مع تعرض بقائه في السلطة للخطر، لا يدع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بابا إلا ويطرقه في حملته الانتخابية، إذ يخوض حربا لاجتياز أصعب اختبار سياسي له حتى الآن وحماية إرثه من معارضة جريئة. فبينما كان يعاني بالفعل من تحميله مسؤولية أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد جاء الزلزال المدمر...
يخوض الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في 14 أيار/مايو انتخابات تبدو نتائجها غير محسومة لصالحه للمرة الأولى منذ وصوله إلى السلطة قبل عشرين عاما، ويواجه فيها معارضة موحدة للمرة الأولى في بلد يمر بأزمة.
ويبدو إردوغان (69 عاما) مصمما على البقاء خمس سنوات إضافية على رأس البلاد البالغ عدد سكانها 85 مليون نسمة والتي أدخل تغييرات عميقة عليها لكنها تشهد اليوم أزمة اقتصادية.
وينافسه في هذه الانتخابات ثلاثة مرشحين بينهم خصمه الرئيسي كمال كيليتشدار أوغلو (74 عاما) مرشح تحالف من ستة أحزاب معارضة من اليمين القومي إلى اليسار الديموقراطي ويهيمن عليه حزب الشعب الجمهوري الذي أنشأه مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال اتاتورك.
وحصل "كمال" كما يقدم نفسه على الملصقات الدعائية دعما غير مسبوق من حزب الشعوب الديموقراطي اليساري المؤيد للاكراد الذي دعا للتصويت لصالحه.
وإذا فاز في هذه الانتخابات فسيصبح الرئيس الثالث عشر للجمهورية التركية التي تحتفل هذه السنة بمرور مئة عام على إعلانها، خلفا لاردوغان الذي سجل الرقم القياسي في مدة بقائه في السلطة منذ انتهاء الامبراطورية العثمانية.
وبين حزب العدالة والتنمية الاسلامي المحافظ برئاسة اردوغان وحزب الشعب الجمهوري العلماني الذي يمثله كيليتشدار اوغلو، يبدو الأتراك أمام خيارين، أولهما سلطة تميل بشكل متزايد إلى الاستبداد، مع اتهام 16753 شخصا رسميا في 2022 بـ"إهانة الرئيس التركي"، ويطغى عليها طابع إسلامي.
أما الخيار الثاني فهو وعد بتحول ديموقراطي والعودة إلى علاقات "هادئة" في البلاد ومع بقية العالم.
فوز من الدورة الأولى
كما يختار 64 مليون ناخب تركي بينهم 3,4 ملايين باشروا الاقتراع في الخارج حتى الثلاثاء، أعضاء البرلمان أيضا.
وتتوقع استطلاعات الرأي التي باتت محظورة حتى الاقتراع، منافسة حادة في الانتخابات الرئاسية التي يؤكد كل من المعسكرين أنه قادر على الفوز بها من الدورة الأولى، وإلا فسيتم تنظيم دورة ثانية في 28 أيار/مايو.
وتمكن كيليتشدار أوغلو بسرعة من إزالة ما يمكن أن يبدو عقبة في طريق حملته وهو انتماؤه إلى الطائفة العلوية في بلاد ذات غالبية سنية، في تسجيل فيديو انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي.
وفي سياق تطرقه بدارية تامة إلى كل من المواضيع المطروحة، من الاقتصاد والقدرة الشرائية مع تجاوز التضخم 85 بالمئة في تشرين الأول/أكتوبر، إلى الحريات العامة، يعد "بالعدالة والقانون والتهدئة".
وفي بلد يعاني من أزمة اقتصادية وأزمة ثقة خطيرة، يحاول خريجو الجامعات الشباب والمهندسون والأطباء مغادرته، يكافح رجب طيب إردوغان بكل قوته لإنقاذ إرثه ويمكنه الاعتماد على نحو ثلاثين بالمئة من الناخبين بالتأكيد.
ويطلق معسكر الرئيس وعودا انتخابية بالأرقام من المعاشات إلى السكن وفواتير الطاقة، ويعبر عن أسفه ويتهم منافسيه بالتواطؤ مع "إرهابيي" حزب العمال الكردستاني ويدين صلاته بالغرب و"مؤامراته" ويصفه ب"المؤيد لمجتمع الميم" الذي يريد "تدمير الأسرة".
سيأتي الربيع من خلالكم
ما هو صدى هذه الإعلانات لدى 5,2 ملايين شاب سيصوتون للمرة الأولى؟ فهؤلاء لم يعرفوا سوى إردوغان وميله الاستبدادي منذ الاحتجاجات الكبيرة في 2013 والانقلاب الفاشل في 2016 الذي أدى إلى اعتقال عشرات الآلاف.
وقال كيليتشدار اوغلو "سيأتي هذا الربيع من خلالكم".
وكشف استطلاع للرأي أجراه معهد ميتروبول أن غالبية الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا يؤيدونه ، لكن ثلاثين بالمئة سيختارون إردوغان.
والنقطة المجهولة الأخرى هي تأثير الزلزال القوي الذي ضرب جنوب البلاد في السادس من شباط/فبراير وأودى بحياة أكثر من خمسين ألف شخص إلى جانب عدد غير معروف من المفقودين.
والناجون الذين دانوا بطء عمليات الإغاثة موزعون في البلاد أو لاجئون يقيمون في خيام وحاويات.
وحذر مجلس أوروبا الذي سيرسل 350 مراقبًا إلى الانتخابات بالاضافة إلى مراقبي الأحزاب في 50 ألف مكتب، من أن هذا الوضع يعزز المخاوف المرتبطة بسلامة العمليات الانتخابية و"وضع الديموقراطية" في تركيا.
واتخذت المعارضة زمام المبادرة عبر حشد 300 ألف مدقق ومضاعفة عدد المحامين المدربين لمراقبة الاقتراع.
وأكد نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المسؤول عن أمن الانتخابات أوغوز كان ساليتشي "نحن لا نعيش في جمهورية موز".
ويذكر دبلوماسي أن تركيا حريصة على مبدأ الانتخابات. وقال "حتى عندما يقود الجيش انقلابًا كل عشر سنوات فإنهم يطرحون مسألة سلطتهم في صناديق الاقتراع".
لكن كمال كيليتشدار أوغلو نصح أنصاره من باب الحذر بـ"البقاء في منازلهم" في حال فوزه خوفًا من العنف.
حتى ذلك الحين يحتل رجب طيب إردوغان الساحة. فقد ذكر المجلس الأعلى للإذاعات والتلفزيونات (آرترك) انه خصص 32 ساعة من البث المباشر للخطب الرئاسية بين 01 نيسان/ابريل و01 أيار/مايو، مقابل 32 دقيقة لكيليتشدار أوغلو.
هل المعارضة مؤيدة لمجتمع الميم؟
وفي هذا الجدل المتصاعد اتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المعارضة بأنها "مؤيدة لمجتمع الميم" في تجمع انتخابي بإسطنبول، مصعدا لهجته في مواجهة خصومه قبل أسبوع مما يُتوقع أن تكون انتخابات محتدمة.
وفي مناطق أخرى، رشق محتجون بالحجارة رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو وهو عضو بحزب المعارضة الرئيسي حزب الشعب الجمهوري خلال تجمع انتخابي بمدينة أرضروم بشرق البلاد، وهي معقل لحزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أردوغان.
وقال إمام أوغلو في وقت لاحق إن تسعة أشخاص أصيبوا في الواقعة.
وغازل الرئيس في تجمعه الانتخابي بإسطنبول قاعدة مؤيديه ذوي الخلفية الإسلامية المحافظة.
وقال للحاضرين "حزب العدالة والتنمية والأحزاب الأخرى في تحالفنا لن تؤيد أبدا مجتمع الميم لأن الأسرة مقدسة بالنسبة لنا. سنكتسح هؤلاء المؤيدين لمجتمع الميم في صناديق الاقتراع".
وشدد أردوغان لهجته المناهضة لمجتمع الميم في السنوات القليلة الماضية ووصف أعضاءه في أكثر من مناسبه بأنهم "منحرفون".
وهاجم أبرز منافسيه في الانتخابات كمال قليجدار أوغلو الذي يرأس تحالف المعارضة الرئيسي.
وقال أردوغان "لن يسمح شعبي للسكارى والمغيبين باجتذاب أنظار الناس.. سيد كمال، يمكنك أن تشرب منه براميل. لا شيء سيشفيك".
وأضاف "سترد أمتي الرد اللازم في 14 مايو أيار المقبل، ولن نسمح لقليجدار أوغلو الذي يتعاون مع الإرهابيين بتقسيم وطننا".
واتهم أردوغان منافسه قليجدار أوغلو بالحصول على دعم من حزب العمال الكردستاني المحظور الذي يشن تمردا منذ الثمانينيات أودى بحياة أكثر من 40 ألف شخص. وتعتبره تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جماعة إرهابية.
وسبق أن نددت المعارضة باتهامات أردوغان بوجود صلة لها بالإرهابيين ووصفتها بأنها خطاب انتخابي خطير ومثير للانقسام.
وخلال التجمع الانتخابي بمدينة أرضروم، أظهرت لقطات مصورة إمام أوغلو الذي سيصبح نائبا للرئيس إذا فاز قليجدار أوغلو في الانتخابات وهو يخطب في أنصاره من على حافلة مكشوفة عندما بدأ البعض في رشقه هو وأنصاره بالحجارة.
وقطع إمام أوغلو خطابه وغادر المكان.
وقال لمؤيديه "إننا نغادر حفاظا على سلامتكم"، مضيفا أنه سيرفع دعوى جنائية بحق حاكم أرضروم ورئيس الشرطة لأنهما سمحا بأعمال العنف.
وأظهرت اللقطات إصابة شخص واحد على الأقل في وجهه
وقال في وقت لاحق في تغريدة على تويتر "حاكم أرضروم اتصل بي وأخبرني بأن سبعة أشخاص أصيبوا. تحدثت مع تسعة مصابين في هذا الوقت".
وحصل أردوغان في انتخابات 2018 الرئاسية على 72 بالمئة من الأصوات في أرضروم.
أزمة غلاء المعيشة تهدد أردوغان
في السنوات العشر الأولى له في السلطة تمكن أردوغان وحزبه (حزب العدالة والتنمية) ذي الجذور الإسلامية من الحفاظ على قاعدة الناخبين المؤيدة لهما، المكونة أساسا من الأتراك ذوي الدخل المنخفض والمسلمين المحافظين، عبر تسجيل نمو اقتصادي قوي.
لكن أزمة غلاء المعيشة التي أثارها برنامج أردوغان الاقتصادي غير التقليدي على مدار فترة عام ونصف العام حتى الآن أدت إلى تآكل شعبيته، ليواجه أكبر التحديات الانتخابية في 20 عاما قضاها في السلطة.
وتظهر بعض استطلاعات الرأي أن نسبة تأييد أردوغان أقل من خصمه الرئيسي كمال قليجدار أوغلو قبيل الجولة الأولى من التصويت المقررة يوم الأحد المقبل، على الرغم من أن الفارق تقلص في الآونة الأخيرة. ولا يزال الغموض يكتنف السباق البرلماني، مع احتمال فوز المعارضة بأغلبية ضئيلة.
لذلك لن يمنح حكيم إكينجي، وهو مصفف شعر من إسطنبول طالما أيد الرئيس التركي، صوته لرجب طيب أردوغان في انتخابات الأحد المقبل، وهو ما يرجعه إلى السياسات الاقتصادية التي أتت على القوة الشرائية للأتراك وتركت الكثيرين غير قادرين على تحمل شراء حتى المواد الغذائية الضرورية.
قال إكينجي (63 عاما) بينما توقف مؤقتا عن قص شعر أحد العملاء في صالونه بمنطقة بشكطاش في إسطنبول "اعتدنا على أنه يمكننا شراء ملء ثلاثة إلى أربعة أكياس من البقالة بمبلغ 150 إلى 200 ليرة (7.7 إلى 10 دولارات). لم نكن أنا وزوجتي نقدر على حملها. الآن بالكاد يمكننا ملء كيسين (بهذا المبلغ)".
وأضاف "يمكنني أن أقول إن المسؤولين هم من يتحكمون فينا. أعتقد أن الأمر يتعلق بقرارات خاطئة اتخذوها. اعتدت أن أكون من مؤيدي حزب العدالة والتنمية، لكنني لا أفكر في التصويت لصالحهم".
وتمثل آراء إكينجي ملايين الأتراك الذين اضطروا للتعامل مع التضخم الجامح لسنوات. وارتفعت أسعار المواد الغذائية 54 بالمئة على أساس سنوي في أبريل نيسان، مع انخفاض التضخم إلى 43.7 بالمئة بعد أن بلغ ذروته في أكتوبر تشرين الأول عند 85.5 بالمئة، وهو أعلى مستوى خلال حكم أردوغان.
وظل التضخم السنوي أكثر من 10 بالمئة طوال خمس سنوات تقريبا منذ الانتخابات العامة في 2018. وبدأ يرتفع بشدة بعد أزمة العملة في أواخر عام 2021، والتي نجمت عن سلسلة من تخفيضات أسعار الفائدة وفقا للسياسة الاقتصادية غير التقليدية لأردوغان.
وقال إكينجي إنه بدأ يتشكك في دعمه للرئيس ولحزب العدالة والتنمية لأسباب اقتصادية بعد فترة وجيزة من انتخابات 2018، واتخذ قرارا محددا بعدم التصويت لهما بعد أزمة العملة في عام 2021.
وخسرت الليرة التركية 44 بالمئة من قيمتها في عام 2021 و30 بالمئة في عام 2022. وتراجعت إجمالي 76 بالمئة في الولاية الرئاسية الثانية لأردوغان والتي شهدت عدة أزمات للعملة بسبب السياسات الاقتصادية غير التقليدية وتطورات جيوسياسية مثل حرب أوكرانيا والخلافات بين أنقرة وواشنطن.
وقال إكينجي "سعر الصرف خرج على نطاق السيطرة. لا يمكننا تحمل أي شيء. لم ينفذوا أي شيء قالوه، وبالتالي فإنهم لا يستحقون أي ثقة".
يعمل مصفف الشعر بمفرده بعد أن اضطر إلى تسريح موظفين اثنين، وقال إنه لا يستطيع الحصول على أي قروض مصرفية على الرغم من تخفيضات أسعار الفائدة لأن السلطات تحد من القروض الاستهلاكية من أجل تثبيت التضخم.
لكن العديد من الناخبين المؤيدين لحزب العدالة والتنمية ما زالوا يعتقدون أن أردوغان وحده هو من يمكنه إصلاح الاقتصاد، أو يلقون باللوم على عوامل أخرى في الوضع الراهن. وقالت حليمة دومان، وهي من سكان إسطنبول، إن من يرفعون الأسعار لتحقيق أرباح أكبر هم المسؤولون عن ارتفاع تكاليف المعيشة. وقالت في سوق بوسط إسطنبول "أقسم أن أردوغان يستطيع حلها بإشارة منه".
وترى دومان إن المعارضة، بما فيها تحالف المعارضة الذي ينتمي إليه قليجدار أوغلو، لا تقوى سوى على الأقوال. وقالت "إنهم لا يتخذون أي إجراء".
وقال بيرول باسكان، وهو كاتب ومحلل سياسي لا ينتمي إلى أي حزب، إن حتى أنصار أردوغان "المتعصبين" لا ينكرون أن الاقتصاد لا يسير على ما يرام كما كان في وقت سابق من عهده.
وأضاف "السبب وراء استمرار هذا الحزب في الفوز هو أنه قدم للناخبين امتيازات مادية معينة. هذه هي المرة الأولى التي يبدو فيها هذا السحر ليس مجديا بسبب الاقتصاد وبسبب التضخم المرتفع وتكاليف المعيشة الكبيرة".
وقال "لقد أضر ذلك بمالية الناس بشدة، ولهذا أعتقد أن الفوز في هذه الانتخابات لم يعد مضمونا بهذا القدر".
لا شيء سوى الجوع
بعض الناخبين ليسوا واثقين في أن المعارضة ستخفف على الفور المخاوف الاقتصادية أيضا. ويقول طلعت جول، وهو عامل في مجال أحجار الرخام لم يصوت أبدا لحزب العدالة والتنمية أو حلفائه، إنه لا يرى حوله حاليا "سوى الجوع"، لكنه يشك في أن الأمور ستتغير سريعا للأفضل إذا فازت المعارضة.
وقال وهو يتجول في سوق المزارعين "لقد أوجدوا على مدار 21 عاما ماضيا تركيا لا يمكن تغييرها. سيستغرق الأمر 20 عاما لتتعافى، بغض النظر عمن سيصل إلى السلطة. لكنني أريد فقط أن يرحل (أردوغان)".
ولم يقر إكينجي بعد لمن من المرشحين الثلاثة المنافسين لأردوغان سوف يمنح صوته. وقال "(قليجدار أوغلو) ربما يكون شخصا نزيها... لكنهم لم يعلنوا عن أي شيء يقنعني".
وقال "أريد أن ينخفض سعر الدولار (بعد الانتخابات). أريد أن ينخفض سعر البنزين. أريد أن ينخفض التضخم... أريد أن أعود إلى ما كانت عليه حياتي قبل خمس أو ست سنوات. أريد أن أكون قادرا على الخروج للنزهة، والسفر إلى الخارج". (الدولار = 19.4961 ليرة)
تزايد التفاوت
وبداية من عام 2013، بدأ المستثمرون الأجانب في الإحجام عن الأصول التركية لينصرفوا في نهاية المطاف عن أسواق العملات الأجنبية والائتمان والديون التي تتحكم فيها الدولة بشكل كبير.
تقول سيدا ديميرالب رئيسة قسم العلاقات الدولية بجامعة إيشك في إسطنبول "كان أردوغان في الماضي قادرا على الوفاء بتعهداته لأنصاره. إلا أن الأزمة الاقتصادية كان لها تداعياتها. أنصاره لا يزالون راضين عنه وحتى يحبونه لكنهم لم يعودوا سعداء بتحمل التكلفة التي يتطلبها هذا منهم".
وتقول الحكومة إن تدابير خفض الفائدة عززت الصادرات والاستثمارات في إطار برنامج يحفز على حيازة المدخرات بالليرة. وضاعفت الحكومة الحد الأدنى للأجور خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية وأنفقت أموالا قياسية على الدعم الاجتماعي مما ساعد على الإبقاء على النمو الاقتصادي قويا فوق الخمسة بالمئة العام الماضي.
كما ساهم التحفيز في خفض معدل البطالة إلى عشرة بالمئة من 14 بالمئة تقريبا خلال العامين الماضيين.
إلا أن قيام السلطات بخفض الفائدة من 19 بالمئة إلى 8.5 بالمئة منذ 2021 دفع التضخم إلى أعلى مستوياته تحت إدارة أردوغان إلى ما يزيد عن 85 بالمئة العام الماضي. وكانت المرة الأخيرة التي لامس فيها التضخم السنوي المعدل المستهدف رسميا عند الخمسة في المئة في 2011.
ووفقا لمؤشر جيني لقياس عدالة توزيع الدخل والثروة فقد كان عام 2011 هو العام الذي بدأ فيه تزايد التفاوت في عدالة توزيع الموارد. وتسارع هذا الاتجاه في 2013 الأمر الذي محا المكاسب الكبيرة التي تحققت في الفترة من 2006 إلى 2010 خلال العقد الأول من حكم أردوغان.
وصنف معهد ليجاتوم البحثي ومقره المملكة المتحدة تركيا في المرتبة الخامسة والتسعين عالميا على مؤشر الازدهار الخاص به، متراجعة 23 مرتبة منذ عام 2011 بسبب تدهور الحوكمة والحريات الشخصية.
وشكّل عاما 2012 و2013 نقطة تحول بالنسبة لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، الذي يقيس الازدهار باحتسابه بالدولار، فضلا عن التوظيف وغيرهما من مقاييس الرفاه الاقتصادي.
ووفقا للإحصاءات الرسمية لحيازات السندات وبيانات (توركي داتا مونيتور) لمراقبة البيانات التركية فإن تلك الفترة شهدت ذروة الاستثمار الأجنبي. وتراجعت الليرة منذ ذلك الحين بما في ذلك بنسبة 80 بالمئة مقابل الدولار خلال السنوات الخمس الماضية مما قلص القوة الشرائية للأتراك.
ويوضح مراد أوجار المستشار لدى جلوبال سورس بارتنرز والمحاضر في جامعة كوتش بإسطنبول أن تزايد الإنتاجية الذي تحقق في السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية بدأ يتراجع بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 و2009 وأن الائتمان أصبح المحرك الرئيسي للنمو وليس الإنتاجية.
وأشار إلى أن هذا، إلى جانب انخفاض القيمة الحقيقية لليرة الذي تفاقم لاحقا، يمثل "أحد التفسيرات المحتملة لهذا التحول في ثروات تركيا منذ عام 2013 - أو لماذا بدأ المواطن التركي العادي يزداد فقرا عند احتساب دخله بالدولار الأمريكي".
وكتب سونر تشابتاي في كتابه الصادر عام 2021 بعنوان (سلطان في الخريف) أن أردوغان يتمتع "بقاعدة من المؤيدين المحبين والمخلصين (لأن) المواطنين تمتعوا بمستويات معيشية أفضل بكثير من... معظم فترات القرن العشرين".
وأوضح أنه قبل وصول أردوغان للسلطة كان معدل الوفيات بين الأطفال الرضع مشابها لما كان عليه الوضع في سوريا قبل الحرب، بينما يشبه حاليا معدل الوفيات في إسبانيا.
وقال بولنت جولتكين محافظ البنك المركزي التركي السابق والأستاذ المشارك بجامعة وارتون "يتذكر الجميع حكومة أردوغان الأولى عندما كان يُنظر إليه على أنه يؤسس لاقتصاد شامل. لكنه في الواقع ترك قطاعات غير مسبوقة من المجتمع تعتمد بشكل كامل على الحكومة، وهو أمر غير مستدام".
وتابع "إذا فاز أردوغان بالانتخابات وواصل سياسته الاقتصادية فإن الأمر سيصل لنقطة الانهيار التام عند مرحلة ما. الصورة شديدة القتامة... يمكنك أن تسوّف الأمور لفترة، لكن في نهاية المطاف عليك أن تدفع الفاتورة".
حرب بلا هوادة من أجل البقاء السياسي
مع تعرض بقائه في السلطة للخطر، لا يدع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بابا إلا ويطرقه في حملته الانتخابية، إذ يخوض حربا لاجتياز أصعب اختبار سياسي له حتى الآن وحماية إرثه من معارضة جريئة.
ويواجه أردوغان، وهو نجل قبطان بحري، رياحا سياسية معاكسة شديدة قبل الانتخابات المقررة في 14 مايو أيار، فبينما كان يعاني بالفعل من تحميله مسؤولية أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد جاء الزلزال المدمر في فبراير شباط ليترك حكومته متهمة ببطء الاستجابة والتراخي في تطبيق لوائح بناء كان من المحتمل أن تنقذ أرواحا.
وفي الوقت الذي تُظهر فيه استطلاعات الرأي أن المنافسة قوية، قارن المنتقدون الظروف الحالية بتلك التي جاءت بحزبه (حزب العدالة والتنمية) ذي الجذور الإسلامية إلى السلطة عام 2002 في انتخابات خيَم عليها أيضا تضخم مرتفع واضطراب اقتصادي.
وتعهد خصوم أردوغان بإلغاء كثير من التغييرات التي أدخلها الرئيس الحالي على تركيا والتي سعى إليها في إطار رؤيته لمجتمع متدين ومحافظ له كلمة على المستوى الإقليمي.
لكن هذه المخاطر الكبيرة ليست جديدة على أردوغان الذي قضى قبل ذلك عقوبة في السجن لأنه ألقى قصيدة شعر ديني ونجا من محاولة انقلاب عسكري في عام 2016 عندما هاجم جنود مارقون البرلمان وقتلوا 250 شخصا.
ومع وجود كثير من الأمور على المحك في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية يستهدف السياسي المخضرم، الذي فاز في أكثر من عشر انتخابات، منتقديه بحرب نموذجية.
فأردوغان يتهم المعارضة بالسعي للاستفادة من كارثة، وقام بعدة زيارات لمنطقة الزلزال حيث لقي أكثر من 50 ألف شخص حتفهم، وتعهد بإعادة الإعمار سريعا ومعاقبة من خالفوا لوائح البناء.
وملأ أردوغان الفترة السابقة للانتخابات باحتفالات بإنجازات صناعية، بما في ذلك إطلاق أول سيارة كهربائية تركية وتدشين أول سفينة هجومية برمائية، والتي تم بناؤها في إسطنبول لحمل طائرات مسيرة تركية الصنع.
كما أسرع أردوغان بتسليم أول شحنة من الغاز الطبيعي لمحطة بحرية من احتياطي مكتشف في البحر الأسود ووعد بتوفير الغاز الطبيعي مجانا للمنازل، وافتتح أول محطة للطاقة النووية في تركيا في حفل شارك فيه عبر الانترنت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ومنحت وسائل الإعلام الرئيسية تغطية واسعة لأردوغان، بينما لم يول الإعلام الحكومي اهتماما يُذكر بمنافسه الرئيسي في الانتخابات كمال قليجدار أوغلو، مما أثار اتهامات من المعارضة بعدم إتاحة الفرص المتكافئة.
جذور متواضعة
نشأ الرئيس التركي من جذور متواضعة في حي فقير بإسطنبول حيث التحق بمدرسة مهنية إسلامية، ودخل السياسة كزعيم للشباب في حزب محلي. وبعد أن شغل منصب رئيس بلدية إسطنبول، صعد إلى المستوى الوطني كرئيس لحزب العدالة والتنمية، وصار رئيسا للوزراء في عام 2003.
وتمكن حزب العدالة والتنمية بزعامته من ترويض الجيش التركي الذي أطاح بأربع حكومات منذ عام 1960، وفي عام 2005 بدأ محادثات لتحقيق طموح استمر عقودا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وهي خطوة تعطلت لاحقا بشكل كبير.
ونظر الحلفاء الغربيون في البداية إلى تركيا بقيادة أردوغان على أنها مزيج حيوي من الإسلام والديمقراطية يمكن أن يكون نموذجا لدول الشرق الأوسط التي تكابد للتخلص من الاستبداد والركود.
لكن مساعيه لفرض سيطرة أكبر سببت حالة استقطاب في البلاد وأثارت قلق الشركاء الدوليين. واعتبر المؤيدون المتحمسون ذلك مجرد مكافأة لزعيم أعاد التعاليم الإسلامية إلى صميم الحياة العامة ودافع عن الطبقات العاملة المتدينة.
غير أن المعارضين رأوا أن ذلك هو إمعان في الاستبداد من جانب زعيم أدمن السلطة.
وبعد محاولة الانقلاب، أطلقت السلطات حملة إجراءات صارمة، إذ احتجزت أكثر من 77 ألفا في انتظار المحاكمة وتم فصل 150 ألف موظف حكومي أو وقفهم عن العمل. وتقول منظمات معنية بحقوق الإعلاميين إن تركيا صارت أكبر دولة تسجن الصحفيين في العالم لبعض الوقت.
وقالت حكومة أردوغان إن الحملة كانت نتيجة للتهديدات من أنصار الانقلاب وكذلك تنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني.
وعلى الصعيد الداخلي، يقف مجمع القصر الرئاسي الجديد مترامي الأطراف المُقام على مشارف أنقرة كعلامة بارزة على سلطات أردوغان الجديدة.
حزم خارجي
أما على الصعيد الخارجي فقد صارت تركيا أكثر حزما إذ تدخلت في سوريا والعراق وليبيا وغالبا ما تنشر طائرات مسيرة عسكرية تركية الصنع بقوة حاسمة.
كما ساعدت الطائرات المسيرة أوكرانيا على الدفاع في مواجهة الغزو الروسي.
لكن التدخلات لم تجذب سوى قليل من الحلفاء، ووسط الاقتصاد المتعثر مع بدء العد التنازلي للانتخابات، سعى أردوغان إلى التقارب مع منافسين في المنطقة.
تحت حكم أردوغان، استعرضت تركيا قوتها العسكرية في الشرق الأوسط وخارجه، فقد شنت أربع عمليات توغل في سوريا وهجوما على مسلحين أكراد داخل العراق وأرسلت دعما عسكريا إلى ليبيا وأذربيجان.
وشهدت تركيا أيضا سلسلة من المواجهات الدبلوماسية مع قوى في المنطقة، السعودية ومصر والإمارات إلى جانب إسرائيل، إضافة إلى مواجهة مع اليونان وقبرص بشأن الحدود البحرية بشرق البحر المتوسط حتى غيرت مسارها قبل عامين وسعت إلى التقارب مع بعض خصومها.
وأدى شراء أردوغان لدفاعات جوية روسية إلى فرض عقوبات أمريكية على أنقرة استهدفت صناعة الأسلحة، في حين أثار قربه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تشكيكا من منتقدين بخصوص التزام تركيا إزاء حلف الأطلسي. كما أثارت اعتراضات أنقرة على طلبي السويد وفنلندا الانضمام للحلف توترا.
ومع ذلك، توسطت تركيا في اتفاق سمح بتصدير القمح الأوكراني عبر البحر الأسود، مما يشير إلى دور ربما يلعبه أردوغان ضمن الجهود المبذولة لإنهاء الحرب في أوكرانيا. ولم يتضح إلى الآن ما إذا كان هناك خليفة محتمل له قادر على أن يحظى بنفس الصورة التي رسمها أردوغان لنفسه على الساحة الدولية، وهي نقطة من المرجح أن يركز عليها في الحملة الانتخابية.
اضف تعليق