الإعلام مطالب أن يقدم هذه الرعاية الثقافية لناشئتنا على أن تكون رعاية فاحصة تميز بين الأصيل والدخيل، وتعي مسؤوليتها تجاه ذلك، فتنقل كل ما هو صحيح ونافع وموثوق من المعتقدات والقيم والأفكار، وتعمل على غرس الفكر الصحيح في عقول أبنائنا، وتسعى إلى تنمية الحس الخلقي النبيل...
الإعلام هو أداة نشر المخزون الثقافي والحضاري الذي تمتلكه كل أمة، وصوتها البليغ في التعبير عن آرائها وأفكارها ومبادئها وتطلعاتها بين الأمم.
ويتلقى الطفل هذا الإعلام بعفوية تامة، ويتفاعل مع ما ينقله من مضمون ثقافي بسذاجة واضحة، وهو أكثر أفراد المجتمع استجابة لمعطياته، ووقوعاً تحت تأثيره، والإعلام بهذه الصفة من أهم الوسائل تأثيراً على تربية الطفل وبنائه الثقافي، وأشدها مزاحمة للأسرة والمدرسة على وظيفتهما التربوية الثقافية. وتأتي أهمية هذا الموضوع من كونه يبحث وضع الإعلام الموجه إلى الأطفال ومدى استثماره في تثقيفهم وتنشئتهم على المبادئ، ولا سيما بعد أن طرأت عليه متغيرات ساعدت في تطوره، وضاعفت من سرعته وفاعليته وتأثيره من خلال الهاتف والحاسب والأقمار الصناعية ووكالات الأنباء والمطابع ودور النشر والتوزيع والإعلان بالصورة العادية والملونة الناطقة والمتحركة، وتحوله إلى أداة خطرة على الناشئة الذين يعني الاهتمام بهم الاهتمام بحاضر الأمة ومستقبلها.
والتلفاز والأفلام يستحوذان على اهتمام كامل من جانب الجماهير خاصة الأطفال الذين يميلون إلى قبول جميع المعلومات التي تظهر في الأفلام، ويمكن إرجاع ذلك إلى أن الطفل يستمد، في الأغلب، خبراته ومعارفه عن طريق حاستي العين والأذن، ومن ثم تبقى المادة الإعلامية المصورة في مقدمة ما يجذب انتباه الأطفال، وتعود هذه الجاذبية إلى أن آليات فسيولوجية معينة في العينين والأذنين والدماغ تستجيب للمثيرات المنبعثة على شاشة التلفزيون بصرف النظر عن المضمون المعرفي للبرامج؛ لذا كان التلفزيون يأخذ وقتاً طويلاً من حياة الطفل.
لقد أكدت نتائج دراسات علماء الاجتماع والنفس تأثير التلفاز على ثقافة الأطفال ومعتقداتهم واتجاهاتهم وقيمهم، ومن هذه الدراسات دراسة أجريت في دولة عربية لمعرفة أثر التلفاز على الأطفال من سن 10-14 سنة، تبين أن 1.76% من عينة البحث التي بلغت (1500 أطفال) يميلون إلى تقليد البطل الذي يشاهدونه في الأفلام والمسلسلات، وأجاب 8.57% من العينة بأنهم يريدون أن يكونوا مثل البطل، وهذه النتيجة توضح أن الطفل لا يميل فقط إلى تقليد البطل بل يرغب في أن يتصف بصفاته، ويتجه اتجاهه، الأمر الذي يعكس خطورة ما تبثه أجهزة التلفاز من برامج على شخصية الطفل سلباً وإيجاباً، كما أظهرت بعض الدراسات أيضاً أن بعض الأطفال كانوا يقلدون ممثلي مسرحية "مدرسة المشاغبين" لفترات طويلة في التمرد على النظام التعليمي وعدم احترام المدرس والأب.
إن على التلفاز، الذي تبوأ مكانه في الصف الأول بين وسائل الإعلام الأخرى وبلغ هذه الدرجة من التأثير على الطفل بل وعلى المشاهد عموماً، أن يكون في المجتمعات العربية أداة فعالة في المساهمة في تنشئة الطفل ورعايته ثقافياً، وحماية المجتمع من الفساد القيمي والخلقي، وأن يصونه القائمون عليه من أن يكون أداة ضياع وإهدار للأوقات والجهود والأموال، وأن يستشعروا دوره الخطير المؤثر على الطفل.. إلى جانب الأسرة والمدرسة، فيخصوه ببرامج تثقيفية وتعليمية وترفيهية هادفة ومشبعة لحاجاته، وتتناسب مع عقليته وبيئته ومبادئه؛ وتكون بديلاً عن تلك الأفلام والبرامج الأجنبية بكل ما فيها من قيم ومفاهيم وتقاليد غربية، وَرّثت غموضاً وحيرة عند أطفالنا، وتبعية مطلقة لكل ثقافة وافدة.
لقد تحول التلفاز مع التقدم التكنولوجي المذهل في وسائل الاتصالات إلى وسيلة قوية تتجاوز الناحية الإقليمية والحدود السياسية للدول، وتعمل على تقارب المجتمعات، وتمازج الثقافات، وتداخل الحضارات، وأصبح حاضر الطفل اليوم مليئاً بالتحديات التكنولوجية من خلال الفضائيات المحملة بكل وسائل التأثير الفكري والعقيدي والخلقي. فكيف سيعيش الطفل العربي في هذا العالم المفتوح، خاصة إذا تم تعامله مع هذه الوسائل بعيداً عن التحصين الأسري ضد مخاطرها العقيدية والأخلاقية والنفسية والصحية؟! فالأقمار الصناعية اليوم هي أيسر وسيلة لنقل الإرسال إلى القارات بأسرها، وأقواها تأثيراً في تصدير الآراء والأفكار إلى الشعوب، أترى سيعيش الطفل حبيس والديه ومنزله معزولاً عن هذه الوسيلة المنتشرة التي اخترقت الحجب والآفاق، وأصبحت تحت السمع والبصر؟ إن بعض الناس قد يرفض هذه الوسيلة بسبب العجز عن المواجهة، وبعضهم قد يُقْبل عليها بسبب العجز عن الحصول على البديل، وكلا الأمرين استسلام.. إلا أن الرفض قد يُعَدُّ نوعاً من الحيطة، والإقبال نوعاً من الارتخاء.
لكن الحقيقة التي لا يجوز أن نعيش بعيدين عنها في ظل توهم المفسدة والتخوف منها؛ وهما سلبيتان تعودنا عليهما في التعامل مع الجديد الذي، في الأغلب ينتهي بقبولنا له على أنه مما عمت به البلوى دون غربلة وتمحيص يؤديان إلى اصطفاء الملائم لأطفالنا.. والحقيقة التي ينبغي أن نضعها في حساباتنا الحاضرة والمستقبلية وفي تقديرنا للأمور هي أن التلفزيون في عصرنا الحاضر، عصر البث الفضائي، سيكون الأكثر سيطرة على الرأي العام، وله الدور الأهم في صياغة عقلية المجتمع وتفكيره وسلوكاته، والأخطر من ذلك أنه قد يؤثر على العقائد والأخلاقيات وعلى آراء الإنسان أيا كان؛ ما يمثّل خطورة على الأجيال التي يتشكل وعيها وتكوينها من هذا البث المكثف.
إن التقدم الإعلامي التكنولوجي لم يقتصر على التلفاز وحده، وإن كان أكثر حظاً من غيره، بل تقدمت كل وسائل الإعلام، فأصبحت المجلات والصحف على جانب من الأناقة والجاذبية وسرعة في نشر الخبر وتوظيف المعلومة وحسن العرض، وصارت القصة ذات شأن عظيم وتأثير منقطع النظير مع تطور أساليب التعليم والتربية والعناية بالأدب الموجه وحسن إخراجها المقرون بالوسيلة والرسوم المعبرة، كما حاولت الإذاعة أن تحافظ على مكانتها الإعلامية عن طريق تنوع برامجها الخاصة بالأطفال، واعتمادها على مساهمتهم المباشرة كتابة ومهاتفة، ومع تطور هذه الوسائل ظهرت وسيلة إعلام جديدة، هي شبكة الإنترنيت التي تحولت، بالنسبة إلى أطفالنا، إلى ساحر جديد يستهلك أوقاتهم، ويضع أمامهم مجالات واسعة للمعرفة والثقافة، ولكنها في الوقت نفسه تكشف جوانب أخرى سلبية لمغامرة غير مأمونة العواقب، وهذا يشكل تهديداً قوياً على سلوكات أطفالنا، ويجعلهم عرضة لنوعيات مختلفة من المعلومات والصور والأحداث التي لا تتناسب مع مراحلهم العمرية.
وهكذا فإن التطورات التي حصلت في وسائل الإعلام جعلتها أجهزة مؤثرة، ومشاركة بقوة وفاعلية في تربية الأفراد، وبناء المجتمع، وصياغة مسارات الدول، ولكن استثمار هذا التطور يبقى رهين ما تؤديه هذه الوسائل من وظيفة.
إن الوظيفة المأمولة للإعلام تجاه الأطفال وظيفة تربوية وثقافية، فلقد أيقنت دول العالم المختلفة أن الاستثمار في مجال رعاية الطفل وتنشئته من أهم الاستثمارات على الإطلاق؛ لهذا يأتي الإعلام مع الأسرة في مقدمة العوامل التي تحقق الرعاية التربوية والتنشئة الثقافية.
1- رعاية الإعلام التربوية:
تتميز مرحلة الطفولة بأنها مرحلة بناء المعارف وتأسيس القيم، وهي بحاجة إلى رعاية خاصة، بدءاً بالوالدين اللذين يقومان بمراقبة تصرفات ولدهما وتهذيب حاجاته؛ ولاسيما إذا بلغ سن التمييز أو المراهقة؛ لكون هاتين الفترتين من مرحلة الطفولة تزداد فيهما قواه العقلية، ويتسع خياله، وتنمو فيهما مفاهيمه، ويرتقي حسه الخلقي.
لقد أصبحت وسائل الإعلام في الوقت الحاضر، بما لها من تأثير، شريكة الأسرة والمدرسة في تربية الطفل، وصار بالإمكان التحكم فيما تنشره وتبثه من مادة إعلامية؛ بل أصبحت تمارس دوراً تربوياً فعالاً تجاه أبنائنا كاد أن ينافس أو يقلل من شأن وظيفة الوالدين التربوية، وقد دلت الدراسات العلمية على أن الظروف الأسرية وانشغال الوالدين كان لهما أثر كبير في إتاحة الفرصة ليمارس الإعلام وظيفته التربوية، وهذا بالتالي يجعل للوسيلة الإعلامية ومحتواها أهمية عظيمة في تحديد الإيجابيات والسلبيات لوظيفتها التربوية.
إذا كانت الوسائل الإعلامية بهذا التأثير فلماذا لا توظف لتكون وسائل فعالة في تربية النشء وتعليمهم؟ إن الأمر لا يحتاج إلى أدلة تثبت أن الطفل يتعلم الكثير من وسائل الإعلام ولاسيما التلفاز. إننا معشر الآباء نلحظ أن أبناءنا يكتسبون من التلفاز بعض العبارات اللغوية وبعض آداب السلوك، ويذكرون جيداً بعض المعلومات والأخبار والأسماء التي يشاهدونها، إن أطفالنا يكتسبون هذه الأمور ولا يشعرون أنهم يتعلمون، أليس من الجدير بالقائمين على هذا الجهاز المؤثر أن يجعلوه وسيلة تعليمية، وأن يتحكموا في مضمونه وطريقة عرضه بما يتناسب مع قيمنا، ويحقق الهدف التربوي منه؟
ألا يمكن لهذه الوسيلة الجذابة أن تنمي ميول الأطفال، وتفتح مداركهم، وتوسع معارفهم، وتعمق في نفوسهم الإيمان والفضيلة والخير؟ بل يمكن أن ترعى الموهوبين منهم، وتحتضنهم ببرامج خاصة؟ ومتى فعل الإعلام ذلك ستكون أجهزته مدارس مشرعة الأبواب لكل طالب، ومحاضن خصبة لنمو الميول وتفتق النبوغ ورعاية المواهب.
2- رعاية الإعلام الثقافية:
يتميز الإعلام بأنه الوسيلة التي تعبر عن الشخصية الثقافية لأي أمة من الأمم، فهو مؤتمن على المحافظة على هذه الثقافة ومقوماتها، والذود عنها، ووقايتها من الأفكار الفاسدة، وتغييرات الزمن العارضة، فلا يعرف في تاريخ الأمم، ماضيها وحاضرها، أن واحدة منها أهملت في نشر ثقافتها، أو تركتها تذوب في ثقافة غيرها أو تتلاشى في عقول أبنائها لتحل محلها ثقافات أخرى طارئة غريبة. والثقافة العربية لها سمات خاصة تميزها عن غيرها تنتظم في عقيدتها ومبادئها وقيمها الخاصة بها. إن الإعلام لن يستطيع أن يعبر عن ثقافة الأمة إلا إذا أدركها وميّزها عن سائر الثقافات الأخرى، ولا سيما الثقافة الغربية التي تواجه ثقافتنا بصلف وكبر، بل لابد من تناغم العمل الثقافي مع الإعلامي، وأن يتحرر كلاهما من النزعة الذاتية، وألا يتناقضا ويتنافرا، لئلا يصطدم الجمهور بأعمال، من الجانبين، مشوهة، لا علاقة له بقيمه ولا بتطلعاته.
وإذا كانت وسائل الإعلام ذات تأثير تربوي، فإن لها أيضاً تأثيراً في صياغة الوجهة الثقافية للطفل، فلم تعد وسائل الإعلام غريبة علينا ولا على أطفالنا، ومهما تكن فهي تحمل ثقافة ما نتأثر بها، فإذا كانت هذه الثقافة غريبة عنا فمن الطبيعي أن نرفض هذه الثقافة، ونحاول أن تكون هذه الوسائل بما تحتضنه من معارف وعلوم وخبرات لمختلف الأعمار، أداة لتقديم ثقافتنا الأصيلة. إن الإعلام مطالب أن يقدم هذه الرعاية الثقافية لناشئتنا على أن تكون رعاية فاحصة تميز بين الأصيل والدخيل، وتعي مسؤوليتها تجاه ذلك، فتنقل كل ما هو صحيح ونافع وموثوق من المعتقدات والقيم والأفكار، وتعمل على غرس الفكر الصحيح في عقول أبنائنا، وتسعى إلى تنمية الحس الخلقي النبيل لديهم؛ إن الإعلام ينبغي أن يربأ بنفسه عن أن يكون وسيلة لصالح ثقافة غريبة تحاول أن تفرض هيمنتها ووجهتها علينا، أو أن يكون وسيلة لإشاعة الرذيلة بيننا، أو أداة لتعويد أبنائنا على سلوك منحرف وعادات فاسدة، أو تلقينهم معلومات باطلة أو مشككة في عقيدتهم ومبادئهم.
ولا ريب أن تحقيق هذه الرعاية يتطلب دراسة واعية وتفهماً عميقاً لجدوى الوظيفة الثقافية، ويقتضي اتخاذ وسائل مشوقة لإعداد البرامج المتنوعة والهادفة بالكم المناسب والإخراج المتميز، وهذا يتطلب تضافر جهود المربين والمثقفين والإعلاميين والمؤسسات الفنية والاجتماعية، إنه (إذا تضافرت الجهود في هذا المنحى فسيتوافر لنا مناخ ثقافي صحي يدفعنا إلى مزيد من الإنتاج والإبداع مع تقديم أعمال إعلامية وأطر ثقافية تنمي ذاتيتنا، وتدفعنا إلى الاعتزاز بهويتنا والخروج بها إلى دائرة أرحب، وبذلك نصد خطر الفكر الوافد، ونحرر ثقافتنا وإعلامنا من القوالب الغربية، وإنه لبوسعنا استثمار إعلامنا في بناء ذاتية ثقافتنا العربية المنفتحة المحافظة على أصالتنا وعقيدتنا.
اضف تعليق