لا يوجد أدنى شك أن ما يجري الآن في تركيا يدعوا للقلق والاستنفار، بسبب سلسلة الاعتقالات الجماعية والانتهاكات الحقوقية المستمرة من قبل الحكومة التركية، حيث لا يكاد ان يمر يوم الا وتشهد انقرة سلسلة اعتقالات جديدة وواسعة تشمل أفراد من مختلف أطياف الحياة مثل الأكاديميين والصحفيين والأساتذة وحتى حراس سجون في أجزاء نائية من تركيا وكذلك نوابا في البرلمان من المعارضة المؤيدة للأكراد مما جعل ثالث أكبر حزب في البلاد بلا قيادة فعليا.
فقد جعل الرئيس التركي رجب الطيب اردوغان من محاولة الانقلاب التي حدثت في تموز/يوليو 2016 ذريعة لكي يتخلص من جميع معارضيه. هذا ما اثار قلق المنظمات الحقوقية من فوز اردوغان في استفتاء التعديلات الدستورية لتوسيع سلطاته في البلاد وهذا ما يجعله يفاقم في الانتهاكات الحقوقية والثقافية والاقتصادية. من خلال فتح سجون جديدة وكثيرة لكي يزج بالمعارضين فيها ويحرمهم من أي فرصة بالحياة.
وقد تلقى إقرار تعديل الدستور التركي استهجانا من المعارضة التركية والدول الغربية التي بادرت للتعبير عن خشيتها من تداعياته على ملفات الحقوق والحريات العامة والسياسية. بينما يرى أنصار الحزب الحاكم إن إقرار الصلاحيات الواسعة من شأنه أن يبسط ويحدث العمل الحكومي ويجعل تركيا اقوى.
لكن بعد الفوز بالاستفتاء لصالح التعديلات الدستورية مددت تركيا حالة الطوارئ المعمول بها في البلاد منذ محاولة الانقلاب الفاشلة ودوت صفارة الإنذار صوب أكبر حملات اعتقال حدثت في تركيا منذ عام 2016 في إطار حملة جديدة تستهدف مناصرين مفترضين للداعية فتح الله غولن المقيم بالولايات المتحدة الامريكية والذي تقول أنقره إنه مدبر الانقلاب الفاشل. وتأتي هذه الحملة قبل أيام قليلة تفصل اردوغان من زيارته لأمريكيا للمطالبة بتسليم غولن.
في الوقت الذي تخوض السلطات التركية أكبر حملة اعتقالات داخل تركيا بينما سلاح الجو التركي يشن غارات على مواقع مقاتلين اكراد في شمال شرق سوريا وفي منطقة سنجار في شمال غرب العراق. ويعتبر بعض القادة الاتراك هذه الهجمات تعزز سلطات اردوغان وتتيح له ان يقود بشكل انجع "الحرب على الارهاب" التي يخوضها النظام التركي على ثلاث جبهات تتوزع على جماعة غولن والمعارضين الاكراد والجهاديين.
لم تكتفي الحكومة التركية بالاعتقالات وشن الهجمات وغيرها من الإجراءات التعسفية والتي تعتبر انتهاكا لحرية وديمقراطية المواطنين فقد قامت هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التركية (بي.تي.كيه) بحجب أكبر موقع معلوماتي في الانترنت وهو موقع الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) استنادا إلى قانون يسمح لها بحجب المواقع التي تعتبر فاحشة أو تمثل تهديدا للأمن القومي.
لذا صوتت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا مؤخرا على قرار يضع تركيا تحت المراقبة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، ودعت أنقرة إلى "اتخاذ تدابير عاجلة لاستعادة حرية التعبير وحرية وسائل الإعلام". فقد حلّت تركيا في المرتبة 155 (من أصل 180) في ترتيب لحرّية الصحافة للعام 2017 نشرته منظمة مراسلون بلا حدود التي تشير الى "مطاردة وسائل الإعلام المنتقدة". حيث استغلت السلطات التركية حالة الطوارئ لتكميم أفواه الصحفيين والتضييق عليهم، وإلجام الصحف ووسائل الإعلام، وتسليط سيف قانون مكافحة الإرهاب على رقاب المعارضين، ومخالفي الرأي، واعتقالهم بالمِئات والآلاف.
احترام كامل لدولة القانون
من اجل ذلك طالب الامين العام لحلف شمال الاطلسي ينس ستولتنبرغ تركيا بـ"احترام كامل لدولة القانون"، وصرح ستولتنبرغ عند وصوله للمشاركة في اجتماع للاتحاد الاوروبي في مالطا "من المؤكد ان لتركيا الحق في الدفاع عن نفسها وفي ملاحقة المسؤولين عن محاولة الانقلاب الفاشلة، لكن ذلك يجب أن يتم في اطار الاحترام الكامل لدولة القانون". فرانس برس.
وأكد ستولتنبرغ في مالطا حيث سيلتقي وزراء دفاع الاتحاد الاوروبي ان "تركيا حليف أساسي ولعدة أسباب، خصوصا بسبب وضعها الجغرافي الاستراتيجي كونها تقع على حدود العراق وسوريا مع كل الاضطرابات واعمال العنف التي نشهدها، لكن ايضا قريبة من روسيا على البحر الاسود. وأضاف ان "تركيا شهدت عدة هجمات ارهابية. لم يشهد أي حليف آخر عددا مماثلا". وتركيا هي ثاني قوة عسكرية في حلف شمال الاطلسي بعد الولايات المتحدة.
حملات تطهير
من جهتها اعتقلت السلطات التركية 1120 شخصاً يُشتبه بتأييدهم لغولن المتهم بالضلوع في محاولة الانقلاب في تموز/يوليو 2016. وفي المجموع، صدرت مذكّرات توقيف بحق أكثر من 3200 شخص وقد تحرّكَ 8500 شرطي لاعتقالهم، وفق وكالة انباء الاناضول. من جهة ثانية، أوضحت الشرطة التركية في بيان على موقعها الإلكتروني أنه تم تعليق مهام 9103 من عناصر الشرطة لسبب يتعلق بالأمن الوطني، إذ انّه يُشتبه في أنّ لهم صلة أو اتصال مع شبكة غولن. وفق فرانس برس.
وقالت الحكومة التركية لوكالة رويترز إن السلطات طردت أكثر من 3900 شخص من العاملين بالحكومة والجيش وقطاع الأمن وهذه ثاني عملية تطهير على نطاق كبير منذ فوز معسكر نعم في استفتاء 16 أبريل نيسان الذي يمنح الرئيس طيب إردوغان صلاحيات واسعة. إن من بين المطرودين 1127 موظفا من وزارة العدل بينهم حراس سجون وموظفون و484 أكاديميا و201 من العاملين في وزارة الشؤون الدينية.
نتيجة الاستفتاء
وتأتي هذه الحملة الأكبر في الأشهر الأخيرة، بعد عشرة أيام على فوز مثير للجدل لاردوغان في استفتاء على تعديل دستوري لتحويل النظام من برلماني إلى رئاسي. وشككت المعارضة في شرعية فوز اردوغان. واعلن أبرز أحزاب المعارضة التركية "حزب الشعب الجمهوري" انه سيتقدم بطعن الى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان احتجاجا على نتيجة الاستفتاء.
وأحدث الاستفتاء انقساما كبيرا داخل تركيا. ويقول إردوغان إن تعزيز الرئاسة سيقي البلاد انعدام الاستقرار الذي تعاني منه الحكومات الائتلافية في وقت تواجه فيه تهديدات أمنية من متشددين إسلاميين وأكراد. لكن منتقديه يخشون توغلا في حكم شمولي يقوده زعيم يرون أنه عاكف على تقويض الديمقراطية في الدولة التركية الحديثة وأسسها العلمانية.
زيارة مهمة
أيضا تأتي حملة الاعتقالات الواسعة، قبل ثلاثة أسابيع من زيارة مهمة يجريها اردوغان الى الولايات المتحدة، حيث ستشكل المطالبة بتسليم غولن الذي يعيش هناك منذ عام 1999 أحد أبرز عناوينها. ولطالما طالبت الحكومة التركية الولايات المتحدة بتسليمها غولن لكن بدون جدوى.
وبحسب وزير الداخلية التركي سليمان صويلو فإنّ الاعتقالات هدفت الى "تطهير" صفوف الشرطة من العناصر الذين يُشتبه بتأييدهم غولن. وأشارت "الأناضول" إلى إصدار مذكّرات اعتقال بحق 390 مشتبها به في اسطنبول وحدها. وفق فرانس برس.
القصف التركي
من جهة أخرى شن سلاح الجو التركي غارات على مواقع مقاتلين اكراد في شمال شرق سوريا وفي منطقة سنجار في شمال غرب العراق، وأوقعت أكثر من ثلاثين قتيلا. واستهدفت الضربات وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا وادت الى مقتل 28 شخصا معظمهم من المقاتلين. وفق فرانس برس.
واصابت موقعا للبشمركة في العراق وقتلت ستة من عناصرها. وعبّرت الولايات المتحدة عن "قلقها العميق" ازاء القصف التركي. لكنّ أنقرة اكدت أنها أبلغت واشنطن وموسكو مسبقا بالضربات. وقصف الجيش التركي مجددا مواقع لمقاتلي حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.
حملة تشويه ضد تركيا
هذا وقد قالت هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التركية في بيان على موقعها على الإنترنت "بعد تحليل فني واعتبارات قانونية... تم اتخاذ إجراء إداري تجاه هذا الموقع (ويكيبيديا دوت أورج)". واستشهدت بقانون يتيح لها حجب صفحات إلكترونية فردية أو مواقع بأكملها لحماية النظام العام أو الأمن القومي أو صالح المواطنين.
ومن المرجح أن تزيد هذه الخطوة من قلق جماعات حقوقية وحلفاء تركيا الغربيين الذين يقولون إن أنقرة قلصت بشكل كبير حرية التعبير والحقوق الأساسية الأخرى في حملة تلت محاولة الانقلاب الفاشلة العام الماضي. وفق وكالة رويترز.
ونقلت وكالة الأناضول للأنباء عن وزارة الاتصالات التركية قولها إن ويكيبيديا تحاول إدارة "حملة تشويه" ضد تركيا وإن بعض المقالات تدعي إن أنقرة تنسق مع جماعات متشددة. ونسبت الوكالة إلى الوزارة القول في بيان "بدلا من التنسيق ضد الإرهاب أصبحت (ويكيبيديا) جزءا من مصدر معلومات يدير حملة تشويه ضد تركيا على الساحة الدولية."
حجب مواقع الكترونية
في نفس السياق قالت مجموعة (تركي بلوكس) لمراقبة الإنترنت على موقعها الإلكتروني إنها رصدت حجب موقع ويكيبيديا بجميع لغاته الساعة الثامنة صباحا بالتوقيت المحلي (0500 بتوقيت جرينتش) يوم السبت. وتابعت أنه عند محاولة دخول الموقع عبر مزودي خدمة الإنترنت في تركيا ظهرت للمستخدمين رسالة تفيد بعدم إمكانية الوصول إلى الموقع وتنص على "انتهاء مدة الاتصال".
وتتهم مجموعات مراقبة الإنترنت تركيا بحجب مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر أو فيسبوك خاصة في أعقاب هجمات المسلحين. ونفت الحكومة في الماضي حجب مواقع إلكترونية وألقت باللوم في ذلك على أعطال ناجمة عن الإقبال الشديد على المواقع بعد الأحداث الكبيرة. لكن خبراء فنيين في مجموعات المراقبة يقولون إن حجب مواقع التواصل الاجتماعي متعمد ويهدف جزئيا إلى الحيلولة دون انتشار الصور والدعاية التي ينشرها المسلحون.
أساليب حرب غير تقليدية
على صعيد ذي صلة يسعى ممثلو ادعاء أتراك إلى استصدار أحكام بالسجن تصل مدتها إلى 43 عاما على صحفيين من صحيفة معارضة رائدة في اتهامات بدعم منظمة إرهابية واستهداف الرئيس طيب إردوغان من خلال "أساليب حرب غير تقليدية". وجاء في لائحة اتهام اطلعت عليها رويترز أن شبكة رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة فتح الله كولن "استولت" فعليا على صحيفة جمهوريت وأنها استُخدمت "للتغطية على أعمال جماعات إرهابية".
وأوردت لائحة الاتهام أسماء 19 صحفيا، منهم 12 اعتقلوا بالفعل، وبينهم كاتب العمود الشهير قدري جورسيل وأحمد سيك الذي ألف في وقت من الأوقات كتابا ينتقد حركة كولن. الصحيفة الاتهامات بأنها "خيالية وافتراء" وقالت إن بعض الشهادات الواردة في لائحة الاتهام جاءت من أفراد كانوا يعتبرون في السابق من المقربين لكولن. وكتبت على صدر صفحاتها "أطلقوا سراحهم فورا."
وكان قد حكم العام الماضي بالسجن 5 سنوات على رئيس تحرير السابق ليومية جمهوريت، جان دوندر، الذي فر إلى ألمانيا، بسبب مقال يتهم الحكومة التركية بإرسال أسلحة إلى سوريا. وأكد موقع P24 المدافع عن حرية الصحافة، إن 141 صحفيا مسجونون في تركيا، معظمهم تم سجنه تحت حالة الطوارئ المعلنة منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة.
مراقبة حقوق الانسان
ورد في تقرير أعدته النائبة المعارضة زينب ألتيوك أن حملة التطهير في القطاع العام منذ الانقلاب حرمت 1.5 مليون تلميذ من مدرسيهم. وأضاف التقرير أن الدولة وضعت يدها على أكثر من 600 شركة وأوقفت سريان 140 ألف جواز سفر وأقالت 65 رئيس بلدية منتخبا.
وقال خبراء حقوقيون بالأمم المتحدة إن عمليات الإغلاق تلك قوضت فرصة الجدال القائم على المعلومات في مرحلة الاستفتاء وإن حالة الطوارئ التي فرضت بعد محاولة الانقلاب باتت ذريعة تبرر الإجراءات القمعية التي ربما تكون مجرد بداية في حالة فوز إردوغان بسلطات أوسع بعد الاستفتاء. وفق رويترز.
لذلك صوّت نواب من جميع أنحاء اوروبا لاعادة مراقبة حقوق الانسان في تركيا، ما اثار غضب انقرة وسط استمرار تدهور علاقاتها مع الاتحاد الاوروبي. وتجعل هذه الخطوة التي قررتها الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا من تركيا أول بلد بين الدول الـ47 الاعضاء في المجلس تحت المراقبة بسبب مخاوف بشأن طريقة الحكم هناك. بحسب ماورد من وكالة فرانس برس.
اضف تعليق