إن المعيار الحقيقي لتقدم أية أمة أو شعب أو مجتمع أو دولة يكمن في مدى احترامها لحرية التعبير باعتبارها محوراً اساسياً في قضية حقوق الانسان، وهو المعيار الذي تقاس به صدقية الامم والشعوب والمجتمعات والدول، اضافة الى الحركات والاحزاب والجماعات السياسية في السلطة او من معارضاتها...
اذا كان الاصلاح والديمقراطية اهم التحديات التي تواجه العالم العربي ومستقبله، فإن الابرز والاهم والاكثر تأثيراً في هذه المسألة الجوهرية هو موضوع الحريات وفي القلب منها حرية التعبير، ولا يمكن الحديث عن الاصلاح والديمقراطية دون توفير الحد الادنى من الحريات الاساسية وهذه هي:
1- حرية التعبير او ما يطلق عليه "حق التعبير" والرأي والنشر والكلام، اي من حق كل انسان ان يعبّر بحرية عن رأيه ويعمل على نشره والدعوة اليه دون تضييق او محاسبة ووفقا للقوانين والانظمة السائدة التي تكفل وتنظم الحرية وفي اطار المعايير الدولية لحقوق الانسان.
2- حرية او حق الاعتقاد والمقصود هنا حرية الانسان في اختيار ما يشاء من العقائد على الصعيد الفكري والسياسي والديني والاجتماعي، وأن يستبدلها وفقاً لعقله وقناعاته.
3- حرية او حق تأسيس الاحزاب والجمعيات والنقابات، اي الحق في التنظيم الحزبي والنقابي والمهني، بما يضمن للافراد حقهم في انشاء الجمعيات التي تعبر عن ارائهم ومعتقداتهم والوسائل المناسبة لذلك.
4- حرية او حق المشاركة في ادارة الشؤون العامة، وهو حق أصيل من حقوق الانسان، لا يستقيم السلام الاجتماعي بدونه ولا تتحقق الديمقراطية باهماله، وهذا الحق يقضي بتحقيق المساواة في تولي المناصب العليا دون تمييز لأي سبب كان.
وردت حرية تبادل الافكار والآراء في " اعلان حقوق الانسان والمواطن" الذي صدر في فرنسا في 26 آب (اغسطس) 1789 بعد الثورة الفرنسية التي حددت أركاناً أربعة لحقوق الانسان أطلقت عليها اصطلاح " الحقوق الثابتة" التي تتلخص بـ: 1- الحرية 2- الملكية 3- الامن 4- مقاومة الظلم.
واحتوى الاعلان الصادر عن الجمعية التأسيسية على 17 مادة، وفيما يتعلق بحرية التعبير أكد على انها " تقوم على حق ممارسة كل عملٍ لا يضرُّ بالاخرين" و " لا يجوز ازعاج أحد بسبب آرائه بما فيها الدينية " معتبراً حرية الفكر والرأي من أثمن الحقوق الانسانية، مؤكداً على حق كل مواطن ان يتكلم ويكتب ويطبع بحرية، على أن يكون مسؤولاً عن إساءة استعمال هذا الحق في الاحوال المحددة في القانون، وهو ما اكدّه الدستور الفرنسي الصادر في 24 حزيران (يونيو) 1793 ، وكان فولتير قد عبّر عن فلسفة الثورة الفرنسية خصوصاً في موضوع حرية التعبير عندما قال " قد اختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن ادفع حياتي دفاعاً عن حقك في التعبير عن رأيك".
واذا اردنا العودة الى بعض المفاصل التاريخية ففي القرآن الكريم تردُ العديد من النصوص (الآيات) التي تؤكد حرية المعتقد والرأي فقد ورد في سورة البقرة " لا إكراه في الدين" وجاء في سورة الكهف " قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر" . واذا كانت هذه الرؤية الاسلامية قبل اكثر من 1400 سنة فيحق لنا ان نفخر بتعاليم ديننا السمحاء المتسامحة، تلك التي غدت بعيدة الآن عن الممارسات والتطبيقات التي تحاول استخدام إسم الدين والتعكز عليه للتعصب والتطرف والارهاب والغلو في محاولة لتسييس الاسلام وعزله عن التفاعل مع المشترك الكوني والانساني للحضارات والثقافات المختلفة.
ومثلما يفخر الصينيون والهنود بالفلسفة " التاوية" و " الكونفوشيوسية" و"البوذية" بما احتوته من تعاليم متسامحة، فان البريطانيين يؤرخون مساهمتهم في رفد حركة حقوق الانسان بالماغناغارتا 1215 الذي سمي "بالعهد العظيم" حيث أكد على حقوق المواطنين والشعب.
ولعل الامريكان يؤرخون رفدهم لافكار حقوق الانسان بالدستور الامريكي في اواخر القرن الثامن عشر (1776 وما بعدها) وكان روزفلت رئيس الولايات المتحدة قد وجّه رسالة الى الكونغرس في 6 كانون الثاني (يناير) 1941 تحدث فيها عن الحريات الاربعة كهدف سياسي واجتماعي للولايات المتحدة ولشعوب العالم فأجملها بـ: حرية المعتقد والكلام وحرية التعبير (كمقدمة لهذه الحريات) وأضاف اليها التحرر من الفاقة والتحرر من الخوف.
وفي عام 1944 وضع مجموعة من الخبراء والديبلوماسيين من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفياتي والصين قواعد اساسية لمنظمة جديدة ستخلف "عصبة الامم" التي انهارت اثر الحرب العالمية الثانية بعد ان مارست عملها من العام 1919. وأُسميت فيها القواعد الجديدة مقترحات " دومبارتن اوكس" Dumbarton Oask وهو اسم الضاحية القريبة من واشنطن التي احتضنت الاجتماع وستعرف الوثيقة التي تم اعدادها باسم ميثاق الامم المتحدة Charter of The United Nations .
وفي اواخر ايام الحرب اجتمع ممثلون عن خمسين دولة في مؤتمر سان فرانسيسكو في 25 نيسان (ايربل)1945 منها 46 دولة وقعت على تصريح الامم المتحدة في يناير (كانون الثاني) 1942 و4 دول ُقبلت في المؤتمر ونصت المسوّدة التي تم تقديمها لمؤتمر سان فرانسيسكو على اشارة موجزة لحقوق الانسان. وفي الفترة بين 1946 و1948 نوقشت فكرة اصدار اعلان عالمي لحقوق الانسان بمبادرة من حكومة باناما وجاء الاعلان ثمرة تفاعل ونتاج جهد كبير أرّخ لمرحلة جديدة من مراحل تطور البشرية.
يمكن القول ان ميثاق الامم المتحدة نص على مصطلح حقوق الانسان والحريات الاساسية 7 مرات وحصل هذا التحول بفضل ضغوط كبيرة ومنظمة مارسها ممثلو 44 منظمة غير حكومية دُعيت الى المؤتمر بصفة استشارية فما بالك اليوم بوجود مئات وآلاف من المنظمات غير الحكومية المعترف بها دولياً. وشكلت تلك الاشارات منطلقاً اساسياً للاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي ساهم في صياغته العلاّمة اللبناني شارل مالك والبروفسور الفرنسي كاسان والسيدة روزفلت .
نص الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في 10 كانون الاول (ديسمبر) 1948 والذي يعتبر الشجرة التي تفرعت منها غصون كثيرة اقتربت من نحو 100 معاهدة واتفاقية دولية، على حرية التعبير والرأي كركن اساسي من اركان حقوق الانسان، وذهبت المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1966، والذي دخل حيز التنفيذ عام 1976 الى التأكيد على الحق في حرية الفكر والعقيدة والدين.
ونصت المادة 19 (الفقرة الاولى) على ان " يكون لكل انسان الحق في اعتناق الاراء دون ان يناله اي تعرض بسببها" اما (الفقرة الثانية) فقد أكدت على حرية التعبير وحق الاعلام. وذهبت المادة 21 الى تأكيد حق الاجتماع السلمي في حين نصت المادة 22 على حق تأسيس الجمعيات والانتماء اليها.
وفي غمرة الصراع الايديولوجي الدولي إبان الحرب الباردة وفي إطار سياسة الانفراج الدولي نص البيان الختامي لمؤتمر هلسنكي للامن والتعاون الاوروبي الصادر في 1 آب (اغسطس) 1975 والذي وقعته 33 دولة اوروبية اضافة الى الولايات المتحدة وكندا على " احترام حقوق الانسان والحريات الاساسية بما فيها حرية الفكر وحرية الضمير والدين والعقيدة للجميع دون تمييز بسبب العرق او الجنس او اللغة او الدين" كما أكد البيان على حق الانسان في الاعلام. وقد وردت الاشارة الى حرية التعبير والحريات الاساسية الاربعة في اعلان فيينا الصادر عن المؤتمر الدولي لحقوق الانسان في حزيران (يونيو) 1993.
إن حرية التعبير في حياة أي مجتمع هي من الحريات الاساسية، فحتى حق الحياة والعيش بسلام ودون خوف باعتباره الحق الاسمى الذي تليه جميع الحقوق لا يمكن الدفاع عنه دون وجود حرية التعبير، وأي تقدم أو إصلاح أو تغيير ديمقراطي في أي مجتمع سيكون مديناً لحرية التعبير، لأنها البوابة الاساسية التي لا غنى عنها لدخول حلبة الاصلاح وسباق الديمقراطية.
إن حرية التعبير تمهد السبيل للمساهمة في إدارة الشؤون العامة، وكل انتقاص منها يعني الانتقاص من الحق في المشاركة. وإذا قيل قديماً أن الصحافة "صاحبة الجلالة" أو "السلطة الرابعة" بعد السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية فإن هذه السلطة " الاعلامية" تغتني من خلال فضاء حقوق الانسان باعتباره "سلطة خامسة" مكملة ومتممة في اطار حرية التعبير والحريات والحقوق الاخرى.
تقول المادة 19 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الاراء دون اي تدخل، واستقاء الانباء والافكار وتلقيها واذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيّد بالحدود الجغرافية".
إن المعيار الحقيقي لتقدم أية أمة أو شعب أو مجتمع أو دولة يكمن في مدى احترامها لحرية التعبير باعتبارها محوراً اساسياً في قضية حقوق الانسان، وهو المعيار الذي تقاس به صدقية الامم والشعوب والمجتمعات والدول، اضافة الى الحركات والاحزاب والجماعات السياسية في السلطة او من معارضاتها، وكذلك حركات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، التي هي الاخرى بحاجة الى ممارسة شفافة واسلوب ديمقراطي لدعم حرية الرأي والتعبير ليس بالتصادم او بالتساوم ولكن بالتوافق والتشارك كقوة اقتراح مؤثرة وليس قوة احتجاج حسب.
الاصلاح والديمقراطية ينموان ويتعززان بحرية التعبير التي بدونها تبقى الاشياء ناقصة ومشوّهة، فهي التربة الخصبة التي تنشط المجتمع وتعيد اليه عافيته وتساعد في تطوير وازدهار الاصلاح والديمقراطية!.
اضف تعليق