عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث يوم الاربعاء الموافق 28/9/2016 حلقته النقاشية الشهرية تحت عنوان (أخلاقيات السياسة.. قراءة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر)، والتي هدفت إلى بحث اخلاقيات العمل السياسي في وقت يعاني فيه النظام السياسي المعاصر من اختلالات هيكلية كبيرة في هذا المفهوم.
أدار الحلقة مدير المركز حيدر الجراح، والذي أوضح أن اهمية الموضوع تأتي من خلال ما نشهده في الواقع الحالي من حيث الانفصام التام والفادح بين الفعل السياسي والاخلاقيات الناظمة لهذا العمل.
خصوصا وان العلاقة بين الاخلاق والسياسة يمكن تناولها من خلال اربعة اشكال او طرق حسب المفكر الفرنسي آران غورين..
أ_ الواقعية السياسية وهي طريقة تؤثر سلبا على السياسة وتؤدي في نظر البعض الى الإفلاس
ب_ رفض السياسة واعتبارها مناقضة للأخلاق
ج_ المحاولة اليائسة لتخليق السياسة وهي غالبا ما تنتهي بتسيس الاخلاق
د_ البحث المستمر عن تقريب السياسة من الاخلاق وليس تقريب الاخلاق من السياسة
وذلك عبر النقد والنقد الذاتي المتواصل كحل وحيد لتنظيم هذه العلاقة المستحيلة على حد قول المفكر الفرنسي.
يضيف الجراح، ان الاعراض عن الفريضة الاخلاقية لحظة القيام بالعمل السياسي لا يعني انكارها فحسب، بل نفيها بكل بساطة، اذ ان مسؤولية الانسان الاخلاقية هي تحديدا اخلاصه لقناعاته في عمله في العالم، ولا يجوز للسياسي ان يتهرب من الفريضة الاخلاقية بما ان وظيفتها هي بالضبط تحديد معنى عمل الانسان بين غيره من البشر.
يكمل الجراح، والسياسة الاخلاقية والاخلاق في السياسة تتجلى فيما يلي..
1_ ان يهدف السياسي في نشاطه العملي لتحقيق مصالح المجتمع وليس انتزاع السلطة والاحتفاظ بها من اجل مصالح ذاتية ضيقة.
2_ مراعاة السلطة للتوازن بين ما يمكن القيام به من اجل الصالح العام وبين حقوق الانسان.
3_ السياسة الاخلاقية لا تلجأ لاستخدام العنف الا في حالة الضرورة القصوى وبالحد الادنى
هذا وقد اشار الجراح، ان الأمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) قدم اطروحات متميزة في هذا الجانب، وهو كثيرا ما يؤكد على هذا الارتباط الوثيق بين الاخلاق والسياسة سوآءا على مستوى القادة او على مستوى القائمين بالحركات الاسلامية، فمن صفات الحاكم الاسلامي انه (رجل مؤمن يفقه الدين تماما ويعرف شؤون الدنيا ويتحلى بالعدالة التامة).
يضيف ايضا، فمهما توفرت هذه الشروط ورضي به اكثر الناس يبقى حاكما ولو لخمسين سنة، واذا فقد احدى هذه الشروط عزل عن منصبه فورا، ولكن اذا لم ترض الامة ببقائه رئيسا حق لهم تبديله الى غيره ممن جمع الشرائط، ومن شروط الحاكم ايضا زهد القادة.
يضيف الجراح نقلا عن الامام الشيرازي، فيما يتعلق بأخلاقيات الحركات سواء كانت احزاب او منظمات او جمعيات او غير ذلك، والتي تنشد قيام الدولة الاسلامية فيجب ان يتسم القائمون عليها بالاستقامة اضافة الى النزاهة،قلبا، لسانا، اذنا، عينا، يدا، رجلا، جنسا، مالا، اهلا، لان الاسلام بناء متكامل بينما غير الاسلام هدم، وايضا على القائمين على الحركات الاسلامية ان يتزهدوا في الدنيا.
الصدق هو مفتاح الحكم
هذا وقد استضاف المركز الدكتور محمد ابراهيم رئيس قسم العلوم السياسية والدولية في الجامعة الاسلامية في النجف الاشرف، حيث يرى ان الحديث عن امير المؤمنين علي (ع) هو حديث عن رسول الله(ص)، وبالتالي هو الحديث عن الله(سبحانه) وخير مصداق على ذلك، عندما شاهد عبد الله بن عباس الخوارج يسبون الامام علي(ع) قال لهم لماذا تسبون الله قالوا له نحن لم نسب الله وانما نسب امير المؤمنين الامام علي(ع) قال اما سمعتم قول رسول الله(ص)( ياعلي من سبك فقد سبني ومن سبني فقد سب الله)، وهو المصداق الحقيقي لرسول الله وللإسلام.
وتطرق ابراهيم، الى ان الإسلام عموما بني على هذه الحقيقة وهي الاخلاق ولا يمكن باي حال من الاحوال ان نفصل الاخلاق عن السياسة، لان السياسة هي جزء من الدين او بالأحرى هي الدين نفسه.
الحديث عن عهد الامام علي(ع) لمالك الاشتر وعن المنظومة الاخلاقية التي دائما ما كان يدعو اليها من خلال وصاياه وتوجيهاته الى انصاره ومحبيه، نجد ان الجوهر هنا هو الجانب الاخلاقي، فالإسلام ركز كثيرا على مسالة الاخلاق وهناك نوع من انواع التكامل ما بين السياسة وما بين الدين، وبين السياسة وبين الاخلاق، ولهذا عندما نقرأ بعض فقرات ذلك العهد نجده مبنيا اساسا على المنظومة الاخلاقية او بالأحرى على المبدأ الثلاثي وهو الصدق السياسي والالتزام بالعهود والمواثيق ومعايشة الامة.
واشار ابراهيم ايضا، الى ان امير المؤمنين (ع) دائما ما يركز على الجانب الاخلاقي وجانب الصدق، فالكذب هو الجانب المفسد في الحياة السياسية والحياة الاجتماعية.
بعض الغربيين ركزوا على مفهوم الجماعية والقسم الاخر منهم ركز على المفهوم الفردي، الا ان الاسلام وعهد مالك الاشتر خلق نوعا من انواع التوازن بين الجانب الفردي والجانب الجماعي.
فكانت الركيزة الاساسية لعهده لمالك الاشتر هي الصدق وان ملامح ذلك التوجه قد نلمسه من مراسلات الامام علي(ع) لمعاوية حينما قال( وما معاوية ادهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من ادهى الناس).
يضيف ايضا، لذا يجب ان يكون رجل السياسة صادقا في كلامه، فلولا الصدق لما تحصل هناك عهود ومواثيق، وحتى البرامج السياسية لابد ان تكون حقيقية وصادقة حتى ينتبه لها المواطن العراقي، ففي هذه الوثيقة الأمام علي(ع) يوضح لمالك الاشتر تلك الرابطة القوية بين الصدق والحياة وبين الكذب والموت حيث يقول( الكذاب والميت سواء).
كما اكد ابراهيم، انه تشبيه رائع ووصف دقيق ففضيلة الحي على الميت الثقة به، فاذا لم يثق بكلام السياسي فقد بطلت حياته، فالإصلاح يبدأ من الاعلى الى الاسفل وليس العكس، فصلاح الحاكم صلاح الامة وفساد الحاكم او الحكومة فساد الامة، وعلى هذا الاساس نجد الجانب السياسي مؤثر على كافة القطاعات وكذلك الحال الحاكم السياسي هو ايضا مؤثر سلبا او ايجابا وتلك الحقيقة لم تغب عن رؤية الامام على(ع) لأنه مسدد من الله (سبحانه).
وفي السياق ذاته قال ابراهيم، ان السياسية الغربية فيما بعد التزمت الثلاثية التي طرحها الامام علي(ع) وبالتالي كانت تلك الوثيقة تحمل بين طياتها الكثير من التعابير الناقمة على التمايز الطبقي وضرورة تحقيق العدل والمساواة حتى في توزيع الحقوق.
لكن السياسات الغربية فهمت الواقعية على عكس ما فهمها امير المؤمنين(ع) الواقعية هي الحيل عند المفهوم الغربي ينظرون الى الشعب نظرة الذئب لفريسته اما نهج الامام علي(ع) حيث يوصي مالك الاشتر(( وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والْمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ. ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ : إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الخلق).
وهو لم يجبر في ايام حكمه اي احد على مبايعته حملا لشعار (لا اكراه في الدين)، وكان دائما ما يشيع حالة الصفح والاهتمام بالرعية ومعايشة العامة والنظر في امور الناس وعدم الابتعاد عن الامة.
المداخلات
الدكتور خالد العرداوي مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية، يرى" ان عهد الامام علي(ع) يعتبر من الوثائق المهمة جدا في ضبط ونظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم لدى المسلمين، وقد سبق ذلك العهد القران الكريم ووثيقة المدينة المنورة التي حصلت في السنة الاولى للهجرة، عهد الامام علي(ع) يحمل بين طياته معاني واسعة وواسعة جدا قد لا يسعها ضيق وقت المحاضرة".
" على العالم الاسلامي اليوم ان يتحرر من التخندق والتطرف الفكري وذلك من اجل ترسيخ مبدا التعايش والرحمة والعدل واختيار الحاكم الجيد بناءا على مواصفات ومقاييس الاسلام الحقيقية".
يضيف العرداوي" اننا بحاجة ان نعرف سياسة الصالحين وسياسة الفاسدين، الاخيار دائما يتكلمون عن سياسة خيرة جيدة والفاسدين دائما يتكلمون عن سياسة ماكرة مخادعة تستهدف القهر، تستهدف الارهاب، تستهدف بناء سلطة الحاكم، وعلى هذا الاساس يمكن تشخيص اي من السياستين يعمل بها"
يكمل العرداوي ان موضوع العهد يحتاج للكثير من الجوانب المهمة التي تحاكي الجانب الفقهي، الجانب الاصولي، والجانب السياسي والاجتماعي، وهو ينطوي على معايير شتى، لذلك على الحاكم ان يستقرأ تاريخ شعبه حتى يعرف كيف يحدث الفرق.
الدكتور قحطان حسين الباحث في مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، يرى "ان موضوع التلازم بين الاخلاق والسياسة يراه البعض بانه فكرة غاية في المثالية بعيدة عن التحقق على ارض الواقع، لكن واقعا السياسة هي الاخلاق بحد ذاتها، خصوصا وان المجتمع في بداية ظهوره وثقافته البسيطة كان سهلا للانقياد نحو القيم الاخلاقية.
يضيف حسين، فما بالك ونحن اصبحنا نعيش في مجتمع انساني معقد وواسع متطلبات الحياة فيه اختلفت، وبالتالي اصبح من الصعب الانقياد للقيم الاخلاقية، فالسياسية الشرعية اصبحت للأسف وباعتراف الكثير من المتخصصين اصبحت فكرة مثالية لسبب بسيط كون التجارب الحياتية الانسانية على صعيد الحكم تبرز لنا نماذج كثر لقادة انقلبوا على ذاتهم وتمردوا على جميع القيم والاخلاقيات السلوكية وكأنما السياسة والحكم يستلب من الشخص المثل والاخلاقيات.
احد جويد مدير مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات، يعتقد، ان الحديث عن اخلاقيات السياسة حديث واسع وربما يذهب البعض الى حد القول بان السياسة لا اخلاق فيها، لكن عندما يرتبط الامر في قراءة عهد الامام علي(ع) نعود ونؤكد بان السياسة في صلب الاخلاق.
اليوم العالم يواجه مشكلة في القضايا القيمية والاخلاقية وان منبع الاخلاق هو الصدق خصوصا وان الكثير من النصوص القرآنية دائما ما تبين فضيلة الصدق ومكانة الصادقين لاسيما وان الصدق له عدة مشارب منها الصدق مع الله ومع الناس ومع النفس وهو من اصعب انواع الصدق، الإنسان المتصدي للسياسة لابد ان يتوفر فيه عنوان الصدق حتى يضمن تلازمه مع المنظومة الاخلاقية بكل توصيفاتها وعناوينها الفرعية الاخرى.
يضيف جويد، ان حق اختيار الحاكم حق من حقوق الله وبالتالي هو يراد منه حماية حقوق الانسان وعهد مالك الاشتر في جله جاء لحماية هذه الخصوصية، سياسة امير المؤمنين(ع) كانت مبنية على احترام حقوق الانسان، وعلى حفظ كرامة الانسان.
الباحث محسن وهيب عيد يعتقد، بان الناس تخلط بين السياسة وبين النظرية السياسية، الاسلام مثلا لديه فلسفة في السياسة خاصه له وكذلك الحال بالنسبة للشيوعية والرأسمالية والليبرالية، الا ان واقع الحركة السياسية اليوم يكاد ان يضرب الفلسفات جميعا، فالسياسة اليوم تمثل اخلاق الحاكم وليس لها علاقة بالفلسفة السياسية التي هي مدار الحكم.
السياسة هي نظام ادارة الدولة والناس، هذا النظام يحتاج الى حاكمية، وبالتالي ان السلطة لها مصدران الاول إلهي ليفوض بعد ذلك المعصوم فالأخلاق السياسية تكون صحيحة وصادقة مع فلسفة السياسة اذا كان هناك تطابق في الطاعة مع المعصوم، فلابد ان نسعى الى نظام مرجعي يمثل نظام الملة، عسى ان نقلل بها الاخطاء وان لا يكون الحكم فرديا وحتى المرجعية لابد ان يكون هناك مجلس للمجتهدين.
الشيخ مصطفى معاش يرى، ان قراءة عهد الامام علي(ع) يحتاج لفترات زمنية طويلة حتى نستوعب تفاصيل تلك الوثيقة، الشيء الاخر السياسي نفسه لا يمتلك القناعة الكاملة بان السياسة لا اخلاق معها.
الشيخ مرتضى معاش رئيس مجلس إدارة مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام قال "بداية اختلف مع ما أورد بان اخلاقيات الحاكم هي من تشكل السياسة، وبالتالي هي نابعة من جوهر وجود الانسان خصوصا وان تعريف الفكر السياسي ( هو احداث التوازن بين البشر وبناء مجتمع قائم على العدالة والحرية وتكافؤ الفرص).
فالمشكلة الاساسية تقوم على وجود منهجين: منهج يؤمن بقاعدة البقاء للأصلح او للأقوى او للأفسد، ومبدأ اخر يبحث عن احترام حريات الناس وحقوق الانسان واحترام العدالة، وهذا ما لمسناه في منهج الامام علي(ع) وهو منهج الحرية والعدالة والمساواة وعدم التفاوت وعدم الطبقية، ومنهج معاوية الذي هو يكرس الوحشية والتوحش والداعشية وقتل الناس واغتيالهم.
وكذلك ايضا منهج ميكافيلي الذي هو اصبح الان منهج الفلسفة الغربية في الحكم، فالغرب الذي يدعي ويتشدق بالمبادئ الانسانية وبحقوق الانسان وبالحريات والعقد الاجتماعي، هو الان يتبنى فكرة ان المصالح فوق المبادئ.
يضيف معاش، ان السياسة الحقيقية هي السياسة الفطرية التي تتمحور حول العدالة والحرية والعيش الاجتماعي المشترك، فعهد مالك الاشتر هو قمة الفلسفة السياسية التي تبحث عن تحقيق مجتمع انساني واقعي، اما المثالية الرومانسية فهم دعاة العنف ودعاة الحروب ودعاة الوحشية وصناع الكوارث.
ومن خلال ذلك يحققون غايات اهمها قمع الحريات بهدف صنع مجتمع آمن وهو شعار وهمي ومزيف، حيث لا توجد عدالة عندما لا توجد حرية، فالسياسة هي بناء مجتمع انساني قائم على الحرية، كما ان الكون كله يقوم على الرحمة وليس على القسوة لان في حال وجود القسوة الكون يختل. فالتوازن في الحياة والمجتمع قائم على الرحمة وعلى التنوع وعلى التعددية وعلى خلق الانسجام بين مختلف الناس.
ويضيف ايضا، فليست سياسة عندما يكون الحاكم عندما متسلطا وقاسيا وعنيفا ويظلم الاخرين، وفي الزيارة الجامعة التي هي قمة فكر اهل بيت الرحمة (ص) نص يقول (وساسة العباد) وهذا النص يرمز الى طريق الاعتدال والوسطية واحترام الاخر والتسامح، وهذا هو الذي يحقق التوازن في الكون ويحقق السياسة الحقيقية والرحمة الالهية.
واخيرا، هناك كلمة لاحد المفكرين الاستراتيجيين وهو ليدل هارت يرى فيها، ان الغاية لاتبرر الوسيلة، بل لابد ان تكون الوسيلة في خدمة الغاية، فالعقول الفاسدة التي تبرر الفعل والسلوك المنافي للخلق والغادر والمزور والخائن والفاسد لاتحقق سلطة سليمة ناجعة، لان اهم غايات ومخرجات السياسة هي الرحمة، الوفاء، الصدق، العدالة، ازالة التفاوت الطبقي في المجتمع، أي إدارة العباد والاوطان.
اضف تعليق