تغيُّر المناخ مشكلةٌ نعايشها جميعًا في الوقت الراهن، وقد اخترت أن أتحدث عن صحة الكوكب مع تلك المجموعة الصغيرة من الجراحين في مؤتمرنا السنوي مع علمي التام بأن حلول خفض الانبعاثات تفوق ما يمكن لشخصٍ بمفرده أن يقدمه، ولكن إذا كان هدفنا المنشود في مجال الطب هو تحسين صحة الناس ورفاههم...
بقلم: نيلو تومالا
خلال المؤتمر الأخير الذي عقدته المؤسسة المهنية التي أشرُف بالانتساب إليها، شجعتُ أنا وزميلتي أماندا ديلجر زملاءنا من الأطباء السريريين الذين حضروا المؤتمر على تعويض تكلفة الكربون الناتج عن سفرهم، كما أدرنا حلقة نقاشية أوضحنا فيها لحشدٍ صغير من الجراحين كيف يمثل تغيُّر المناخ قضيةً من القضايا الصحية، أود أن أُشير إلى أنني أنا وأماندا نعمل طبيبتَي أنف وأذن وحنجرة، لكننا كذلك ناشطتان في مجال المناخ.
قبل بدء حلقتنا النقاشية، لم أكن أعرف على سبيل اليقين كيف ستكون استجابة زملائي الجراحين، فقضيةُ تغير المناخ نادرًا ما تُطرح للمناقشة في مثل هذه الاجتماعات، لكن زملائي الذين أمسكوا بمكبر الصوت بعد حديثنا طرحوا نوعيةً من الأسئلة التي توحي بأنهم يفهمون قضية الصحة البيئية ويدركون ضرورة أن تصبح المستشفيات أكثر استدامةً، أما فيما يتعلق بتعويض الكربون الناتج عن السفر، وهو أمرٌ من المعلوم أن له نصيبه من القصور باعتباره إجراءً لتخفيف آثار تغير المناخ، وقد تنوعت ردود الفعل؛ إذ ابتسم لنا أغلب الحاضرين أو رفعوا إبهامهم إلى أعلى وهم يسيرون بجانبنا، وهو ما فسرناه على أنه بمنزلة دعمٍ سلبي للتحرك من أجل قضية المناخ، في حين جاءت ردود البعض مُشجِّعةً على غرار: "نحن بحاجة إلى المزيد من هذا"، بينما اكتفى البعض الآخر بقولهم: "لا" وغادروا مسرعين.
صحيحٌ أن تغيُّر المناخ يُمثِّل تهديدًا مُلحًّا للصحة العامة، لكن تبايُن ردود الأفعال في أوساط مجتمع الرعاية الصحية ليس مستغربًا؛ فثمة مجموعةٌ صغيرةٌ عددًا ومتفانيةٌ في الوقت ذاته تعي أهمية الصحة البيئية، وتدرك أن الأطفال مُعرَّضون بشدة للمخاطر الصحية الناجمة عن تغير المناخ وتلوث الهواء، ويُعزى ذلك في جانبٍ منه إلى صغر أجسامهم، وعلى الجانب الآخر، ثمة مجموعةٌ أخرى من العاملين في مجال الصحة -وهم أكبر عددًا بكثير- يتملصون بسهولة من الآثار الصحية التي تنجم عن تغير المناخ، على الأقل في ممارساتهم المهنية.
اجتمع زعماء العالم في مصر الأسبوع الماضي لحضور المؤتمر السابع والعشرين لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، والمعروف اختصارًا بمؤتمر «كوب 27» COP27 بهدف التباحث حول سبل الحد من تغيُّر المناخ، وفي حين ناقش الحضور بعض جوانب تغير المناخ باعتباره قضيةً صحية، ثمة حاجة إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات؛ فتغير المناخ يؤجج أزمةً صحيةً عامة، بدءًا من موجات الحر المتطرفة ووصولًا إلى الظواهر الجوية القاسية، ومن ثم تستقبل أقسام الطوارئ وغرف الفحص الأشخاص المتأثرين الذين يحضرون إلى المستشفى وقد أصابتهم ضربةُ شمس، أو مضاعفاتٌ تنفسية، أو اضطراباتٌ في صحتهم النفسية.
آن للأطباء أن يعترفوا بتأثيرات تغيُّر المناخ على الصحة العامة، كما آن لصانعي السياسات أن يخططوا للكيفية التي يمكن من خلالها التعامل مع تلك التأثيرات، ينصبُّ تركيزي أنا وزملائي في جامعة جورج واشنطن على هذه القضية، وفي أحدث إصدارٍ نشرته دورية «لانسيت» Lancet من تقريرها السنوي عن الصحة والمناخ، الذي يحمل اسم «العد التنازلي» Countdown، يقدم الباحثون توصيفًا للكيفية التي صارت بها الصحة ترزح تحت نِير الوقود الأحفوري، وقد شهدنا ذلك خلال فصل الصيف حين بلغت نسب غاز ثاني أكسيد الكربون –أحد المُلوثات المُسبِّبة للاحتباس الحراري- مستوىً قياسيًّا في وقتٍ تزامن مع إلغاء المدارس يومها الدراسي وإرسالها التلاميذ إلى منازلهم بسبب الارتفاعات الحادة في درجات الحرارة، وهي الكارثة المناخية الأكثر فتكًا على مدار العقود الأخيرة في الولايات المتحدة.
يمثل تغيُّر المناخ قصة جيلٍ آخذٍ في النمو؛ فقد كانت السنوات السبع الماضية على كوكب الأرض هي السنوات السبع الموثقة بأنها الأشد احترارًا على الإطلاق، كما بات عددٌ كبير للغاية من الأطفال ينشأون في عالمٍ تتسبب فيه ظواهر الطقس المتطرفة وتلوث الهواء في إصابتهم بالمرض، لكننا كأطباء لا نسجل هذه الحقيقة في تقاريرنا الطبية مطلقًا.
فعلى سبيل المثال، عالج أحد زملائي طفلًا يبلغ من العمر ست سنواتٍ في غرفة الطوارئ كان يعاني من صعوبة في التنفس حين أدى ارتفاع نسب الأوزون الأرضي (الأوزون التروبوسفيري) إلى تفاقُم نوبات الربو التي يعانيها، اكتفى التقرير الطبي بإيراد إصابة الطفل بنوبة ربو مُدلِّلًا عليها بالرمز J45.901، بينما أغفل توصيف الأوزون الأرضي والجسيمات العالقة المحمولة في الهواء وعلاقتهما بالأمر، وعالج زميلٌ آخر إحدى المراهقات في مدينة جديدة؛ إذ كانت تعاني أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بعد نزوحها من منزلها من جرَّاء إعصارٍ فوق المعدل الطبيعي في المحيط الأطلنطي، جرى تشخيص حالة الفتاة بأنها مصابة باضطراب ما بعد الصدمة، لكن لم يرِد توصيفٌ للظواهر المناخية المتطرفة وعلاقتها بالأمر، وسواءٌ ورد توصيفٌ لهما أم لم يرد، فإن تلوث الهواء وتغير المناخ يسببان العديد من الأمراض الحادة والمزمنة، وهي حقيقة نادرًا ما نأخذها بعين الاعتبار في سجلاتنا أو في خططنا العلاجية.
إن تغيُّر المناخ ليس فيروسًا مستجدًّا يفاجئ المجتمع العلمي، وإن كان احترار كوكب الأرض يعني أن الفيروس الذي ينقله البعوض Aedes-transmitted arbovirus ويُسبب حمى الضنك -وهو من الفيروسات المنقولة عبر مفصليات الأرجل– صار يعيش في أماكن لم يكن يقدر على العيش فيها من قبل، نحن الآن نملك المعرفة والقوة اللتين تجعلاننا قادرين على الانسلاخ عن اقتصادٍ يعتمد على احتراق الوقود الأحفوري، ومن خلال التغييرات التشريعية التي تهدف إلى الحد من الملوثات المسببة للاحتباس الحراري، سيصبح بمقدورنا تجنُّب الكثير من التأثيرات الضارة للاحترار العالمي على البيئة والصحة، إن الجهود المبذولة في مواجهة تغير المناخ تُؤتي ثمارها، وبإمكان مقدمي الرعاية الصحية على جميع المستويات أن يدعموا تلك القضية، بل هم في حاجةٍ إلى ذلك.
وهذا هو بالتحديد ما نفعله في معهد المناخ والصحة التابع لجامعة جورج واشنطن، حيث نتعاون، في إطار نهج متعدد التخصصات العلمية، مع أعضاء من كليات تشمل التجارة والأعمال، والقانون، والشؤون الدولية، بهدف التخفيف من وطأة تغير المناخ، وذلك عن طريق المطالبة بسَنِّ تشريعاتٍ مناخية، وإطلاق مبادرات الاستدامة في الحرم الجامعي والمجتمع المحلي، فثمة نقطة التقاء بين الصحة العامة وكل تخصص من التخصصات العلمية، والتعاون فيما بيننا هو الطريقة المُثلى لتحقيق هدفنا المشترك المتمثل في تطوير حلولٍ مناخية عادلة من خلال التعليم، والبحث العلمي المعني بالسياسات، والدعم والتأييد.
لحسن الحظ، أمامنا فرصةٌ كبيرة لاتخاذ إجراءات هادفة ومؤثرة، ويُعد قانون خفض التضخم هو التشريع المناخي الأضخم في تاريخ الولايات المتحدة حتى يومنا هذا؛ إذ يُعيدنا إلى المسار الصحيح للحد من الانبعاثات الضارة بنسبة 40% بحلول عام 2030، الأمر الذي يزيد الولايات المتحدة قربًا من تحقيق هدف خفض الانبعاثات التي قيست في عام 2005 إلى النصف بحلول عام 2030، ونحن بحاجةٍ الآن إلى استخدام هذا الإطار كأساسٍ للبناء عليه من خلال تشريعاتٍ عادلة تحقق هذا الهدف وتُلبي في الوقت ذاته احتياجات مجتمعات الخطوط الأمامية التي نالها النصيب الأكبر من الضرر البيئي الناجم عن إرثٍ من التلوث والعنصرية على المستويين المحلي والعالمي، من خلال إظهار الدعم والتأييد والدفع باتجاه إصدار تشريعاتٍ مناخية عادلة، يمكننا أن نضمن أن الأشخاص الفائزين في انتخابات التجديد النصفي سيضعون هذه القضية في مقدمة أولوياتهم.
وإضافةً إلى ذلك، يحتاج قادة الرعاية الصحية إلى دراسة الانبعاثات التي يتسبب فيها قطاع الرعاية الصحية والأخذ بعين الاعتبار الأضرار التي تلحق بالمجتمعات المحلية التي يُعهد إليهم بعلاجها، تجدر الإشارة إلى أن قطاع الرعاية الصحية يُسهِم بنسبةٍ تزيد على 10% من الملوثات المسببة للاحتباس الحراري في الولايات المتحدة، وتُمثِّل إزالة الكربون من القطاع الصحي جانبًا مهمًّا من جوانب العمل المناخي؛ إذ يتسنَّى من خلاله تقليل الملوثات الضارة، فمجرد تبديل نوع غاز التخدير الذي يُستخدم في العمليات الجراحية يمكن أن يحد من التلوث الناتج عن الرعاية الصحية.
تغيُّر المناخ مشكلةٌ نعايشها جميعًا في الوقت الراهن، وقد اخترت أن أتحدث عن صحة الكوكب مع تلك المجموعة الصغيرة من الجراحين في مؤتمرنا السنوي مع علمي التام بأن حلول خفض الانبعاثات تفوق ما يمكن لشخصٍ بمفرده أن يقدمه، ولكن إذا كان هدفنا المنشود في مجال الطب هو تحسين صحة الناس ورفاههم، والتقليل من معاناتهم، فيجب علينا العمل معًا لمواجهة تغير المناخ والحد من تأثيراته الضارة على الحياة.
اضف تعليق