q

قبل مائة عام وقَع وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر جيمس بلفور وثيقة تضمنت تَعَهُد من حكومة المملكة المتحدة بدعم مطلب الحركة الصهيونية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، على الرغم من أن فلسطين في حينه كانت ولاية ضمن الدولة العثمانية؛ ولم تكن تحت سيادة المملكة المتحدة العسكرية أو السياسية؛ إلا أن حكومة المملكة المتحدة سمحت لنفسها بالتصرف في أرض دولة أخرى ومنحها لمجموعة إثنية بعينها؛ والتي تَدعي أن صلة عقائدية ما كانت لها بهذه الأرض في فترة محدودة من التاريخ الغابر الذي مرت عليه آلاف السنيين؛ وذلك تم في تجسيد فاضح للسياسة الإمبريالية للمملكة المتحدة التي تستخف بكل قيم الإنسانية والقانون وحقوق البشر؛ وبذلك وضعت المملكة المتحدة اللبنة الأولى لصرح صراع تاريخي لا زال ممتداً إلى يومنا هذا.

لا تكمن الجريمة البريطانية في الوعد بحد ذاته رغم فداحته؛ فقد تلقى اليهود عبر التاريخ وعود كثيرة من عدة أطراف لتحقيق أحلامهم الخرافية؛ ولم يكن وعد بلفور هو الأول من تلك الأطراف التي أرادت كسب أموالهم أو استغلال نفوذهم الاقتصادي والسياسي في صراعاتها الدولية، فقد سبق هذا الوعد بأشهر قليلة وعد فرنسي مشابه كان بتوقيع سكرتير وزارة الخارجية الفرنسية في حينه جون كمبن يتعهد فيه لناحوم سكولوف أحد زعماء الحركة الصهيونية في فرنسا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ ولكن الجريمة الحقيقية هي عدم اكتفاء المملكة المتحدة بالوعد الموثق بل ترجمته في العام التالي بعد دخول القوات البريطانية إلى فلسطين ضمن التوسع الامبراطوري للمملكة المتحدة على حساب الدولة العثمانية المنهارة في حينه، وهو ما وفر للمملكة المتحدة الفرصة في تنفيذ وعدها للورد ليونيل روتشيلد بالعمل على إقامة وطن قومي لليهود، وكانت باكورة تلك الجهود التي استمرت حتى العام 1948 إعلان قيام إسرائيل عشية انسحاب القوات البريطانية بعد 30 عام من احتلالها بعد أن أدت المهمة وحققت وعدها للحركة الصهيونية.

وعد بلفور جريمة مكتملة الأركان ارتكبتها المملكة المتحدة ووثقتها في وثيقة رسمية حملت توقيع وزير خارجيتها تعاقبت على تنفيذها حكومات المملكة المتحدة لثلاث عقود، وكانت شاهدة ومشاركة في جريمة اقتلاع شعب من أرضه، وإحلال آخر مكانه ضمن أبشع جرائم التطهير العرقي التي عرفتها البشرية على مر التاريخ؛ خدمة لمصالحها الإمبراطورية الاستعمارية التوسعية؛ وحلاً جذرياً لمشكل الوجود اليهودي غير المرغوب فيه لاستعصائه على الاندماج ضمن نسيج المجتمعات الأوروبية في حينه وطمعا بالمال والنفوذ اليهودي العالمي الذي كان ولا يزال المتحكم الفعلي في الاقتصاد العالمي والذي تمثل حينها باللورد روتشيلد اليهودي الصهيوني البريطاني والذي وجه له الوعد باعتباره ممثلا للحركة الصهيونية في المملكة المتحدة، وأحد أهم بارونات المال العالمي القلائل في حينه وسليل عائلة روتشيلد التي تسيطر على سوق المال والأعمال في الولايات المتحدة والتي تدين لها المملكة المتحدة والعديد من دول العالم في حينه بما فيهم الدولة العثمانية بمئات الملايين من الدولارات.

إمبراطورية روتشيلد التي ساهمت بنصيب الأسد في دعم وبناء الحركة الصهيونية ودولتها لاحقا، تُظهر لنا كيف يستخدم المال والمصالح الاقتصادية في السياسة، وكيف يتم شراء ولاء الدول والحكومات والأفراد بالمال وكيف يتحكم المال في السياسة الدولية دون أي اعتبارات أخلاقية أو قانونية، وما أشبه اليوم بالأمس لا اختلاف يذكر غير استبدال الانجليز بالأمريكيين، فلا زال اليهود يمارسون نفس اللعبة القديمة بأسلوب حديث ولا زالت عائلة روتشيلد تتحكم في الاقتصاد والسياسة الأمريكية عبر إمبراطوريات شركات التصنيع العسكري والمدني في الولايات المتحدة والعالم، ولا زالت تسيطر على سوق المال العالمية عبر مجموعة من البنوك العالمية إضافة إلى ذلك أنها تملك اليوم حصة الأسد في أسهم البنك الدولي المقرض الأول لكل دول العالم وصاحب صندوق النقد الدولي المتحكم في الاقتصاد العالمي، وهكذا يستمد اللوبي اليهودي قوته في الولايات المتحدة وهكذا تدار السياسة الأمريكية، وهكذا تبني جماعات الضغط على الحكومات ويدار العالم وتلك هي السياسة بوجهها الحقيقي بعيدا عن أي نوع من المبادئ أو القوانين والمواثيق الدولية.

وعد بلفور هو الجريمة النائمة في حق الإنسانية جمعاء قبل أن تكون في حق شعب فلسطين، فتلك ليست قضية الفلسطينيين فحسب؛ بل هي قضية البشرية بأسرها لأن وثيقة بلفور أسست لنمط عنصري امبريالي؛ وفتحت الباب واسعاً أمام شرعنة التطهير العرقي في السياسة الدولية عبر اقتلاع شعب من أرضه وإحلال آخر مكانه بدعاوي خرافية تمنح الملكية الخاصة وتنزعها عن صاحبها طبقاً للمعتقد الديني وهي أخطر ما في هذا الوعد؛ لما تشكله من تأسيس لعودة الحروب الدينية من جديد وليس من الصدفة انتشار جرائم التطهير العرقي طبقا للمعتقد في أكثر من مكان في هذا العالم عقب تنفيذ وعد بلفور في فلسطين.

علينا أن لا نطالب الحكومة البريطانية ومجلس العموم البريطاني الاعتذار لنا كفلسطينيين فقط بل الاعتذار للعالم الحر أجمع، وعليهم أن يعترفوا ببشاعة تاريخهم الاستعماري، ويتحملوا تبعات ما أثاروا من صراعات حيثما حلوا والتي لازالت مستعرة وتكتوي بنيرانها الشعوب والأمم إلى يومنا هذا.

* أستاذ علوم سياسية وعلاقات دولية
[email protected]

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق