وافقت المملكة العربية السعودية على التخلي عن إدارة أكبر مساجد بلجيكا وذلك في بادرة على أنها تحاول التخلص من السمعة التي لازمتها بأنها أكبر مصدر في العالم للتفسيرات المتشددة للإسلام.
كانت بلجيكا قد أعارت المسجد الكبير للرياض في العام 1969 الأمر الذي أتاح لأئمة تدعمهم الرياض التواصل مع جالية متنامية من المهاجرين المسلمين مقابل الحصول على النفط بأسعار تفضيلية للصناعات البلجيكية.
لكن بلجيكا تريد الآن تقليص الروابط بين الرياض والمسجد الواقع قرب مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل بسبب مخاوف من أن يكون مضمون الخطب الدينية فيه داعيا للتطرف، وتنفي القيادات المسؤولة عن المسجد أنها تؤمن بالعنف منهجا لكن الحكومات الأوروبية ازداد قلقها منذ هجمات إسلاميين متشددين تم التخطيط لها في بروكسل وأسفرت عن مقتل 130 شخصا في باريس خلال 2015 ومقتل 32 شخصا في العاصمة البلجيكية في العام 2016، ويمثل استعداد بلجيكا لرفع مطالبها إلى السعودية، التي تلعب دورا كبيرا في الاستثمارات ومشتريات السلاح في بلجيكا، خروجا على ما يصفه دبلوماسيون في الاتحاد الأوروبي بإحجام الحكومات في مختلف أنحاء أوروبا عن الإضرار بالعلاقات التجارية والأمنية.
وتشير السرعة التي قبلت بها الرياض ذلك إلى استعداد جديد من جانب المملكة للتأكيد على الاعتدال الديني وهو ما يمثل واحدا من الوعود الطموح التي قطعها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بمقتضى خططه لإجراء إصلاحات واسعة في البلاد وتقليل اعتمادها على النفط، ويتزامن الاتفاق الذي تم التوصل إليه الشهر الماضي مع مبادرة سعودية جديدة لم تعلن على الملأ لكن مسؤولين غربيين ذكروا بعض جوانبها لرويترز وتهدف لإنهاء دعم المساجد والمدارس الدينية في الخارج والتي توجه إليها اتهامات بنشر الأفكار المتشددة.
ويمثل التحرك باتجاه الاعتدال الديني، والابتعاد عن التفسير المتشدد للمذهب السلفي والذي تعتنقه الجماعات المتطرفة الحديثة، مجازفة بإطلاق رد فعل سلبي في الداخل وربما يؤدي إلى فراغ يملؤه الأصوليون. بحسب رويترز.
غير أن الدبلوماسي البلجيكي ديرك آشتن الذي رأس وفدا حكوميا إلى الرياض في نوفمبر تشرين الثاني رأى فيما أخذته السعودية في الآونة الأخيرة من خطوات نحو الاعتدال الديني ”فرصة“، وقال آشتن للبرلمان البلجيكي الشهر الماضي في أعقاب الزيارة التي رتبت على عجل بعد أن حث البرلمان الحكومة على فسخ عقد إعارة المسجد بلا إيجار للسعودية لمدة 99 عاما ”السعوديون ميالون للحوار بلا محاذير“، غير أنه حذر أيضا من أن ”البعض لا يعترف، أو لا يكاد يعترف، بأن هذا الشكل من أشكال السلفية يقود إلى التطرف“.
وضع اللمسات النهائية على التفاصيل
قال وزير الداخلية البلجيكي جان جامبون لرويترز إن التفاوض ما زال جاريا على تفاصيل تسليم المسجد لكن الأمر سيعلن الشهر المقبل، وتستهدف بلجيكا من الاتصالات الدبلوماسية بقيادة وزيري خارجية البلدين منع ما وصفه جامبون بأنه ”رد مبالغ فيه“ من جانب السعودية فيما يشير إلى أن الحكومة البلجيكية سعت لضمان عدم حدوث رد فعل دبلوماسي سلبي.
وقال جامبون إن الوضع ”تحت السيطرة“ في أعقاب زيارة لبلجيكا قام بها الشهر الماضي وزير الخارجية السعودي عادل الجبير.
وقبل أن تتولى السعودية إدارته في أواخر الستينيات من القرن الماضي كان المسجد الكبير عبارة عن مبنى غير مستخدم شيد لكي يكون الجناح الشرقي في المعرض الكبير في العام 1880، وحولت الأموال السعودية المبنى إلى مسجد لكي يسد احتياجات مهاجرين من المغرب استقدمتهم الحكومة للعمل في مناجم الفحم وفي مصانع البلاد. وتتولى رابطة العالم الإسلامي التي تتخذ من مكة مقرا لها إدارة المسجد. والرابطة مؤسسة دعوية تمولها السعودية.
وتبين استطلاعات الرأي أن المخاوف بشأن المسجد تزايدت بعد أن بدأت جماعات متطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية تجنيد أحفاد هؤلاء المهاجرين الذين يقول كثيرون منهم إنهم لا يشعرون بالانتماء في المجتمع البلجيكي.
ويمثل المقاتلون الأجانب الذين سافروا من بلجيكا إلى سوريا نسبة أكبر من أي بلد آخر في أوروبا وذلك بالمقارنة مع عدد السكان، ويشير مسؤولون بلجيكيون الآن إلى أن الهيئة التنفيذية للمسلمين في بلجيكا، والتي تعتبر وثيقة الصلة بالجهات الرسمية في المغرب، يجب أن تدير المسجد الكبير، ورغم أن الحكومة السعودية نفت أي دور في هجمات 11 سبتمبر أيلول 2001 على الولايات المتحدة والتي راح ضحيتها أكثر من 3000 شخص فقد كان 15 من المهاجمين التسعة عشر من السعودية وربطتهم صلات بأسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق العقل المدبر للهجمات.
وكان بن لادن من أتباع المذهب الوهابي السلفي الذي كثيرا ما وجهت له انتقادات باعتباره أساس الأفكار العقائدية للمتشددين الإسلاميين في مختلف أنحاء العالم، ومع ذلك فالكثير من مواقف تنظيم الدولة الإسلامية أكثر مغالاة في التشدد من التيار الوهابي السائد في السعودية والذي أسسه في القرن الثامن عشر رجل الدين محمد بن عبد الوهاب.
وقال تقرير سري لوكالة الأمن البلجيكية أو.سي.ايه.دي/أو.سي.ايه.إم في العام 2016 إن التيار الوهابي الذي يتم الترويج له في المسجد دفع الشباب المسلم لاعتناق أفكار أكثر تشددا وذلك وفقا لما ذكرته مصادر مطلعة على التقرير، وقال البرلمان البلجيكي إن ما يدعو إليه المسجد هو ”بوابة أو حتى تهيئة لإسلام أميل للعنف“، ودعا في أكتوبر تشرين الأول إلى إنهاء عقد إعارة المسجد للسعودية.
وفي الشهر نفسه حاول وزير الهجرة ثيو فرانكن طرد إمام المسجد الكبير المصري الجنسية الذي شغل موقعه 13 عاما ووصفه بأنه ”خطر“ غير أن قاضيا ألغى هذا القرار، إلا أن مصادر أمنية بلجيكية تقول إنه لا توجد أدلة على أن الأئمة في المسجد الكبير يدعون للعنف أو تربطهم صلات بالهجمات.
وتقول المصادر إن بعض من سافروا للقتال في سوريا حضروا دروسا في المسجد غير أن الشباب يقعون ضحية في الغالب للمسؤولين عن تجنيد الأنصار في الجماعات المتشددة عن طريق الانترنت وفي شوارع الأحياء الفقيرة مثل حي مولنبيك في بروكسل الذي عاش فيه مدبرو هجمات باريس.
ويقول تامر أبو السعود الذي عين مديرا للمسجد الكبير في مايو آيار الماضي إن ثمة مشاكل في النظرة إلى المسجد لكنه ينفي أنه يدعو للتطرف الإسلامي. ويقول إنه على استعداد للعمل مع المسؤولين البلجيكيين، وقال لرويترز ”ثمة تغيرات تحدث بالفعل وهناك تغييرات أكثر مقبلة في المستقبل القريب جدا“.
إسلام أوروبي
يقول قادة بلجيكيون إنهم يريدون أن يدعو المسجد إلى ”إسلام أوروبي“ يتفق أكثر مع قيمهم وهي نغمة مألوفة تتردد كثيرا في مختلف أنحاء أوروبا في أعقاب الهجمات التي شنها تنظيم الدولة الإسلامية في السنوات القليلة الماضية.
إلا أنه لم يتضح من سيدير مجمع المسجد الفسيح الذي يتلقى خمسة ملايين يورو (ستة ملايين دولار) سنويا من خلال رابطة العالم الإسلامي.
وقد انتهجت الرابطة في الآونة الأخيرة نهجا أكثر استرضائية. فمنذ ما يزيد قليلا على العام بعد تعيين الأمين العام محمد بن عبد الكريم العيسى التقى بالبابا فرانسيس وأعلن موقفه على الملأ من نفي المحرقة. وقال العيسى لرويترز في نوفمبر تشرين الثاني إن المهمة الجديدة للرابطة هي القضاء على التطرف.
وبالنسبة للسعودية يمثل المسجد فرصة لإثبات فتح صفحة جديدة بعد سنوات ظلت فيها موضع اتهام بأنها تغض الطرف عن الأفكار المتطرفة إن لم تكن تقرها، وقد خطا ولي العهد الأمير محمد بالفعل بعض الخطوات لتخفيف القيود الاجتماعية المغالية في المحافظة فقلص دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسمح بإقامة حفلات موسيقية عامة كما أعلنت السعودية عن خطط للسماح للنساء بقيادة السيارات في الصيف المقبل.
غير أن ستيفان لاكروا الباحث في الإسلام في السعودية يقول إن هذه التغييرات ربما تكون قد جاءت متأخرة لأن معظم الجماعات المتشددة التي خرجت من بعض الشبكات السعودية في مرحلة من المراحل أصبحت مستقلة، وقال لرويترز ”ليس صحيحا أن ذلك سيحل مشكلة الإسلام المتطرف، من منطلق أنه إذا تغير السعوديون فسيتغير كل شيء“.
اضف تعليق