلى حقوق الإنسان، ومن هي الدول التي تلتزم بها، حتى وإن كان هذا القرار يجافي الواقع إلى حدّ بعيد. وإذا ما قررت هذه الدول الغربية أن تتجاهل انتهاكات وإساءات الدول "الصديقة" أي التابعة لها إلى حقوق الإنسان، فإنه لا يجرؤ أحد من السياسيين والإعلاميين على انتقاد أو ذكر هذه الإساءات والانتهاكات، وإذا تجرّأ أحد على فعل ذلك فسوف ينال نصيبه من العقاب من هذه الدول الغربية، وأكبر مثال على ذلك هو الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لحقوق الإنسان الفلسطيني في فلسطين المحتلة ولحقوق الإنسان في الجولان العربي السوري المحتلّ، إذ إن هذه الانتهاكات تحاول أن تطمس هوية المكان والشعب، وأن تستبدل هذه الهوية بالهوية التي ينسجها الكيان الصهيوني على هواه ليثبت زوراً وبهتاناً يهودية هذه المنطقة، وليحرم السكان الأصليين من حقهم التاريخي في هذه الأرض، ويرافق هذا العمل الذي يقوم به الكيان الصهيوني اقتلاع الأشجار، وتدمير البيوت، وتهجير السكان، وتدمير المساجد والكنائس، وطرد السكان الأصليين، وحرمانهم من حقوقهم المدنية ومن التعليم ومن لعب دور في السياسة، ومن العودة إلى القدس وإلى أماكنهم التاريخية، كما يشمل هذا في الجولان العربي السوري المحتل محاولة تغيير طبيعة الجولان العربي السوري المحتلّ، وتجريف آثاره، وبناء المستوطنات في فلسطين والجولان، واستقدام المستوطنين والمهاجرين ليحلّوا مكان السكان الأصليين.
إنّ المرحلة التي يواجهها العالم اليوم هي مرحلة خطيرة ناجمة عن استفراد القطب الواحد بتعريف وتطبيق الشرعية الدولية، وتعريف وتطبيق حقوق الإنسان في جميع بلاد العالم. والمؤكد أنّ الضمير الوطني في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا قد ضاق ذرعاً بهيمنة الولايات المتحدة وعبثها ببلدان العالم، وعدم احترامها للدول المستقلة، ولسيادة هذه الدول، ولحضارة وحرية هذه الحكومات في إدارة شؤون بلدانها، وكأنّ الغرب يضع نفسه حكماً على البشرية جمعاء بأسلوب لا يخلو من النظرة العنصرية إلى الآخرين، ولهذه الأسباب وغيرها، فشعوب العالم تتطلّع إلى قيادة مختلفة للعالم تلبّي طموحاتهم، وتحترم سيادتهم واستقلالهم وتعترف بندّيتهم ومشاركتهم في بناء هذا الكوكب.
ولا شكّ أن روسيا والصين تحاولان جاهدتين إعادة تشكيل قطبين أساسيين يحدّان من هيمنة القطب الواحد. وكلّما قامت روسيا والصين بخطوة حقيقية في هذا الاتجاه، كالت إليهما الولايات المتحدة العقوبات في محاولة منع تقدمهما في هذا المسار، هذا الأسلوب لا مستقبل له، بل هو مرفوض من الضمير العالمي ومن قبل معظم دول العالم، وما يتحدث به ضمير الناس اليوم بصدق وشفافية لا بدّ أن يشكّل واقعاً في عالم الغد، ولهذا أتوقع أن تتوالى الجهود واللقاءات والمناقشات مترافقة مع الخطوات الاقتصادية والسياسية الجبارة التي تقوم بها الصين وروسيا والهند... في مواجهة هيمنة القطب الواحد.
خلاصة الكلام: ونحن نودّع جائحة كورونا، ونستشرف ما بعد كورونا، نرى بشائر تجمع عالمي لكسر هيمنة القطب الواحد ولولادة عالم متعدد الأقطاب يسود فيه الاحترام المتبادل والندّية للدول والشعوب، وتنتفي به محاولات الهيمنة على موارد الشعوب وعلى بلدانها والتدخل في شؤونها.
اضف تعليق