لا يمكن فصل الاحداث في فنزويلا عن سياقاتها العالمية والصراعات الامريكية الغربية من جهة، والصينية الروسية من جهة أخرى، ومحور هذا الصراع يدور حول مصادر الطاقة وتوسيع نطاق سيطرتها الجيوسياسة على اكثر المناطق أهمية في العالم، في مشهد يعيد للاذهان اهم محطات الصراع بين المعسكرين...
منعطف كبير دخلته فنزويلا بعد اعلان رئيس البرلمان خوان غوايدو توليه رئاسة البلاد وداعيا الرئيس اليساري المنتخب نيكولاس مادورو الى التخلي عن السلطة التي "اغتصبها" بحسب ما يعتقد غوايدو المدعوم من قبل الولايات المتحدة الامريكية وجزء من المعسكر الغربي.
لا يمكن فصل الاحداث في فنزويلا عن سياقاتها العالمية والصراعات الامريكية الغربية من جهة، والصينية الروسية من جهة أخرى، ومحور هذا الصراع يدور حول مصادر الطاقة وتوسيع نطاق سيطرتها الجيوسياسة على اكثر المناطق أهمية في العالم، في مشهد يعيد للاذهان اهم محطات الصراع بين المعسكرين التي كادت ان تأخذ البشرية الى جرف الحرب النووية كما حدث في كوبا، او حرب الاستنزاف في سوريا.
ما يحدث في فنزويلا يقلب ذاكرة الحرب السورية التي لم تكتمل فصولها بعد، فسوريا كانت نقطة ارتكاز في الخريطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط الذي مر بتغيرات دراماتيكية تمثلت بانهيار النظم السياسية القديمة بعد احداث الربيع العربي والتبشير بعصر التحولات المتسارعة ما دفع بعض الدول الكبرى الى التحرك لمواكبة ما يحدث.
دخلت واشنطن للازمة عبر حلفائها العرب، ومن خلال دعم الحركات المسلحة بمختلف انتماءاتها، التي اشتركت بهدف واحد وهو اسقاط حكم الرئيس بشار الأسد المتحالف مع روسيا وايران، وبعد ثمان سنوات تدخلت فيها ايران وروسيا بالإضافة الى الدعم الصيني خرجت الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها بما يشبه الخسارة الكبيرة، والسبب يعود في الأصل الى تشتت المواقف والاتكالية في القاء مهمة قيادة الحرب السورية ما اعطى حافزا كبيرا للمعسكر الإيراني الروسي الصيني للدفع بكل قوته.
لكن تلك الازمة لم تنتهي بهذه السهولة فابسط المغامرات كادت ان تفضي الى حرب كبرى، سواء بالاحتكاك الإيراني الإسرائيلي، او الروسي التركي، او حتى الأمريكي الروسي بعد الهجمات بالصواريخ على القواعد العسكرية السورية من قبل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
من سوريا الى فنزويلا
بقاء الرئيس السوري في منصبه كان هو الفشل الذريع الذي مني به المعسكر الأمريكي، فرغم فقدان الجيش السوري الكثير من الأراضي بقيت العاصمة بيد الحكومة، وبقي التعامل الرسمي معها، اما الجماعات المقاتلة فلا تزال تمثل عصابات لا قيادة لها.
انهت الولايات المتحدة الامريكية مهمتها في سوريا، واعلن الرئيس الأمريكي انسحاب قوات بلاده منها، ما اثار جملة انتقادات اوربية على هذه الخطوة التي اعتبروها تراجعا واضحا امام ايران وروسيا، حتى ان بعض الحاضرين في مؤتمر ميونخ للامن قد تطرقوا لهذه الفكرة التي تقوض المساعي الغربية للسيطرة على اهم النقاط الاستراتيجية في العالم.
ومباشرة بعد الانسحاب ذهبت الولايات المتحدة الامريكية الى فنزويلا من اجل فتح جبهة جديدة ضد المحور الروسي الصيني من اجل تحقيق اهداف تتعلق بالطاقة، وكذلك التخلص من نظام سياسي طالما مثل عقبة امام السياسيات الغربية في أمريكا الجنوبية.
لكن واشنطن لا تريد تكرار السيناريو السوري، الذي اعتمدت فيه على جماعات مسلحة غير كفوءة، فالتجأت هذه المرة الى تنصيب رئيس والاعتراف به، ودعوة المجتمع الدولي للاعتراف به، فهذا يخلصها عناء الحرب الطويلة غير المضمونة.
الا ان الانقسامات الاوربية جعلت من الخطوة الامريكية غير فعالة، ودفعت وروسيا والصين لترتيب اوراقهما، وإعادة الاعتماد على الفيتو في مجلس الامن في حال قررت واشنطن تنفيذ تدخل عسكري محدود ضد فنزويلا، او دعم الرئيس الجديد بالأسلحة.
رئيس صغير
خوان غوايدو الشاب، وقف يوم 23 يناير (كانون الثاني) الماضي أمام مئات الآلاف من مواطنيه الذين كانوا يتظاهرون في كاراكاس، عاصمة فنزويلا، مطالبين بتغيير النظام وتشكيل حكومة انتقالية جديدة، ولم يلبث أن أعلن تولّيه "رئاسة الجمهورية بالوكالة"، داعياً الرئيس اليساري نيكولاس مادورو إلى التنحّي وإنهاء "اغتصاب السلطة".
لكن اعتلاء هذا السياسي الشاب لمنصب الرئيس بدون انتخاب، يجعل أمريكا في موقف محرج شبيه بالذي وقعت فيه خلال الازمة السورية، فهو رجل شاب لم يكن العالم قد سمع به وكان مغموراً حتى داخل فنزويلا. ولم تنقضِ سوى ساعات قليلة على تلك الخطوة حتى كانت الإدارة الأميركية تعلن اعترافها بشرعية "الرئيس الجديد"، وتحثّ الدول الأخرى على تأييده، بعدما كانت دبلوماسية واشنطن قد نشطت لدى حلفائها لدفعهم إلى الاعتراف بالشرعية الجديدة وتعميق عزلة مادورو، الذي كانت دول عدة قد رفضت الاعتراف بشرعية ولايته الثانية كرئيس بعد انتخابات العام الماضي.
أوّل المعترفين بـ"الرئيس الجديد"، بعد الولايات المتحدة، كانت كندا وأستراليا ومعظم الدول التي يحكمها اليمني في أميركا اللاتينية، باستثناء المكسيك التي أعلنت استعدادها لوساطة انتهت مفاعيلها قبل أن تبدأ في لقاء دعت إليه في أوروغواي وشاركت فيه مجموعة من "الدول المحايدة".
تحالف مضاد
وفي المقابل، أعلنت كل من روسيا والصين وتركيا دعمها لمادورو، بينما كان الاتحاد الأوروبي، مدفوعاً من إسبانيا، الدولة الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي الفنزويلي، يتعثّر في اتخاذ موقف موحّد من الاعتراف بغوايدو بسبب من امتناع إيطاليا التي تصرّ حكومتها على "رفض التدخّل في الشؤون الداخلية والامتناع عن محاولات تصدير الديمقراطية".
وهكذا، دخلت الأزمة الفنزويلية نفق التدويل والمواجهة المفتوحة بين نظام يسيطر على كل المؤسسات التنفيذية والعسكرية، و"حكومة افتراضية" لا تملك القدرة على تغيير الواقع السياسي داخل البلاد، ويخشى كثيرون أن تكون مجرّد "رأس حربة" أميركية لمغامرة عسكرية جديدة في المنطقة، التي كادت تشعل أول حرب نووية في العالم مطالع ستينات القرن الماضي.
الازمة في فنزويلا ليست بالبساطة التي تبدو عليها، فالرئيس الأمريكي يريد تحقيق انجاز سياسي خارجي، يزيح ثقل الضغوطات الداخلية، كما انه يستشعر الخطر الصيني والروسي الذي يسيطر على مساحات كبيرة من مصادر الطاقة العالمية.
فنزويلا امام فرضية تكرار سيناريو الازمة السورية، ما يعني اننا مقبلون على حرب طويلة الأمد في أمريكا الجنوبية طرفاها المعسكر الأمريكي الغربي المنقسم على نفسه، ضد المعسكر الروسي الصيني المسيطر على مصادر الطاقة، والمنتشي بانجازه في سوريا.
والسيناريو الثاني، قد يكون التهديد بتدخل عسكري مفاجئ من قبل احد المعسكرين عبر نشر منظومات طواريخ تكتيكية واستراتيجية، وربما حتى أسلحة نووية ما يعيد ذاكرة ازمة الصواريخ الكوبية لا سيما بعد فشل رئيس البرلمان المدعوم من الولايات المتحدة الامريكية، لكن سيناريو الحرب الطويلة هو الأكثر ترجيحا كون الطرفين يعرفان مخاطر التهديد بالأسلحة النووية واثارها الكارثية على الجميع.
اضف تعليق