لم تكد تمضي أسابيع قليلة عن جولة جديدة من احتجاجات العراقيين ضد الفساد والطبقة الحاكمة، حتى اندلعت تظاهرات غير مسبوقة منذ سنوات في لبنان لنفس الأسباب تقريبا، في بلدين يشهدان نفس التحديات فيما يتعلق بضرب مفهوم الدولة ومؤسساتها وخلق دولة رديفة...
شهد لبنان في الآونة الأخيرة مجموعة من الأحداث التي فاقمت من الأزمات، التي يعاني منها البلد منذ عقود. تلاحق الأزمات من دون إيجاد حل لها من قبل الحكومة أثار غضب المواطنين وأشعل احتجاجات واسعة.
فيما تتواصل الاحتجاجات في شوارع لبنان للضغط على الحكومة، تسابق الأخيرة الزمن لتقديم حلول للأزمة الاقتصادية خلال مدة حددها رئيسها وأوشكت على الانتهاء، مصادر حكومية تكشف عن حزمة قرارات تم التوافق عليها لمعالجة الوضع.
لم تكد تمضي أسابيع قليلة عن جولة جديدة من احتجاجات العراقيين ضد الفساد والطبقة الحاكمة، حتى اندلعت تظاهرات غير مسبوقة منذ سنوات في لبنان لنفس الأسباب تقريبا، في بلدين يشهدان نفس التحديات فيما يتعلق بضرب مفهوم الدولة ومؤسساتها وخلق دولة رديفة.
وشهد العراق في بداية الشهر الحالي موجة احتجاجات ضد الفساد قتل أكثر من مائة شخص ووقوع حوالي 600 جريح، رفع فيها المتظاهرون شعارات تطالب بالقضاء على الفساد وتحسين الأوضاع الاقتصادية والخدمات.
وفي لبنان، اندلعت تظاهرات، ليل الخميس، بعد إقرار الحكومة ضريبة، سحبتها لاحقا، على الاتصالات عبر تطبيقات الإنترنت ضمن سلسلة ضرائب جديدة تدرس إقرارها تباعا، لكن التظاهرات استمرت في التوسع لتشمل مختلف فئات المجتمع اللبناني الاجتماعية والسياسية.
وكما العراق توحدت الهتافات بشعارات ضد الفساد، حتى أن المطالب كانت واحدة برحيل الطبقة السياسية الحاكمة.
رائحة الفساد
تحولت تعبير "رائحة الفساد" من معنى مجازي إلى صورة حقيقية في لبنان منذ صيف عام 2015، بسبب أزمة القمامة التي شهدتها البلاد.
وعلى مدار أربع سنوات الآن، ظلت أكوام القمامة تتكدس في الطرق وعلى الشواطئ، وتفاقمت تبعاتها من تلوث في الماء والهواء وخطر انتشار الأمراض.
واعتُبرت الأزمة أحد تجليات فساد مؤسسات الدولة، إذ أن الشركة المسؤولة عن جمع القمامة تتولى المهمة بشكل احتكاري منذ تسعينيات القرن العشرين.
واستخدمت الشركة أحد مقالب القمامة لمدة 12 عاما أكثر من طاقته الاستيعابية. وفي ظل غياب بنية تحتية وآليات مناسبة لجمع القمامة والتخلص منها، لم تجد الشركة مكانا للقمامة سوى الشوارع.
وأجحت هذه الأزمة احتجاجات حملت شعار "طلعت ريحتكم"، وخرج الآلاف في مسيرات في أغسطس/آب 2015 تندد بالفساد وتطالب بمحاسبة المسؤولين وبتغيير السياسات التي أدت إلى هذه الأزمة.
وتجلى تخبط نظام المحاصصة الطائفية في هذه الأزمة، إذ انسحب أعضاء الحكومة الموالين لحزب الله من الاجتماعات احتجاجا على إدارة الأزمة. وكان الحزب داعما للمظاهرات.
كما اعترف رئيس الحكومة آنذاك، تمام سلام، بأن حكومته "متجهة الى الانهيار إذا بقيت الأمور على حالها"، واعتبرت منظمة الشفافية الدولية هذه الأزمة ضمن أكبر فضائح الفساد في العالم في آخر 25 عاما.
اقتصاد رديف
في حديث سابق لوزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية مي شدياق مع "موقع الحرة" رأت شدياق أن "الأزمة الأساسية للاقتصاد اللبناني هو الاقتصاد الرديف لحزب الله والتهريب الذي يقوم به"، وأضافت شدياق حينها أن "حزب الله يستطيع أن يدخل موادا عبر القنوات غير الرسمية وحتى عبر المرفأ بدون أن يدفع رسوما على أساس أن ما يدخله هو تحت إطار المقاومة، فيتم إدخال كل المواد التجارية بدون أن يدفع الضرائب والرسوم المقررة، في حين أن التجار يدفعون"، ورأى الباحث السياسي الدكتور مكرم رباح أن "الرئيس ميشال عون وصهره وزير الخارجية جبران باسيل يستعملان حزب الله في الداخل اللبناني لتمرير صفقاته، لا سيما صفقة الكهرباء والعديد من الصفقات المشبوهة بسبب قوة سلاح حزب الله وليس بسبب قوته البرلمانية".
وقام مكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي (أوفاك) بفرض عقوبات على أكثر من 50 من الأفراد والكيانات المنتسبين لحزب الله منذ عام 2017، واستهدفت أحدث العقوبات "جمال ترست بنك"، وهي مؤسسة مالية مقرها في لبنان تتقصد تسهيل الأنشطة المصرفية لحزب الله، بحسب ما ذكرته وزارة الخزانة الأميركية.
وبحسب بيان للخارجية الأميركية في أبريل الماضي فإن "مداخيل حزب الله تصل إلى نحو مليار دولار سنويا تتأمن عبر الدعم المالي المباشر الذي تقدمه إيران، والمبادلات والاستثمارات الدولية، وعبر شبكة من المانحين ونشاطات تبييض أموال".
وتسعى واشنطن إلى قطع التمويل عن حزب الله، وتأتي العقوبات ضمن مجموعة كبيرة من الإجراءات المناهضة لطهران منذ انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العام الماضي من الاتفاق النووي الدولي المبرم معها عام 2015.
وتعترف إيران بأنها تسعى للتمدد حيث اعتبر إمام مدينة مشهد الإيرانية أحمد علم الهدى في خطبة صلاة الجمعة أنّ مساحة إيران هي أكبر من حدودها "الجغرافية" لأن كافة الفصائل المسلحة التي تدعمها طهران في الشرق الأوسط هي "جزء من إيران".
ونقلت وكالة أنباء الطلبة الإيرانية (إيسنا) عن المحافظ قوله إنّ "إيران اليوم ليست فقط إيران ولا تحدّ بحدودها الجغرافية. الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان وأنصار الله (المتمردون الحوثيون) في اليمن وقوات الدفاع الوطني في سوريا والجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين، هذه كلها إيران".
ولا يزال مصير الدولتين مجهولا في ظل استمرار نفس الأسباب التي أدجت إلى الثورة في ظل عدم تراجع المتظاهرين في كلا البلدين، حيث لا تزال مستمرة في لبنان، في حين تجددت الدعوات للتظاهر من جديد في العراق ليوم الجمعة، 25 أكتوبر الحالي، ويشير خبراء إلى أن عدم وجود إصلاحات جذرية يطالب بها العراقيون بعد أربعة عقود من الحرب في بلد يحتل المرتبة 12 في لائحة البلدان الأكثر فسادا في العالم، ليس إلا تأجيلا للمشكلة.
ويعاني لبنان من نقص في تأمين الخدمات الرئيسية، وترهل بنيته التحتية. ويُقدّر الدين العام اليوم بأكثر من 86 مليار دولار، أي أكثر من 150 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وسجل الاقتصاد اللبناني في العام 2018 نموا بالكاد بلغ 0.2 بالمئة، وقد فشلت الحكومات المتعاقبة بإجراء إصلاحات بنيوية في البلد الصغير الذي يعاني من ديون كثيرة ونسبة فساد هائلة.
ما الذي يمكن أن ينتج عن هذا الحراك؟
ومع ضبابية المشهد الحالي، وتحذيرات رئيس الوزراء اللبناني لكافة الفرقاء السياسيين والمهلة التي منحها لهم للوصول إلى حل يرضي كافة اللبنانيين، ما الذي يمكن أن ينتج عن هذا الحراك؟
تقول الدكتورة مها يحيى مديرة مركز كارنيغي ببيروت إن الأمر لن يتضح الآن ويحتاج الى بعض الوقت، لكنها تشير الى أن "هناك صعوبة كبيرة في أن يتقدم الحريري باستقالته في وضع مأزوم كهذا "، وتضيف بأن "الحديث يجري حالياً عن تكليف حكومة تكنوقراط بدلاً من الحكومة الحالية، لكن السؤال: هل يقبل جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر بتشكيل مثل هذه الحكومة من دونه".
وتؤكد الدكتورة مها يحيى على أنه من الصعب أن يحدث ذلك، "فجبران باسيل نفسه أوقف تشكيل حكومات لأنه لم يكن بها، وحتى لو جيء بحكومة تكنوقراط فهل سيسمح لها بالقيام بالإصلاحات المطلوبة؟ خاصة وأن هذه الإصلاحات ستمتد إلى مكتسبات تراكمت على مدار سنوات طويلة لدى تلك الطبقة الحاكمة، وأيضاً هناك حديث عن إمكانية استقالة بعض الوزراء لكن الحديث عن هذا الأمر سابق لأوانه في الوقت الحالي وعلينا الانتظار بعض الوقت ليتضح المشهد خصوصاً في ظل خطاب رئيس الوزراء الأخير".
لكن هناك من يذهب إلى سيناريوهات أخرى منها احتمال استقالة حكومة سعد الحريري ليعقب ذلك إعلان حالة الطوارئ لينزل الجيش اللبناني إلى الشارع ويتم تشكيل حكومة عسكرية لفرض الاستقرار، أو أن يتسلم حزب الله الأمور من خلف الستار ليقود المشهد السياسي في البلاد بالتعاون مع الجيش.
اضف تعليق