قرار تنحي مسعود بارزاني من رئاسة حكومة الاقليم في شمال العراق، بعد سنوات من الهيمنة والحكم أصبح اليوم محط اهتمام واسع داخل وخارج العراق، حيث أكد بعض المراقبين ان ما حدث يعد انتصار مهم لحكومة بغداد، التي استطاعت فرض سيطرتها الدستورية والوقوف ضد خطط وتطلعات البارزاني الذي سعى الى الاستفادة من بعض الازمات والمشكلات الداخلية في سبيل الحصول على مكاسب خاصة، التي تلاشت بعد قرار إجراء استفتاء الانفصال عن العراق يوم 25 سبتمبر/أيلول، وما اعقبها من تطورات وضغوط داخلية وخارجية ادت للتنحي بارزاني عن الحكم.
وكان برلمان الإقليم قد قرر تجميد عمل هيئة رئاسة الإقليم التي تضم بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني ونائبه كوسرت رسول. وهو أحد قادة الاتحاد الوطني الكردستاني ورئيس ديوان الرئاسة فؤاد حسين. ولفت نواب من الحزب إلى أن صلاحيات الرئاسة ستوزع "بشكل مؤقت إلى حين إجراء الانتخابات المقبلة". وبعد فوزه في الانتخابات غير المباشرة في العام 2005، أعيد انتخاب بارزاني مرة أخرى في العام 2009 بنحو 70 بالمئة من الأصوات في أول انتخابات عامة، ليبدأ ولاية جديدة من أربع سنوات. وبعد انقضاء المدة، مدد البرلمان الكردستاني عام 2013 ولاية بارزاني لعامين. وعند انتهاء ولايته في العام 2015، بقي بارزاني في منصبه بسبب الظروف التي كانت محدقة بالعراق في أعقاب هجوم تنظيم داعش وسيطرته على مساحات واسعة من البلاد.
وصدر قرار تجميد أنشطة بارزاني الرئاسية بسبب عدم تمديد برلمان الإقليم ولايته الرئاسية مجددا بشكل قانوني، الأمر الذي ينهي صلاحياته الرئاسية. وبرزت الأزمة السياسية داخل كردستان العراق ومع الحكومة الاتحادية في بغداد، بعيد إجراء استفتاء على الاستقلال كان دعا إليه بارزاني. وعلى بت خلافات سياسية داخل البيت الكردي، أبدت أحزاب سياسية عدة مؤخرا معارضتها لسياسة بارزاني. منها حركة "التغيير" (غوران) التي دعت إلى استقالة بارزاني وتشكيل حكومة إنقاذ وطني. وقال النائب عن "غوران" رابون معروف قبل بدء الجلسة إن بارزاني "يرمز إلى فشل السياسة الكردية، والشيء الوحيد الذي يجب أن يقوم به هو الاعتذار علنا"، ما أثار غضب أنصار الرئيس الكردستاني المتواجدين في المكان.
برزاني خارج الحكم
وفي هذا الشأن قال مسعود برزاني رئيس إقليم كردستان العراق إنه سيتنحى عن منصبه في أول نوفمبر تشرين الثاني بعدما تسبب الاستفتاء على الاستقلال الذي قاده في انتكاسة وأثار أزمة إقليمية. واتسم الموقف في البرلمان الكردي بالاحتدام بعد أن اقتحمه محتجون مسلحون أثناء انعقاده للتصديق على استقالة برزاني. واضطر بعض النواب إلى الاحتماء في مكاتبهم. وفي كلمة بثها التلفزيون، وهي أول كلمة له منذ أن شنت القوات العراقية هجوما لاستعادة مناطق سيطر عليها الأكراد في 16 أكتوبر تشرين الأول، أكد برزاني أنه لن يمدد فترة ولايته الرئاسية إلى ما بعد الأول من نوفمبر تشرين الثاني ”تحت أي ظرف“.
وقال ”أنا لا زلت مسعود برزاني... أنا فرد من البشمركة وسأواصل مساعدة شعبي في كفاحه من أجل الاستقلال“. وأيد برزاني حق تقرير المصير للأكراد على مدار أربعة عقود تقريبا. وجاءت الكلمة بعد رسالة طلب فيها من البرلمان اتخاذ إجراءات لملء فراغ السلطة. واجتمع برلمان الإقليم في العاصمة أربيل لمناقشة كلمة برزاني. وذكرت محطتا رووداو وكردستان 24 التلفزيونيتان أن أغلبية من النواب الأكراد بلغت 70 نائبا صوتت لصالح قبول استقالة برزاني فيما اعترض عليها 23 نائبا.
واقتحم متظاهرون بعضهم يحمل هراوات ومسدسات مبنى البرلمان فيما كانت الجلسة منعقدة. وسمع دوي أعيرة نارية وقال بعض المحتجين خارج مقر البرلمان إنهم يريدون ”معاقبة“ النواب إذ قالوا إنهم ”أهانوا“ برزاني. وهاجم بعضهم صحفيين في الموقع. وقال مسؤول كردي إن برزاني قرر تسليم الرئاسة دون انتظار إجراء الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في الأول من نوفمبر تشرين الثاني لكنها تأجلت ثمانية أشهر.
ويشهد الإقليم شبه المستقل عدم استقرار منذ إجراء استفتاء على الاستقلال قبل شهر تسبب في إجراءات انتقامية عسكرية واقتصادية من الحكومة المركزية في بغداد. ودافع برزاني في كلمته بضراوة عن قراره إجراء الاستفتاء في 25 سبتمبر أيلول وقال ”ثلاثة ملايين صوت لصالح استقلال كردستان صنعوا تاريخا لا يمكن محوه“.
وقال برزاني إن الهجوم العراقي على كركوك ومناطق أخرى كانت تحت سيطرة الأكراد يبرر قناعته بأن بغداد لم تعد تؤمن بالنظام الاتحادي وتريد بدلا من ذلك الانتقاص من الحقوق الكردية. وانتقد برزاني الولايات المتحدة لعدم دعمها للأكراد وقال ”حاولنا وقف إراقة الدماء لكن القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي واصلت التقدم باستخدام أسلحة أمريكية“. وتابع قائلا ”على شعبنا الآن أن يتساءل عما إذا كانت الولايات المتحدة على دراية بالهجوم العراقي ولماذا لم تمنعه“.
وعندما طُلب من متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية التعليق على استقالة برزاني قال” سأحيلكم إلى المسؤولين الأكراد بشأن أي معلومات عن الرئيس برزاني. ولن نتدخل أيضا في أي مناقشات دبلوماسية خاصة“. وانتقد معارضون أكراد برزاني لخسارة مدينة كركوك الغنية بالنفط التي يعتبرها الكثير من الأكراد قلب وطنهم. وقد تساعد استقالة برزاني في تسهيل إجراء مصالحة بين حكومة إقليم كردستان والحكومة المركزية العراقية التي أدت الإجراءات التي اتخذتها ردا على الاستفتاء إلى تغيير ميزان القوى في الشمال.
وتولى برزاني رئاسة كردستان العراق منذ عام 2005 وانتهت ولايته الثانية في 2013 لكن تم تمديد حكمه بلا انتخابات مع اجتياح مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية مناطق شاسعة من العراق وسوريا. وقاتلت قوات الحكومة العراقية المدعومة من الولايات المتحدة والقوات شبه العسكرية والمقاتلين الأكراد جنبا إلى جنب لهزيمة تنظيم داعش لكن تحالفهم تداعى مع اقتراب إلحاق الهزيمة الكاملة بالمتشددين.
وبعد التصويت في الاستفتاء الكردي أمر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي القوات العراقية بالسيطرة على مناطق متنازع عليها بين بغداد وأربيل. ويريد العبادي أيضا السيطرة على المعابر الحدودية بما يشمل معبرا في منطقة فيشخابور حيث يمر خط أنابيب لتصدير النفط عبر تركيا يضخ الخام من كردستان ومن العراق. وسيطرت القوات العراقية على مدينة كركوك متعددة الأعراق والتي تقع خارج الحدود الرسمية لإقليم كردستان في 16 أكتوبر تشرين الأول. وبالنسبة للأكراد تعد خسارة كركوك ضربة رمزية ومالية قوية لحملتهم من أجل الاستقلال لأنها تقلص عائدات تصدير النفط من المنطقة إلى النصف. بحسب رويترز.
وقال التلفزيون العراقي الرسمي إن جولة ثانية من المحادثات بين القوات العراقية والبشمركة بدأت لحل النزاع بشأن السيطرة على المعابر الحدودية لإقليم كردستان. وكان العبادي أمر بتعليق العمليات العسكرية ضد القوات الكردية في شمال العراق لمدة أربع وعشرين ساعة. وأجرى الجانبان جولة أولى من المحادثات. وطالب العبادي الأكراد بإعلان بطلان استفتائهم رافضا عرض حكومة كردستان بتعليق مسعاها للاستقلال من أجل حل الأزمة من خلال المحادثات. وقال في بيان خلال زيارة لطهران ”لن نقبل أي شيء سوى إلغائه واحترام الدستور“.
مسعود وحلم الدولة الكردية
ولد في مدينة مهاباد بإيران عاصمة وكرس حياته لتحقيق حلم إعلان دولة كردية، لكنه فشل في ترتيب أوراقه السياسية بعد الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق ليعلن تنحيه عن رئاسة الإقليم. كان الرئيس مسعود بارزاني الذي أعلن تنحيه عن السلطة، مؤسس إقليم الحكم الذاتي لكردستان العراق، لكنه كان أيضا المسؤول الأول عن سقوط حلم الدولة بمغامرته الخطيرة في اجراء استفتاء حول استقلال الإقليم. لم يتخيل بارزاني أنه سيصل إلى اليوم الذي سيخسر فيه ما بدأ ببنائه قبل 26عاما.
فلا يزال هذا المقاتل الذي بدأ نضاله منذ كان عمره 14 عاما، مرتديا زي البشمركة التقليدي، حتى صار "أيقونة" في عيون شعب يسعى إلى دولة، بحسب ما يقول تييري أوبيرليه في صحيفة "لو فيغارو" الفرنسية. وهو ابن مصطفى بارزاني، الزعيم التاريخي للحركة الوطنية الكردية في العراق والذي حمل ايضا لقب جنرال منحه إياه الجيش السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية. ولم ينس أبدا أنه ولد في "جمهورية كردستان الأولى" في مدينة مهاباد الإيرانية، التي استمرت عاما واحدا فقط قبل أن تنهيها القوات الإيرانية.
في العام 1978، نجح في خلافة والده كرئيس للحزب الديموقراطي الكردستاني الذي تأسس في العام 1946. ولكن قبل ذلك كان السياسي المخضرم جلال الطالباني يقف له بالمرصاد والذي أسس في العام 1975 الاتحاد الوطني الكردستاني، كممثل للبورجوازية الكردية في المدن الكبرى، خصوصا في السليمانية، ليصبح منافسه اللدود فيما بعد. وفي خضم الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988)، تعاون الحزبان مع إيران، لكن الثمن كان غاليا. فشن صدام حسين حملة الأنفال ضد الاكراد العراقيين فهجر عشرات الآلاف منهم، وقصف حلبجة بالسلاح الكيميائي، ما أسفر عن خمسة آلاف قتيل في العام 1988.
كما قدمت عشيرة البارزاني أكثر من 8000 شخص كضحايا، حيث اعتقلت سلطات نظام صدام حسين كل رجل وطفل في سن العاشرة من العمر من مناطق بارزان بشمال شرق اربيل واختفوا جميعا إلى هذا اليوم. وبعد هزيمة صدام حسين في حرب الخليج الأولى (1990)، انتفض الأكراد مرة جديدة، ولكن الأمور انقلبت ضدهم مجددا. وبعد ذلك، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 688 الذي يحظر على القوات الجوية العراقية التحليق فوق خط العرض 36، مطالبا بإنهاء القمع ضد الأكراد.
وكانت تلك اللحظة التي ينتظرها مسعود بارزاني. فشكل كيانا مستقلا تقاسم فيه السلطة مع الاتحاد الوطني الكردستاني. بيد أن التنافس بين الزعيمين، بارزاني وطالباني، تحول إلى حرب أهلية بين العامين 1994 و1996. بعد سقوط نظام صدام حسين في العام 2003، قام الأكراد بتوحيد إدارتهم. وعرف عن مسعود بارزاني أنه سياسي عنيد ومراوغ ومغامر إلى أبعد الحدود. آخر تلك المغامرات كان تصميمه على إجراء استفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق في 25 أيلول/سبتمبر الماضي، رغم معارضة بغداد ودول المنطقة والعالم.
وغضب بغداد ترجمته الحكومة الاتحادية تقدما عسكريا باتجاه الإقليم، مستعيدة غالبية المناطق المتنازع عليها مع أربيل والتي سيطرت عليها قوات البشمركة الكردية في خضم مواجهة مقاتلي تنظيم داعش في عام 2014، وخصوصا محافظة كركوك الغنية بالنفط. وهيمن بارزاني بشكل كبير على زواريب السياسة في الإقليم، وسعى إلى أن تكون لعائلته اليد الطولى في المناصب. ومنهم ابن شقيقه نجيرفان بارزاني الذي يتولى رئاسة الحكومة. كما أن مسرور، نجل مسعود، رئيس مجلس الأمن القومي في كردستان وله كلمة الفصل في أجهزة الاستخبارات الكردية.
وكان بارزاني الرئيس الأول والوحيد للأكراد حتى اليوم، لكنه وقع في فخ رهانه على الاستقلال. في هذا السياق، يشير دبلوماسي غربي إلى أنه حين طلب من بارزاني تأجيل مشروع الاستفتاء، أجابه رئيس الإقليم "لا أستطيع، لدي فرصة لن تأتي مرة أخرى. بغداد لا تزال ضعيفة لكنها تزداد قوة، وبعدها سيفوت الأوان". وأضاف "لا أستطيع التراجع وأعتقد أن الدول التي تنصحني بعدم إجراء الاستفتاء ستدعمني بعد ذلك". وكان ذلك الخطأ الكبير. بحسب فرانس برس.
ويقول المحلل السياسي كيرك سويل، ناشر مجلة "إنسايد إيراكي بوليتيكس"، إن رهان بارزاني لم يكن إلا "استنادا إلى دائرة ضيقة من المستشارين". أما بالنسبة إلى المحلل المختص بالشؤون الكردية موتلو سيفير أوغلو، فإن بارزاني وضع الأكراد في موقف صعب، بعدما "أخطأ في قراءة الموقف وتفسير الرسائل"، ما جعله وحزبه معزولين داخل العراق وخارجه. وقد تكون حقبة شخص مسعود بارزاني قد انتهت، لكن تأثير عائلة بارزاني في المشهد السياسي الكردستاني لم ينته بكل تأكيد. فأولاد وأحفاد البارزاني كثر وحصلوا على تعليم وتأهيل سياسي ودبلوماسي وعسكري غير مسبوق ما يجعلهم قادرين على تولي المناصب في كل الظروف. إلى جانب أن القيادة التقليدية للحزب الديمقراطي الكردستاني، من أقدم الأحزاب السياسية العراقية" كانت وستبقى لعقود قادمة بيد عائلة بارزاني، يتغير فقط الاسم الأول، أما الاسم العائلي فيبقى بارزاني.
اضف تعليق