(رويترز) - في 30 مايو أيار اقتحمت قوات عراقية خاصة المشارف الجنوبية لمدينة الفلوجة تحت غطاء جوي أمريكي وشنت هجوما جديدا لاستعادة واحدة من آخر المدن الكبرى الخاضعة لسيطرة مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية.
والقوات العراقية الخاصة التي تقود القتال تلقت تدريباتها على أيدي مستشارين أمريكيين لكن كثيرين غيرهم في ساحة المعركة دربتهم إيران أو زودتهم بالسلاح. وهذا أحدث مثال على الطريقة التي أشاحت بها واشنطن بوجهها بينما راحت إيران تعمل على تعميق دورها العسكري في العراق في العامين الأخيرين.
وفي الأسابيع الأخيرة تجمع آلاف الجنود العراقيين وأفراد الفصائل الشيعية المدعومين من إيران على مشارف الفلوجة استعدادا للهجوم المنتظر على المدينة السنية. وخلال الاستعداد للهجوم التقى الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس - فرع العمليات الخاصة في الحرس الثوري الإيراني - بقادة التحالف العراقي من الفصائل الشيعية المعروف باسم قوات الحشد الشعبي، وندد الساسة من السنة في العراق بدور سليماني وغيره من المستشارين الإيرانيين في التحضيرات على أرض المعركة وقالوا إن ذلك قد يذكي التوتر الطائفي ويفتح الباب أمام جولة جديدة من إراقة الدماء بين السنة والشيعة.
كما يشكك هؤلاء الساسة في تأكيدات الحكومة العراقية أن الهجوم جهد خالص بقيادة عراقية لإنزال الهزيمة بالدولة الإسلامية. وقال عضو في البرلمان العراقي من الفلوجة "وجود سليماني سبب للقلق. فهو ليس موضع ترحيب على الإطلاق في المنطقة"، وكان قادة الفصائل الشيعية تعهدوا بألا يشاركوا في الهجوم الرئيسي على المدينة والمساعدة بدلا من ذلك في تأمين المدن القريبة منها وفرض حصار على مقاتلي الدولة الإسلامية. لكن معركة الفلوجة تسلط الضوء على النفوذ العسكري والسياسي المتنامي لإيران في العراق الذي دمرته حرب أهلية معقدة جعلته عرضة للتدخلات الخارجية.
ولو أن ثمة طرفا إقليميا واحدا استفاد أكثر من غيره من مقامرة أمريكا في العراق فهو إيران. فقد أطاحت الولايات المتحدة بالغزو الذي نفذته عام 2003 بصدام حسين ألد أعداء طهران من السلطة. ثم ساعدت واشنطن في تنصيب حكومة شيعية للمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث. ومع تورط القوات الأمريكية في الحرب على تمرد وفي احتواء حرب أهلية نشرت إيران نفوذها ليشمل كل الفصائل الشيعية الكبرى في العراق.
واليوم يشعر النظام الإيراني بارتياح وهو يقوم بدور رئيسي في تشكيل العمليات العسكرية لحلفائه العراقيين. فما من أحد يكبح طهران كما أن صعود تنظيم الدولة الإسلامية التي تعتبر الشيعة من المرتدين يهدد مصالح إيران وجميع الفصائل الشيعية العراقية.
وللنظام الإيراني عدة مصالح في الدولة المجاورة فالعراق يمثل عمقا استراتيجيا وفاصلا في مواجهة السعودية والدول العربية السنية الأخرى التي تنافس إيران على الهيمنة على الخليج الفارسي. وعموما فإن إيران تريد ضمان ألا يمثل العراق مرة أخرى خطرا وجوديا على المصالح الإيرانية مثلما فعل (صدام) حسين عندما غزا إيران عام 1980 لتبدأ الحرب الإيرانية العراقية التي ألحقت دمارا واسعا بالبلدين على مدى ثماني سنوات.
وكانت الدول العربية السنية وأغلب القوى الغربية أيدت حسين. (والشيعة هم الأغلبية في العراق لكن منذ استقلاله عن بريطانيا في 1932 حكمت الأقلية السنية البلاد حتى الغزو الأمريكي عام 2003.) وستفعل إيران كل ما هو ضروري لإبقاء حكومة صديقة يقودها الشيعة في السلطة في بغداد.
وقد تفوقت إيران في لعبة الصبر لاسيما في العراق. فاستعداد طهران لتوزيع المال على وكلاء مختلفين وفصائل مختلفة منحها قدرة كبيرة على الحركة في المناورة في الحياة السياسية العراقية. فقد قدرت برقية أرسلها كريستوفر هيل السفير الأمريكي لدى العراق للمسؤولين في وزارة الخارجية في نوفمبر تشرين الثاني عام 2009 أن المساعدات المالية من طهران للوكلاء العراقيين تتراوح بين 100 و200 مليون دولار سنويا.
كذلك أبدت الجمهورية الإسلامية استعدادا للاستثمار عبر الخطوط الطائفية. فقد كتب هيل في برقيته أن إيران "تعترف بأن النفوذ في العراق يستلزم مرونة في العمليات (وفي بعض الأوقات مرونة عقائدية). وأضافت البرقية "ونتيجة لذلك فليس من الغريب أن تمول حكومة جمهورية إيران الإسلامية كيانات شيعية وكردية بل وإلى حد ما سنية وتدعمها بهدف تطوير اعتماد الدولة العراقية على سخاء طهران".
ومثل بعض جيران العراق الآخرين استخدمت إيران سخاءها للمساهمة في إذكاء التمرد العراقي والحرب لأهلية وإطالة أمدهما. وقد قام الحرس الثوري الإيراني بتمويل وتسليح وتدريب فصائل شيعية عديدة استهدفت القوات الأمريكية والطائفة السنية في العراق. وقدم الإيرانيون متفجرات ومدافع رشاشة وقذائف صاروخية وغيرها من الأسلحة الصغيرة. كما استقدموا رجال فصائل عراقية إلى إيران لتدريبهم على استخدام المتفجرات والقنص.
وبعد أن اجتاح مقاتلو الدولة الإسلامية شمال العراق في يونيو حزيران عام 2014 قامت طهران من جديد بتعبئة لحماية الحكومة التي يقودها الشيعة من خطر المتشددين من السنة. وسافر سليماني إلى بغداد في بداية الأزمة لتنسيق الدفاع عن العاصمة مع المسؤولين العسكريين العراقيين. كما وجه فصائل شيعية دربتها إيران في القتال ضد الدولة الإسلامية ومنها كتائب بدر وعصائب أهل الحق وهما فصيلان شهيران مسؤولان عن ارتكاب فظائع واسعة النطاق بحق السنة. وفي ضوء ما حل بالجيش العراقي من ضعف وفساد ثبت أن الفصائل لها أهميتها في وقف تقدم الجهاديين.
ومنذ منتصف عام 2014 قدمت إيران أطنانا من العتاد العسكري لقوات الأمن العراقية كما عملت على توجيه طائرات المراقبة بلا طيار سرا من قاعدة جوية في بغداد. وأرسلت أيضا مئات من مقاتليها من فيلق القدس لتدريب القوات العراقية وتنسيق تحركاتها.
وقد دفعت إيران ثمن تعميق دورها العسكري. ففي ديسمبر كانون الأول عام 2014 قتل البريجادير جنرال حامد تقوي أحد قادة الحرس الثوري بنيران قناص في مدينة سامراء العراقية بينما كان يتولى تدريب قوات العراقية ومقاتلي فصائل شيعية. وكان تقوي أرفع مسؤول إيراني يقتل في العراق منذ الحرب الإيرانية العراقية. وتجمع آلاف من أفراد الحرس الثوري للمشاركة في جنازته في طهران حيث قال علي شمخاني رئيس المجلس الأعلى للأمن الوطني للمشيعين "لو لم تسل دماء أناس مثل تقوي في سامراء لسالت دماؤنا" في إيران.
ومن جانبهم جادل قادة العراق بأنه ما دامت الولايات المتحدة لا تقدم المساعدة العسكرية فليس أمامهم خيار سوى أن يطلبوا من إيران المزيد من المساعدة. وقال حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي في مقابلة تلفزيونية في أواخر 2014 إنه عندما تتعرض بغداد للخطر فإن الإيرانيين لن يترددوا في تقديم المساعدة.
ورغم أن العبادي أشار إلى أنه يريد أن يكون أكثر قربا من الغرب فهو يحتاج دعم إيران وحلفائها العراقيين لإبقاء حكومته في السلطة. ولولا قيام الفصائل المدعومة من إيران بدور القيادة في القتال خلال العامين الماضيين لما استعادت الحكومة العراقية ما استعادته من الأراضي من الجهاديين. ومن خلال مزيج من التمويل والتدريب للفصائل والدعم السياسي ستواصل إيران توسيع نفوذها على الجماعات الشيعية الرئيسية في العراق.
وللولايات المتحدة وإيران الآن مصالح مشتركة في إنزال الهزيمة بالدولة الإسلامية والحفاظ على نظام مستقر في بغداد يمكنه أن يسمو على الصراعات الطائفية. ويربط إدارة أوباما وطهران تحالف غير معلن رغم أنهما لا تنسقان مباشرة في العراق.
ودون تخصيص المزيد من القوات والموارد الأمريكية ليس بوسع واشنطن أن تفعل شيئا يذكر للتصدي للنفوذ الإيراني في العراق. ولن تتردد طهران في استخدام أدوات نفوذها الكثيرة في نطاق النفوذ السابق لصدام حسين.
اضف تعليق