وسارعت لجنة كتابة الدستور إلى تبني النظام إرضاءً لبعض الأحزاب والشخصيات ومع اتفاقنا مع أهمية تبني نظام الفدرالية واللامركزية كحلول لمنع الاستبداد وترسيخ حكم الشعب وتلبية مطالب واحتياجات الجمهور وكمبادئ ديمقراطية لابد منها إلا إن ما تقدم مشروط بضرورة صياغة هذه الأنظمة بشكل محكم يمنع...
تعد الديباجة أو المقدمة أول أجزاء الوثيقة الدستورية، وجزء لا يتجزأ من الدستور في كل الوثائق التي تتصدرها المقدمة أو الديباجة، ولم تنتهج الدساتير العالمية نهجاً واحداً في التعامل مع الديباجة، فمنها ما تضمن إعلاناً يتعلق بالحقوق والحريات كما هو الحال في أغلب الدساتير الفرنسية التي أعقبت الثورة بدءاً من دستور 1791 وحتى الدستور الحالي 1958 الذي تضمنت مقدمته الإشارة إلى اعتبار إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي للعام 1789 جزءاً من هذه الوثيقة الدستورية، وتضمن الإعلان الفرنسي سبعة عشر مادة تتكفل بالحقوق الطبيعية للمواطن الفرنسي وعلى رأسها الحق بالمساواة في المادة الأولى والحرية ومقاومة الطغيان كما تضمن الإعلان مبدأين مهمين في التنظيم الدستوري هما (سيادة الأمة، والفصل بين السلطات)، كما تضمنت المقدمة تبني مقدمة دستور 1946 واعتبارها جزء من هذا الدستور والمقدمة المشار إليها تضمنت العديد من المبادئ المهمة ومنها ضمان الحق في الإضراب -على سبيل المثال- كشكل من أشكال التعبير عن الرأي.
أما الدستور الأمريكي للعام 1787 فلم يتضمن مقدمة طويلة تتضمن مواد قانونية محددة بل كان سرداً يشير إلى أهم الأهداف المتوخاة من الدستور وورد فيه "نحن شعب الولايات المتحدة لكي نؤلف اتحاداً أكثر تكاملاً، ولكي نقيم العدالة ونضمن الاستقرار الداخلي، ونضع أسس الدفاع المشترك، ونزيد من الرفاهية العامة ونصون نعمة الحرية لأنفسنا ولذريتنا من بعدنا نضع ونقيم هذا الدستور للولايات المتحدة الأمريكية"، وبهذا يمتاز منهجان، أحدهما يتضمن مقدمة مطولة لتضمنها مبادئ قانونية محددة والآخر تضمن مقدمة مختصرة إلا أنها معبرة عن الهدف من إقامة الدستور.
وفي الحالة العراقية نجد إن بعض الدساتير وفي مقدمتها القانون الأساسي العراقي للعام 1925 لم يتضمن أي مقدمة أو تصدير في حين تضمن دستور 2005 مقدمة مطولة وتحمل في طياتها مكامن العيب الصياغي فهي لا تكرس أسسا محددة بل تضمنت المقدمة الآتي:
الفقرة الأولى: تذكر بحضارة العراق الضاربة بالقدم وأرثه الديني والثقافي والعلمي.
الفقرة الثانية: تحمل إشارة إلى التطبيقات الديمقراطية عقب إزاحة الحكم الدكتاتوري السابق لاسيما انتخاب الجمعية الوطنية في العام 2005، وتضمنت الإشارة إلى الانتفاضة الشعبانية وجرائم النظام البعثي السابق.
الفقرة الثالثة: تؤكد إن الشعب لم ولن تثنيه الطائفية والعنصرية من السير نحو الوحدة الوطنية والتداول السلمي للسلطة وتبني العدالة في توزيع الثروة.
ثم في الفقرتين الأخيرتين تضمنت المقدمة التأكيد على النظام الجمهوري والديمقراطي التعددي، وتبني العدالة والمساواة ونبذ العدوان والاهتمام بالمرأة وحقوقها والشيخ وهمومه والطفل وشؤونه والتنوع ونبذ الإرهاب، بيد أن المغالطة التي حملها التأكيد على إن الشعب اختار الاتحاد أي النظام الاتحادي أو الفدرالي وللأسف هذا يجانب الواقع لسببين الأول إن العراق دولة موحدة منذ تأسيسها في عشرينيات القرن الماضي، والثاني إن الذي جاء ببدعة الفدرالية هو الحاكم الأمريكي (بريمر) في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية.
وسارعت لجنة كتابة الدستور إلى تبني النظام إرضاءً لبعض الأحزاب والشخصيات ومع اتفاقنا مع أهمية تبني نظام الفدرالية واللامركزية كحلول لمنع الاستبداد وترسيخ حكم الشعب وتلبية مطالب واحتياجات الجمهور وكمبادئ ديمقراطية لابد منها إلا إن ما تقدم مشروط بضرورة صياغة هذه الأنظمة بشكل محكم يمنع التفكير بالاستقلال كما حصل في كردستان في أيلول 2017، ويمنع أن تكون الاتحاد واللامركزية وسيلة من وسائل الفساد والعبث بالمقدرات والثروات الطبيعية المملوكة أصلاً للشعب العراقي كما هو حاصل اليوم.
من كل ما تقدم نقترح إعادة صياغة المقدمة بالشكل الذي يضمن رفع اللغو المتعلق بالتركيز على جرائم النظام السابق فما ارتكب من جرائم خلال السنوات الماضية لا يقل شأناً عن الفظائع السابقة ومن جهة أخرى الأمة التي تريد أن تنهض لا تتباكى على الماضي، بل تنظر بثقة إلى المستقبل ولا تنكا الجروح، بل تلملم الشمل وتركز على المصالحة والتعايش السلمي ويبقى الأمر معقوداً للقضاء ليقتص بهدوء من المجرمين بما يحقق العدل والعدالة، ولهذا نعتقد إن التركيز ينبغي أن ينصب على الآتي:
1- نبذ الطائفية والعنصرية والتزام الدولة بكل مؤسساتها بتجريمها ومحاسبة كل من يروج لها أو يتعامل مع الآخرين على أساسها.
2- تبني الثوابت الوطنية وعلى رأسها وحدة العراق أرضاً وشعباً، وصون السيادة الوطنية، والتداول السلمي للسلطة بالانتخاب والاستفتاءات المقررة بهذا الدستور.
3- الإيمان المطلق بالتعددية بكل صورها وبالخصوص الدينية والمذهبية والأثنية والسياسية والثقافية.
4- التوزيع العادل للثروات الوطنية بكل أنواعها بالتأكيد على ملكية الشعب لها وعدم جواز تفرد أي إقليم أو محافظة بإدارتها أو إخفاء البيانات الحقيقية المتعلقة بها عن الشعب.
5- نظام الحكم في جمهورية العراق جمهوري ديمقراطي إتحادي.
6- النظام الديمقراطي هو الأساس القائم على نيابة مجلسي النواب والاتحاد عن الشعب مع احتفاظ الشعب بالحق في عزل النائب أو تقديم المقترحات والاعتراض على التشريعات أو السياسات التي لا تتلاءم مع مصالحه وتطلعاته.
7- التأسيس لنظام حكم راشد قائم بالأساس على التعاون والتوازن بين السلطات العامة وإنشاء المراكز البحثية المتخصصة والمجالس القومية المتخصصة برسم السياسات والاستراتيجيات الضرورية.
8- التأكيد على التأسيس الصحيح لمجتمع مدني في العراق تقوده الأحزاب والمنظمات غير الحكومية والنقابات والاتحادات.
9- السيادة للشعب العراقي والأخير مصدر السلطات وسبب شرعيتها.
10- سيادة القانون على الجميع أساس الحكم واستقلالية القضاء أساس العدل بين الناس.
11- حقوق وحريات الشعب العراقي مقدسة وعلى جميع السلطات العامة العمل على تأكيد الكرامة الإنسانية للمواطن وحفظ مقتضياتها التي تتفرع عنها.
12- حماية مصالح الأجيال اللاحقة بضرورة ترشيد استهلاك الثروات وإنشاء صناديق الأجيال والاستثمار في الإنسان العراقي أي بناء الذات الإنسانية وتسخير كل إمكانيات الدولة لتحقيق ذلك.
فالدستور حين يتضمن مقدمة ينبغي أن تصاغ عباراتها بحذر شديد كونها من الأهمية بمكان فإما أن تكون السند والعضد لمتن الدستور أو ترفع ويستعاض عنها بالمواد الدستورية كما أن المحكمة الاتحادية العليا تجد في مقدمة الدستور ضالتها عند النظر في دستورية القوانين والأنظمة كونها تحمل في طياتها الثوابت الشعبية والوطنية التي تمثل فلسفة نظام الحكم وتمنع التعسف بكل صوره ومستوياته.
اضف تعليق