من الحقائق الثابتة أن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والضرورية لصيقة بشخصه، وأن كمال إنسانيته ونقصانها مرهون بقدر تمتعه بحقوقه وحرياته، فإذا كان المرء يملك كل الحقوق والحريات فإن إنسانيته كاملة، وكلما تعددت الحقوق والحريات التي تسلب من الإنسان يكون الانتقاص من إنسانيته بنفس ذلك القدر...

من الأهداف الأساسية والغايات النبيلة التي يتبناها الدين الإسلامي، ويعتبرها مشروعه الجوهري هي تحرير الإنسان من العبودية للإنسان، ولذلك فإن الشريعة الإســـلامية قد حاربت كل أنواع وألوان العبــودية لغير الله عز وجل. وحصرت ـ الشريعة ـ حق العبودية لله، الذي يضع نظام الحياة للإنسان. فالله جل وعلا هو الذي يملك وضع النظام وإلزام الناس به، لأنه رب الناس، ملك الناس، إله الناس. فمن حقه وحده عز وجل أن يأمر وينهي، ويحلل ويحرم. قال تعالى (قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) (1).

وقد أنكر القرآن الحكيم على أهل الكتاب تنازلهم عن حقوقهم المشروعة وحرياتهم الإنسانية المولودين عليها ورضوا بالعبودية لرهبانهم وأحـــبارهم الذين تبوأوا سلطة التشريع بدل الحق جـــل وعلا. وفي هذا يقول ربنا سبحانه (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمـــسيح أبن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (2).

ودعوة الإسلام هي من أجل تحرير شامل للإنسان من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، لذلك نجد أن القرآن الحكيم يدعو أهل الكتاب كافة أن يتحرروا من هذه الأغلال والعبودية لغير الله وأن يفردوا الله وحده بالعبادة والخضــــوع، إذ قال تعالى (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون) (3). وتأسيساً على هذه الحقيقة أصبح الإنسان أكرم المخلوقات على الله، حيث نفخ فيه من روحه، وهو الوحيد من مخلوقاته جل وعلا اختاره ليكون خليفته في الأرض وكرمه بالعقل وهداه السبيل وعلمه البيان وسخـــر له ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة. وعلى هذا فإن جميع قيم الإسلام ومبادئه ونظمه جاءت من أجل تحرير الإنسان وحمايته وتكريمه والسمو به في مدارج الكمال والرقي المادي والمعنوي.

ولهذا فإن من الحقائق الثابتة أن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية والضرورية لصيقة بشخصه، وأن كمال إنسانيته ونقصانها مرهون بقدر تمتعه بحقوقه وحرياته، فإذا كان المرء يملك كل الحقوق والحريات فإن إنسانيته كاملة، وكلما تعددت الحقوق والحريات التي تسلب من الإنسان يكون الانتقاص من إنسانيته بنفس ذلك القدر.. وعلى هذا فيمكن القول إن الإسلام دين الإنسان، حيث حفل القرآن الحكيم بذكر كلمة الإنسان حيث وردت في القرآن (63) ثلاثاً وستين مرة، وذكر بألفاظ أخرى قبيل (بني آدم) ست مرات وكلمة الناس تكررت (240) مائتين وأربعين مرة. بل افتتح الوحي الإلهي خطابه إلى البشر عن طريق رسول الله بدعوة الإنسان إلى التعليم والقراءة بإعتبارهما نقطة الانطلاق وحجر الأساس ومفتاح الرقي الإنساني قال تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم). (4). فالدعوة الإسلامية جاءت من أجل إصلاح الواقع الفاسد للإنسان الفرد والمجتمع، حتى تكون جميع الظروف مهيأة لكي يقوم الإنسان بدوره الحقيقي في الأرض. ودعوات الأنبياء جميعاً جاءت لعلاج مشاكل بشرية تشكل عائقاً أمام التقدم والسعادة فهذا صــــالح (ع) يحذر قومه من الظلمة المفســدين قال تعالى: (فاتقوا الله وأطــــيعــــون، ولا تطيعـــــوا أمـــــر المفســــدين، الــذين يفسدون في الأرض ولا يصلـــحون) (5).

وهود (ع) يحذر قومه من الشرك بالله والعبث والانحراف عن الطريق المستقيم قال تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين) (6).

وتتحـــد جميع دعوات الأنبياء في الوحدانية والتوحيد، باعتباره هو أساس البناء السليم، قال تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وأني أخاف عليكم عذاب يوم محيط، ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ) (7). وقد حظي الإنسان باهتمام كبير في الشريعة الإسلامية، إذ نجد أن الفقه الإسلامي في أغلب أبوابه ومجالاته متعلق بالإنسان في أحواله الشخصية والاجتماعية وغيرها. حتى أن الواجبات العبا دية في الإسلام نجد لها بُعداً إنسانياً صريحاً كالخمس والزكاة والحج، قال تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا أسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) (8).

إضافة إلى هذا نجد أن الإسلام يرفع إلى درجة العبادة كل عمل يؤديه المسلم ويترتب عليه نفع أو منفعة لإنسان. فقد جاء في الحديث الشريف " روضوا أنفسكم على الأخلاق الــحسنة، فإن العبد المسلم يبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم " (9).

وروي أنه تعالى أوحى إلى داوود: ما لي أراك منتبداً فقال أعييتني الخليقة فيك، قال فماذا تريد؟ قال: محبتك، قال: فإن محبتي التجاوز عن عبادي، فإذا رأيت لي مريداً فكن له خادماً " (10).

ويجعل الإسلام إصلاح ذات البين أرفع وأهم من الاشتغال بالقربات الدينية، فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، إصلاح ذات البين فـــإن فساد ذات البين هي الحالقة " (11). وعن الأمام علي (ع) "من كمال السعادة السعي في صلاح الجمهور" (12).

وفي هذا الإطار قرر الإسلام أن للإنسان حقوقاً ينبغي أن تراعى وتحفظ، وهذه الحقوق ليست منحة من مخلوق مثله يمنّ بها عليه إن شاء ويسلبها منه متى شاء، وإنما هي حقوق قررها الله سبحانه وتعالى فهي ثابتة ودائمة للإنسان في كل زمان ومكان. ومن هذه الحقوق مايلي:

حق الحياة:

إذ يعتبر الإسلام الحياة هبة من الله للإنسان، ولا يجوز لأي أحد مهما كان أن يسلب هذا الحق، فلا يجوز لحاكم أن يسلب حياة رعيته، ولا لزوج أن يسلب حياة زوجته وهكذا دواليك، ولذلك فقد حرّم الإسلام الظلم إذ قال تعالى: (وما الله يريد ظلماً للعباد) وقــــال سبحانه وتعالى: (وماربك بظلام للعبيد).. وقال جلا وعلا: (قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين) (13)، وسئل الإمام علي (ع) أي ذنب أعجل عقوبة لصاحبه؟ فقال من ظلم من لا ناصر له إلا الله وجاور النعمة بالتقصير واستطال بالبغي على الفقير " (14).. وحرم الإجهاض والانتحار إذ قال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً).(15). وقـال الـرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (مـن قتل نفسه بشيء في الدنيا عُــذب به يوم القيامة) (16). وعن الإمام الباقر (ع) " إن المؤمن يبتلى بكل بليه ويموت بكل ميتة إلا أنه لا يقتل نفسه " (17). ولقد أنكر الذكر الحكيم على أهل الجاهلية وأد البنات مخافة العار (وإذا المؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت) (18).

ومن أجل الحفاظ على هذا الحق من الاعتداء والتعسف شرع الإسلام القصاص في قتل العمد مع الترغيب في العفو والصلح إذ قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب اليم) (19).

كما شرع الإسلام الدية والكفــارة في قتل الخطأ. إذ قال تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطئاً ومن قتل مؤمناً خطئاً فتـــحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً) (20).

ولكي يحافظ الإسلام على حق الحياة بشكل محكم وإيجابي أكد الإسلام على حرمة العرض والدماء والأموال (المسلم حرام كله دمه وماله وعرضه) وحرم الإسـلام الإيذاء البدني والأدبي (المعنوي) للإنسان إذ قال تعالى: (إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون، يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) (21).. ولم يكتف الإسلام بحماية الإنسان في حال حياته بل أكد على احترامه وتقديره بعد مماته. ومن هنا جاء الأمر الإلهي بوجوب غسل الميت وتكفينه ودفنه، ونهى عن الاعتداء على جسده. وقد جاء في الحديث الشريف "إنما أمر بدفن الميت لئلا يظهر الناس على إفساد جسده وقبح منظره وتغير رائحته، ولا يتأذى الأحياء بريحته وما يدخل عليه من الآفة والفساد" (22).

واعتبر الإسلام أن الاعتداء على نفس واحدة، اعتداء على الإنسانية كلها، كما أن إنقاذ نفس إنقاذ للإنسانية جمعاء. قال تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءت رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون). (23).

العلم والمعرفة:

إذ انفردت الشريعة الإسلامية عن غيرها في أنها حثت معتنقيها إلى اكتساب العلم والمعرفة. وثمة (704) آية وردت فيها لفظة العلم أو مشتقاتها. والكتاب الذي هو أداة العلم ووسيلته ذكر القرآن (230) مرة. قال تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (24).

حق الحرية:

إذ خلق الله الإنسان لكي يكون حراً في ممارساته وأفعاله، لذلك فمن الحقوق الأساسية التي كفلها الدين الإسلامي للإنسان هو حق الحرية، ويتفرع عن هذا الحق مجموعة مـــن الحقوق السياسية والاجتماعية للإنسان، منها:

حرية الاعتقاد والدين.

حق انتخاب الحاكم والسلطة السياسية.

حق المشاركة السياسية.

حق الرقابة على السلطة.

حق التنظيم والتكتل، وغيرها من الحقوق التي تتفرع عن حق الحرية الذي كفله الإسلام للإنسان في كل زمان ومكان.

حق التملك: وهو " مقيد بأن يأخذ المال من حله، وينفقه في محله، ولا يبخل به إذا طلبته الجماعة، فملكية الفرد للمال ليست مطلقة كما ينادي أنصار المذهب الحر بل هي مقيدة بحدود الله وحقوق المجتمع ". (25).

هذه بعض الحقوق التي يكفلها الدين الإسلامي للإنسان الفرد والجماعة. وتأسيساً على ما ذكر أعلاه نسأل:

ما هي خصائص نظرية حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي؟

أولاً / التوازن:

إن من الميزات والخصائص الأساسية للتشريع الإسلامي، إنه تشريع متوازن يلبي حاجات الإنسان الجسدية والمعنوية. وتتضح خاصية التوازن من خلال المفردات التالية:

- التوازن بين الحلال والحرام: حيث أن الإسلام متوازن في نظامه القانوني بين اليهودية التي أفرطت في التحريم وكثرت فيهــا المحرمات، والمسيحية التي أفرطت في الإبـــاحة والتحليل. ويشـــير القرآن الحكيم إلى إفراط اليهود بقوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيراً، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليماً). (26). بينما التشريع الإسلامي وسط ومتوازن بين إفراطين، إذ يقول تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه وأتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون). (27).

- التوازن بين الفرد والمجتمع: تعددت النظريات والفلسفات في قضية الفرد والمجتمع والعلاقة بينهما ومن هو الأصل. فكان أرسطو يؤمن بالفردية المطلقة وفي قباله أستاذه أفلاطون يؤمن بالجماعية المطلقة. وفي بلاد فارس القديمة ظهر مذهبان متناقضان في هذا الاتجاه.

المذهب الماني وهو مذهب فردي يدعو إلى التقشف والزهد والامتناع عن الزواج، ليعجل الإنسان بفناء العالم.

والمذهب المزدكي الذي دعا إلى الشيوعية في الأموال والنساء.

بينما الإسلام جاء من أجل إيجاد التوازن بين الفرد والمجتمع، لذلك فهو يضم تعاليم شخصية واجتماعية وأخلاقية وما أشبه.

وحينما ننظر إلى جسد الإنسان نجده يعتمد في حياته الطبيعية على التوازن بين حركة الشهيق و الزفير، وكذلك تركيب الإنسان المعنوي، إذ هناك توازن بين القلب والعقل أو الفكر والشعور.

- التوازن بين الواقعية والمثالية: ولا نقصد بالواقعية القبول بالواقع بعلاته ومشاكله وسيئاته والخضوع له على ما فيه من هبوط وتخلف وانحلال، وإنما نعني بالواقعية مراعاة الظروف وأخذ الزمان والمكان طرفاً في عملية التفكير والتشريع. وعلى هدى هذا المعنى نزل القرآن منجماً (بالتدريج) والإسلام في كل توجهاته الفكرية وتعليماته الأخلاقية وتشريعاته القانونية يأخذ بعين الاعتبار واقع الحياة والإنسان. وهذا لا يعني إخضاع القيم والمبادىء للواقع، وإنما يعني العمل على رفع سيئات الواقع وإحلال حسنات التشريع الإسلامي بشكل تدريجي لا يفاجىء الناس ولا يعطل مسيرة المجتمع ولا يقضي على عاداتهم وتقاليدهم دفعة واحدة. ومن هنا فإن مثالية التشريع الإسلامي لا تعني أنه لا يمكن تطبيق بنود التشريع في الواقع الخارجي، وإنما يعني اتساق هذه البنود وانسجامها، وملاءمتها للعقل والفطرة ولذلك فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه من الله جل وعلا، ولم تدخل عليه يد التحريف وأهواء البشر وأوهامهم. فالإسلام جاء بحقائق قائمة في الكون لا أوهاماً تخيلها البشر حقائق يقبلها العقل ويستريح لها الوجدان وتستجيب لها فطرة البشر.

وفي هذا الإطار فإن الشريعة الإسلامية لم تحرم شيئا يحتاج إليه الإنسان في واقع حياته، كما لم تبح له شيئاً يضره في الواقع، كما أن تقدير الضرورات التي تعترض حياة الإنسان وتضغط عليه حق قدرها جزء من واقعية التشريع الإسلامي، وقد قرر الفقهاء أن الضرورات تبيح المحظورات استنادا إلى قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا أثم عليه إن الله غفور رحيم). (28).

وقد اعتبر الشرع مجموعة من الأمور سبباً في التيسير والتخفيف عــلى المكلف منها (المرض ـ السفر ـ الخطأ والنسيان والإكراه) وما أشبه. فقد جاء في حديث الرفع عن حريز عن أبي عبد الله (ع) قــال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان وما أكرهوا عليه، ومالا يعلمون، ومالا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق مالم ينطق بشفة " وقد رفع الإسلام الحرج، والضيق عن المكلف بقوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين). (29).

وفي إطار حقوق الإنسان نقول أن الشريعة الإسلامية تنظم قضايا حقوق الإنسان الخاصة في إطار مصلحة المجتمع أو الحقوق العامة للأمة. حتى لا تفهم الحقوق الخاصة باعتبارها كياناً منفصلاً ومبتوراً عن حقوق الآخرين. لذا فإن الحقوق الشخصية في الإسلام ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بالعنصر الاجتماعي والإنساني للحق، وعلى هذا فإن الحقوق الفردية لا تكون عقبة في سبيل تحقيق الحقوق العامة ولا تحول دون إبرازها في الواقع الخارجي.

وبهذا فإن التشريع الإسلامي بمفاهيمه وأجزاءه وفروعه يضمن حالة توازن دقيقة ومحكمة بين العنصر الخاص والحق العام. وعند التعارض والتناقض يقدم الحق العام حفاظاً على مبدأ العدل في الحركة الاجتماعية والإنسانية عموماً.

فحقوق الآخرين تشكل عنصراً أساسياً في الحقوق الفردية والذاتية، بمعنى أن ممارسة الحقوق الشخصية مقيدة بمراعاة واحترام حقوق الآخرين أو الحقوق الاجتماعية بشكل عام. وبهذا فإن الشريعة الإسلامية تنفي الحقوق الشخصية المطلقة وترفض ما ذهب إليه الفرد يون من أن حق الفرد غاية في ذاته، وتقر أن الحقوق الشخصية تطبق في إطار الحقوق الإنسانية العامة، وأي تصرف أو عمل يضر بأي حق اجتماعي أو إنساني آخر يجمد الحق الشخصي ويفتح المجال لتطبيق الحق الاجتماعي العام.

ومن هنا جاء تحريم الاحتكار باعتباره تصرفاً في حق الملكية بما يضر الغير سواء كان هذا الغير فرداً أو مجتمعاً. ويشير إلى هذه الحقيقة الشيخ محمد أبو زهرة بقوله: " وأنه كلما اشتدت الحاجة، عظم حق الناس في الأموال المملوكة، وضيّقت حرية التصرف والانتفاع، وحرية المنع والامتناع.. وأن الحقوق مهما تكن شخصية، لا يمكن أن تكون منفصلة انفصالا كاملاً عن حقوق الناس ـ المجتمع ـ ".وبهذا فإن المجتمع الإسلامي لا يُطلق عرضة لنزوات وشهوات الأفراد، وإنما يجعل الحرية والملكية الفردية في إطار نظام العدل الاجتماعي والمصلحة العامة، ويقدم الأخير حين التعارض أو الاستغلال السيئ، وقد صاغ الفقهاء من وجزئيات الأحكام وفروع المسائل قواعد فقهية تنص على هذا المعنى من قبيل (يتحمل الضـــرر الخاص، في سبيل دفع ضرر عام) و(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) و(الحجر على المفلس من أجل مصلحة الغرماء) و(اختيار أهون الضررين) وما أشبه..

وهنا ينبغي الإشارة إلى نكتة دقيقة مفـادها: أن المصالح الفردية (الشخصية) لا يمكن أن تتحقق بعيداً عن الوسط الاجتماعي باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه لذلك لا بد من تقديم المصالح الاجتماعية (العامة) على المصلحة الشخصية حين التعارض والتناقض. لأن الفرد لا يمكن أن يتمتع بحقوقه الشخصية بدون وسط اجتماعي سليم.. بمعنى أن للمجتمع أو الأمة شخصية معنوية (اعتبارية) لا تتحقق إلا بأن يؤدي كل فرد ينتمي إلى هذا المجتمع أو الأمة وظيفة اجتماعية، وتتشكل من خلال هذه المسألة الشخصية الاجتماعية العامة التي قوامها جهود الإنسان الفرد في هذا المجتمع.

ثانيا/ الانبثاق الذاتي:

بمعنى أن كل جزئيات الحقوق ومفرداته المتعددة تكون ضمن نسق تشريعي ـ فكري واحد لا تخالف ولا تناقض بينهما باعتبار صدورها من الله سبحانه وتعالى وقد قال سبحانه: (ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً) (30). فنظرية الحقوق في التشريع الإسلامي ليست مركبة تركيباً أو أقحمت في البنيان التشريع الإسلامي تحت ضغط الظرف والتطور، وإنما هي منبثقة انبثاقا ذاتياً من الفقه الإسلامي. بمعنى أن نظرية الحقوق جزءاً لا يتجزأ من التشريع الإسلامي.

وعلى ضوء عملية الانبثاق الذاتي نجد القدرة العجيبة التي تمتلكها الشريعة الإسلامية في الإجابة على كل الأسئلة التي تطرأ من جراء تغيير الظروف أو التطور الإنساني، بل لقد أبدعت الشريعة الغراء علماً يوضح القواعد ويؤسس المناهج الكفيلة في سلامة إرجاع الجزئيات والفروع إلى الأصول والكليات وهو (علم أصول الفقه). الذي هو عبارة عن علم يبحث فيه عن قواعد تقع نتيجتها في طرق استنباط الحكم الشرعي ". (31). وعلى ضوء هذا نجد إجماع المحققين والمجتهدين على أن الإحكام الشرعية (الأصول العامة والفـــروع) معللة بمصالح العباد نفياً للعبث وتفسيراً لمعقولية التشريع الإسلامي.

فقد قال الشيخ محمد حسين النائيني (أن العقل وإن كان مدركاً للمصالح والمفاسد والجهات المحسّنة والمقبحة، إلا أنه من الممكن أن تكون تلك الجهات موانع ومزاحمات في الواقع وفي نظر الشارع. ولم يصل العقل إلى تلك الموانع والمزاحمات، إذ ليس من شأن العقل الإحاطة بالواقعيات على ماهي عليها، بل غاية ما يدركه العقل هو أن الظلم مثلاً له جهة مفسده فيقبح والإحسان له جهة مصلحة فيحسن) (32).

ويقول السيد أبو القاسم الخوئي (أن الأحكام الشرعية ليست تابعة للمنافع والمضار، وإنما هي تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلقاتها، ومن المعلوم أن المصلحة ليست مساوقة للمنفعة والمفسدة مساوقة للمضرة. ومن هنا تكون في كثير من الواجبات مضرة مالية كالزكاة والخمس والحج ونحوها، وبدنية كالجهاد وما شاكله. كما أن في عدة من المحرمات منفعة مالية أو بدنية، مع أن الأولى تابعة لمصالح كامنة فيها والثانية تابعة لمفاسد كذلك) (33).

وقال الدكتور فتحي الدريني (أنه لا يجوز أن يبتر الحكم عن غايته، أو يجرد عن المصلحة التي شرع من أجلها، أن يتخذ وسيلة إلى تحقق غرض آخر، ينافي غرض الشارع فيما رسم له غاية ومصلحة، ذلك، لأن الحكم وحكمة تشريعه في التشريع الإسلامي، مقترنان، فكلاهما من وضع الشارع الحكيم، كما يقرر ذلك الإمام الشاطبي في عبارة واضحة، صريحة، لا لبس فيها ولا إبهام: إن كون المصلحة مصلحة تُقصد بالحكم، والمفسدة كذلك، مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيها بناءً على قاعدة نفي التحسين والتقبيح، فإذا كان الشارع قد شرع الحكم لمصلحة، فهو الواضع لها مصلحة، وإلا فكان يمكن عقلاً، ألا تكون كذلك..) (34).

ومن هنا فإن حقوق الإنسان ترقى إلى مستوى الضرورات في التشريع الإسلامي الذي يحققها المكلف في الواقع الخارجي على سبيل الامتثال والتعبد بالأحكام الإلهية... فنظرية الحقوق في التشريع الإسلامي ليست صدى لواقع مريض يراد علاجه، أو خطأ في التجربة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية يراد تصحيحها، وبالتالي فهي ليست انعكاسا لواقع مأزوم يقمع الإنسان ويكبت حريته ويقضي على حقوقه. وإنما هي نظرية من صميم التشريع وهي جزء لا يتجزأ من البنيان الذاتي أو الداخلي للتشريع الإسلامي.

بينما نجد أن نظرية الحقوق في الغرب والمواثيق والإعلانات الدولية، جاءت كرد فعل لواقع سيء كان يعيشه الإنسان سواء بعد الثورة الفرنسية الكبرى أو بعد الحرب الكونية الثانية، فهي (نظرية الحقوق) ليست من صميم التشريع الغربي (العقدي والسياسي)، وإنما هي جاءت في إطار التكييف والتكيف الذي تمتاز به الحضارة الحديثة لبقاء ديمومتها واستمرارها، بمعنى أنها وليدة الحاجة والظروف وليست من القيم الجوهرية للبناء التشريعي الغربي. فمثلاً مبدأ (القانون الطبيعي) جاء بعد محاربة الفكرة اليونانية التي تؤمن بأن الدين خاضع للدولة، وبهذا ولدت فكرة القانون الطبيعي الذي يؤكد على حقوق الأفراد واعتبار أن للفرد حقوقاً طبيعية، وأن دخوله للمجتمع بهدف تحقيق ذاته وكفالة حقوقه.

وباعتبار أن هذا التصور يتناقض والحقوق العامة (الاجتماعية والإنسانية) انبرى بعض المفكرين الغربيين للتوفيق بين الحقوق الخاصة والعامة فأوجدا نظرية (العقد الاجتماعي) وعلى أساسها تنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم وحقوقهم للصالح العام.

وبهذا نستطيع أن نجزم بأن النظريات القانونية والحقوقية الغربية هي صدىً ورد فعل لواقع سيء كانت تعيشه المجتمعات الغربية. بينما النظرية الحقوقية الإسلامية جزء من البناء التشريعي الإسلامي، وهي نظرية تحوي على موازنة دقيقة بين الحقوق الشخصية والحقوق العامة، لذلك فهي لا تحتاج إلى تغيير في بنائها القانوني، كما أنها تطمح وتنشد صياغة الواقع وفق هداها وتشريعاتها.

كما أن نظريات الحقوق في الغرب (ذات مضمون سلبي لا إيجابي بمعنى التزام الدولة بعدم التعرض للأفراد عند ممارستها وعدم الاعتداء عليها، ولكن لا يطلب من الدولة توفير هذه الحقوق للأفراد، وليس لــهؤلاء حقوق اقتضاء أو دائنية على الدولة يلزمونها بموجبها بتقديم الخدمات، فهي إلتزام على الدولة بالامتناع عن عمل وليس التزاما بعمل).(35).

بينما النظرية الحقوقية الإسلامية ذات بُعد إيجابي يلزم الدولة ومسئوليها توفير كل الأمور التي تمكن الفرد من حقوقه. وينبغي أن نشير في هذا الصدد أنه ظهرت في الغرب عموماً توجهات ومدارس تحاول أن تعطي لنظرية الحقوق بعداً إيجابياً وتتضح هذه المسألة في الإعلانات التالية: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان (1950) والاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية (1966). إذ تنص هذه الإعلانات والمواثيق على واجب الدولة في الرعاية الصحية والكفالة الاجتماعية والتعليم وما أشبه.. وخلاصة الأمر أن الأسس العامة والمقاصد الجوهرية للشريعة الإسلامية وهي حفظ الدين، النفس، والعقل، والنسل، والمال. وهي ما تسمى بالبديهيات الخمس، حين التدقيق والتأمل نجد أن هذه البديهيات،ما هي إلا عناوين ومداخل طبيعية وأساسية لحفظ حقوق الإنسان بجميع مستوياتها وأشكالها.

فحقوق الإنسان في التشريع الإسلامي ليست مسألة ثانوية أو مركبة تركيباً، وإنما هي أساس التشريع ومقصده ومناه الذي يطمح إليه ويصبو إلى تحقيقه. فحقوق الإنسان الكلية والتفصيلية مندمجة في التشريع الإسلامي نصاً وروحاً ومقصداً.

ثالثاً / ربط ممارسة الحق بالمسؤولية:

إذ لا يمكن أن نتصور نظام الحرية أو الحقوق في الإسلام بلا مسؤولية وواجب، إذ لا تكليف بلا مسؤولية، كما إزاء كل حق واجب. لذلك فـإن النظام الذي يرسي دعائمه الإسلام نظــام مسئول. ويقول تبارك وتعالى: (والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل إمرىء بما كسب رهين). (36).

وقال تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما أكتسبت). (37). وهذه المسؤولية التي تتميز بها الشريعة الإسـلامية ليست جزئية، وإنما هي تشمل الجميع حتى الأنبياء والرسل. إذ قـال تعالى: (فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين). (38). وفي قبال هذا نجد أن القانون الوضعي الذي أوجد نظرية حقوق الفرد اعتبرها هي محور القانون، وجميع الإجراءات الدستورية والقانونية في المجتمع والدولة، فقد حدد وظيفة الدولة في أنها حارسة لحقوق الفرد، بقطع النظر عما يترتب على إطلاق سلطات الفرد في التصرف والعمل من أضرار وآثار سيئة تمس الغير أفراداً كانوا أو مجتمعاً. بدعوى أنه مارس حقه الطبيعي والموضوعي.

هذا هو منطق القانون الوضعي. بينما منطق النظرية الإسلامية قائم على معيار إيجاد العلاقة الحسنة والتوازن الدقيق بين المصلحة الفردية والمصلحة الجماعية، بحيث أن للفرد ممارسة حقه ولكن في إطار وبطريقة لا تضر بمصلحة المجتمع أو الغير، ولذا أشتهر لدى الفقهاء (أن الضرر الخاص يتحمل في سبيل دفع ضرر عام). وبهذا فإن النظرية الإسلامية تعطي الفرد والمجتمع حق ممارسة حقه المشروع فتثبت وتؤسس مبدأ الحق في التشريع الإسلامي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أحكامها وإجراءاتها القانونية لا تخرج عن إطار مبدأ العدل.

وبهذا فإن النظرية الإسلامية لا تكتفي بمدنا بقيم وأصول حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي، بل إضافة إلى ذلك تمدنا بأصول ومعايير ومقاييس تدرأ كل أسباب وعوامل انتهاك حقوق الإنسان أو تجاوز حقوقه ومصالحه المشروعة، وبهذا فإن الإنسان وهو يمارس حقه (كسباً أو انتفاعا) ينبغي أن يلاحظ حقوق الغير باعتباره مسئولا عن سلامة مسيرة المؤمنين، وإيجاد التوازن بين المصالح الخاصة والعامة، وقد استنبط الفقهاء مجموعة من القواعد التي تنسق بين المصالح المتعارضة والمتضاربة من قبيل (درء المفسدة أولى من جلب المنفعة) و (اختيار أهون الضررين) وما أشبه، ولقد أفرد علماء الأصول باباً خاصاً في كتبهم لمناقشة الأخبار المتعارضة أسموه بــ (التعادل والتراجيح).

إذن، طبيعة التشريع الإسلامي نفسه، ونظامه الداخلي وأصوله العامة ومفاهيمه المختلفة هي منشأ نظرية حقوق الإنسان، وإذا كانت هذه النظرية تأخذ في الكثير من الأحيان والصور حالة المواءمة بين مقتضيات الشرع المقدس والظروف الخارجية، فهو يعكس حالة من المرونة الهائلة التي يتمتع بها التشريع الإسلامي من أجل إمداد الحياة بشكل مستمر بحكم الدين والعقيدة. وحتى لا تتدخل الأهواء والمصالح في هذا العملية أوجد الشارع المقدس مجموعة من الشروط والمواصفات للإنسان الذي يتبوأ موقع المواءمة بين التشريع والواقع الخارجي، وهو ما يصطلح عليه بالفقيه الجامع لشروط الاجتهاد والاستنباط. فهذه الشروط والمواصفات توجد الخبرة العلمية الكافية والتقنية المتخصصة في عملية الاستنباط والمواءمة المذكورة، وبهذا تكون الأحكام الشرعية عامة رحمة وعدلاً للعباد. إذ يقـول تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (39). (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (40). (ومـار بك بظلام للعبيد) (41). (وما الله يريد ظلماً للعباد) (42). (وإن الله يأمر بالعدل والإحسان) (43). وبهذا انتفى عن الشرع الإسلامي الظلم والضرر والعبث والحرج، وتأكدت قيم العدل والرحمة والهدفية والحكمة والخير في كل مفردات التشريع الإسلامي.

ومن هنا فإن نظرية حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي لا تقتصر على مسائل الحريات العامة، وإنما تتعدى ذلك إلى جميع الأمور والتفاصيل التي ترتبط بشخصية الإنسان المادية والمعنوية.

وعلى هذا فإن حقوق الإنسان الفرد مرتبطة بحقوق الغير وحق الله عز وجل. وعلى هذا لا يحق للإنسان الفرد أن يُسقط حقه إذا كان لله فيه حق ونصيب (إذا جاز التعبير) من قبيل حق الحياة، إذ يقع مع هـذا الحق في عرضه – حــق الاستعباد والعبودية لله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (44). فلا يجوز للإنسان أن يقتل نفسه أو يبتر عضواً من أعضاء جسده من دون سبب وعلة. وقد تكون هذه المسألة إحدى مصاديق تحريم الانتحار في الشرع الإسلامي.. وكذلك الانتفاع بطيبات الأرض وثرواتها فقد منح الله تعالى للإنسان أن يستفيد منها سواء على سبيل الاختصاص إذا كان مالكاً، أو على سبيل الشركة العامة إذا كان الأمر مباحاً، ولكن هذا ليس حقاً مطلقاً وعاماً، وإنما هو محدد ومقيّد بما رسمته الشريعة وأقرّه الدين الإسلامي. لذلك فإن " الشريعة هي أساس الحق، وليــس الحق صفة ذاتية من صفات الإنسان، أو خاصة من خصائصه الفطرية، كمــا يرى أنصار المــذهب الفـردي في المفـهوم والإطـلاق في التصرف، لأنه في زعمهم سابق في وجوده على القانون والمجتمع والدولة.

فالنظرية الإسلامية قائمة على أساس أن الشريعة هي التي أنشأت الحق إنشاءً بما شرعت من الأحكام المستفادة من نصوصها أو دلالاتها والتشريع دلالات.هذا، ويقرر الإمام الشاطبي هذا الأصل بصورة جلية لا لبس فيها ولا إبهام، حيث يقول: لأن ما هو حق للعبد ـ الإنسان الفرد ـ إنمـا ثبت كونه حقاً بإثبات الشرع ذلك له، لا بكونه مستحقاً لذلك، بحكــم الأصـل.. فالحـق ثـابت بالشـرع، ومنـحة منـه تعالى بشرعه " (45).

فالتشريع الإسلامي لا ينظر إلى الإنسان الفرد باعتباره كياناً مستقلاً ومنعزلا عن المجموع، وإنما يعتبر الفرد وحقوقه في إطار وحدة إنسانية تعيش بشكل مشترك، لذلك فحقوق الأطراف في هذه الوحدة الإنسانية متبادلة ومتداخلة مع بعضها البعض.. فنقطة البدء وحجر الأساس في نظرية حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي اعتبار كلاً من حقوق الفرد والجماعة حقوقاً مقدسة ينبغي الحفاظ عليها وعدم المساس بها بأي شكل من الأشكال.

فالشريعة الإسلامية هي أساس الحقوق، بمعنى أن التشريع الإسلامي هو الذي كرم بني آدم وأعطاه مجموعة من الحقوق التي يعمل في إطارها، ويمنع ويردع أي طرف من المساس بها ـ فالحقوق الشخصية للإنسان ليست منفصلة عن المجتمع، وإنما لها وظيفة اجتماعية. بمعنى أنه لا يكفي تحقيق المصالح الشخصية والحقوق الذاتية، بل يجب مع هذا الحفاظ على عملية التوازن بين هذه الحقوق وبقية المصالح التي حافظ عليها التشريع الإسلامي ورعاها.

والإسلام راعى الإنسان في كل جزئيا ته ومفرداته حتى أنه حبّب التخفيف في صلاة الجماعة نظراً لحال أضعف المصلين، وحرّم صيام الوصال، ونهى أولئك الثلاثة الذين التزم أحدهم أن يصوم ولا يفطر، والآخر أن يقوم الليل ولا ينام والثالث أن لا يتزوج النساء. وفي إطار جمع التشريع الإسلامي بين مثالية المعنى والمقصد وواقعية الأداء والتنفيذ أبدع الفقه الإسلامي قانون الحكم الواقعي وهو أن يكون (الحكم) ثابتاً للشيء بما هو نفسه فعل من الأفعـــال، مع قطع النظر عن أي شيء آخر. والحكم الظاهري وهو أن يكون (الحكم) ثابتاً للشيء، بما أنه مجهول حكمه الواقعي.

فالشرع الإسلامي جاء من أجل الإنسان نفساً ومالا وعرضا وعقلاً، والفقيه يقوم بمراعاة هذه الكلية في كل الجزئيات والمفردات التفصيلية.

وتتضح عبقرية التشريع الإسلامي في الحفاظ على حقوق الإنسان من خلال طريقة التكليف، بحيث أن الشرع الإسلامي لا يكلف الإنسان إلا بقدر طاقته وسعته. وقد قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (46). ومن هنا نجد أن العقود والمعاملات الشرعية قائمة على مبدأ رضا الطرفين وذلك نفياً للاستغلال والتحكم والتسلط القاهر. ولذلك قيل _ أن العقد شريعة المتعاقدين ـ بالطبع هذا في إطار شروط الإسلام ونظره.. واستطرادا نقول في هذا المجال أن الإسلام لم يعط أحداً من البشر صلاحية تجاوز حقوق الغير أو التسلط القاهـــر على ممتلكاتهم أو ما أشبــه، ويقول تعالى: (وما أنت عليهم بجبار) (47) ونفى الله سبحـانه عن ذاته القدسية ذلك بقوله: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة). (48)

ومن خلال طريقة معالجة الدين الإسلامي للمشاكل الإنسانية، إذ أن طريقة العلاج في الإسلام منبثقة من طبيعة الفطرة الإنسانية لأن الذي فطر الفطرة هو الذي أنزل الشرع على قدرها على حد تعبير الدكتور الدريني. فكل معالجات الإسلام وأساليبه وتوجيهاته المختلفة منسجمة مع الفطرة والجبلّة الإنسانية. (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (49). وعلى هذا نستطيع القول: أن معيار التفاضل والتمييز في التشريع الإسلامي قائم على ما للإنسان دخل وكسب فيه، بمعنى أن الأمور الوجودية التي لا دخل للإنسان وإرادته فيها لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون معياراً للتفاضل والتمييز. فاللون مثلاً لا يمكن أن يكون سبباً للتمييز كما تدعي وتزعم النظريات العنصرية، لأن لون الإنسان أمر لا دخل للإنسان فيه. ويشير إلى هذه المسألة الدكتور الدريني بقوله (فكان اللون أمراً غير كسبي، فلا يصلح بالتالي معياراً مسوغاً للتمييز والتفاضل في منطق الشرع الإسلامي ولا منطق العقل الإنساني العام، كما أسلفنا، ذلك لأن التفاضل ـ فيما تقرره آيات كثيرة محكمة ـ قائم علـى معيار مشتق مما للإنسان فيه كسب أو خيرة أو عمل أو اجتراح لقوله تعالى: (وإن للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى) و (ولكل درجات مما عملوا) (50).

ولكي يحافظ التشريع الإسلامي على حقوق الإنسان، أوجد مجموعة من القيم والمبادئ التي تشكل حصناً يمنع عملية التجاوز والاستحواذ على حقوق الغير، وفي ذات الوقت هي بمثابة البؤرة الصالحة للحفاظ على الإنسان وحقوقه المختلفة وهذه القيم هي:

الإصلاح الذاتي:

وهي تعتبر الأداة العملية الحقيقية التي تمارس عملية التقويم والحفاظ على إنسانية الإنسان وصفائه ونقائه. وهي الأرضية الخصبة التي تثمر إجراءات وأخلاق تحافظ على حقوق الإنسان. وقال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). (51)

فالإنسان الذي يعيش انسجاما بين قواه الذاتية لن يجرؤ على تجاوز حدوده الشرعية والقانونية، بفعل الانسجام التام الذي يعيشه هذا الإنسان، وقد جاء في الحديث الشريف (من لم يكن له واعظ من نفسه لم تنفعه مواعظ الناس).

حارب الإسلام المعوقات والحوافز التي قد تكون هي الدافع نحو تجاوز حقوق الغير والاستحواذ عليها. وانطلاقا من هذا حارب الإسلام العصبيات، والنزعات الفردية التي تفضي إلى الأنانية والجشع والنزعات العنصرية وما أشبه.

وحارب أيضا أرضية ذلك كله متجسدة في (حب الهوى) فقد قال تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فأعلم أنما يتبعون أهوائهم ومن ضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين).(52). وقال تعالى: (ولئن أتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير). (53) وجاء في الحديث الشريف " إذا حيرّك أمران أن لا تدري أيهما خير وصـــواب، فأنظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه، فإن كثير الصواب في مخالفة هواك ".(54).

وأرسى الإسلام في إطار ذلك مبدأ العــدل والوفاء بالعهود والمواثيق. فقـد قال تعالى: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق). (55) وجعل الإسلام " الوفاء بالمعاهدة، دليلاً بينا على صدق الاعتقاد، والمظهر الواقعي له، لقوله عز وجـل: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً) (56)، إقراراً للحق وترسيخاً لمباني العدل وأصول النصفة في العلاقـــات الدولية، وتعميقاً للشعور الإنساني بقدسية التزاماتها، ليكون الوفاء بها ـ لعظيم خطرها على الصعيد الدولي ـ بدافع عقائدي أولاً، مما يدل دلالة بيّنه على أن العقائد في الإسلام، ذات صلة وثقى بتدبير الحياة الإنسانية، وعلى صعيدها الدولي بوجه خاص، فكانت لذلك، عقـائد عملية، سلــوكية، وليست مجرد معان غيبية، كما يُدّعى ظلماً وبهتانا " (57).

وحتى يكتمل الضمان التشريعي الذي يحافظ على حقوق الإنسان، أقر الفقه الإسلامي قاعدة " عدم ضمان الأمين إلا مع التعدي والتفريط ". وقاعدة (من أتلف مال الغير بلا إذن منه فهو له ضامن). وقد جاء في الحديث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (ليس لك أن تتهم من قد ائتمنته). وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (ع) سألته عن (الشيء يوضع على الطريق فتمر به الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال كل شيء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه).

وهكذا فإن حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي هي الهدف والغاية التي جاء بها الإسلام، حيث أنه دين الإنسان.

.........................................
الهوامش
(1) سورة الأنعام 164
(2) سورة التوبة 31
(3) سورة آل عمران 64
(4) سورة العلق 1-5
(5) سورة الشعراء 150- 152
(6) سورة الشعراء 128-130
(7) سورة هود 84-86
(8) سورة الحج 28
(9) ميزان الحكمة جـ 3 ص146 ـ الدار الإسلامية ـ لبنان
(10) نفس المصدر السابق
(11) ميزان الحكمة 5/364
(12) نفس المصدر السابق
(13) سورة القصص 17
(14) ميزان الحكمة ـ المجلد الثالث ـ ص470.
(15) سورة النساء آية (29).
(16) ميزان الحكمة ـ المجلد الثامن ـ ص44.
(17) نفس المصدر السابق.
(18) سورة التكوير 8-9.
(19) سورة البقرة 178
(20) سورة النساء 92
(21) سورة الحجرات 10-12
(22) ميزان الحكمة ـ المجلد التاسع ـ ص270.
(23) سورة المائدة 32
(24) سورة الجمعة 2
(25) الخصائص العامة للإسلام ص 138 الدكتور القرضاوي ـ دار الرسالة ـ لبنان.
(26) سورة النساء آية (160 ـ 161)
(27) سورة الأعراف آية (157).
(28) سورة البقرة آية (173).
(29) سورة البقرة آية (286).
(30) سورة النساء آية (82).
(31) أصول الفقه ـ محمد رضا المظفر ـ مؤسسة الأعلمي ـ لبنان.
(32) فوائد الأصول ـ محمد علي الكاظمي ـ الجزء الثالث ـ ص60 ـ المطبعة الحيدرية ـ العراق.
(33) محاضرات في أصول الفقه ـ محمد إسحاق الفياض ـ ص409ـ410 ـ دار الهادي للمطبوعات ـ إيران.
(34) نظرية التعسف في استعمال الحق في الفقه الإسلامي ـ فتحي الدريني ـ ص 13 ـ 14 ـ الشركة المتحدة للتوزيع ـ سوريا.
(35) حقوق الإنسان في الإسلام ـ ص 89 ـ المؤتمر السادس للفكر الإسلامي ـ إيران.
(36) سورة الطور آية (21).
(37) سورة البقرة آية (286).
(38) سورة الأعراف آية (6).
(39) سورة الأنبياء آية (107).
(40) سورة الحج آية (78).
(41) سورة فصلت آية (46).
(42) سورة غافر آية (31).
(43) سورة النحل آية (90).
(44) سورة الذاريات آية (56).
(45) دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ـ فتحي الدريني ـ ج1 ص 42ـ دار قتيبة ـ دمشق.
(46) سورة البقرة آية (286).
(47) سورة ق آية (45).
(48) سورة النساء آية (40).
(49) سورة الروم آية (30).
(50) دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ـ فتحي الدريني ـ ج1 ص 111، دار قتيبة ـ دمشق.
(51) سورة الرعد آية (11).
(52) سورة القصص آية (50).
(53) سورة البقرة آية (120).
(54) بحار الأنوار ـ محمد باقر المجلسي ـ ج78 ص 315.
(55) سورة الأنفال آية (72).
(56) سورة النحل آية (91).
(57) دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر ـ ج1 ص 111.

اضف تعليق


التعليقات

أيمن يحياوي
امغرب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نشكركم على خدماتكم2019-10-04