التطورات العسكرية المهمة التي حققها الجيش السوري في الفترة الأخيرة وبدعم مباشر من بعض الحلفاء، غيرت وبحسب بعض المراقبين الكثير من التوقعات والاستنتاجات السابقة، فالهزائم الساحقة التي تعرضت لها الجماعات المسلحة وقوى ما يسمى بالمعارضة السورية (المتشتتة) والمدعومة من دول وجهات خارجية، في العديد من المناطق أعطت الرئيس السوري بشار الأسد الذي أصبح اليوم يسيطر على كل المدن الكبرى الرئيسية في البلاد تقريبا، قوة إضافية وشرعية اكبر وغيرت من مسار الصراع وصبت في مصلحة الرئيس السوري وزادت حظوظه التي كانت في تراجع قبل التدخل الروسي.
هذه التطورات والانتصارات المهمة دفعت بعض الخصوم الى تغير بعض الخطط والمطالب السابقة، ومنها الإصرار على رحيل الأسد الذي كان أهم شروط قوى المعارضة، والتي دخلت اليوم في مرحلة تفاوض جديد حول هذه القضية، خصوصا وان بعض الدول الداعمة ومنها المملكة العربية السعودية أكدت على ضرورة دراسة مستجدات الصراع بين المعارضة السورية والنظام خلال العام الماضي، في إشارة ضمنية إلى إدراك لاختلال موازين القوى بين المعارضة والنظام لصالح الأخير.
يضاف الى ذلك ان الرياض قد سعت ومن خلال وزير خارجيتها بحسب بعض المصادر، الى حث هذه القوى على إعادة صياغة موقفها من التطورات التي تشير إلى تحول أولويات المجتمع الدولي، الذي لم يعد يشدد على رحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، مقابل ازدياد الاهتمام بملف محاربة الإرهاب. وهو ما أكده رياض حجاب، الذي أشار حجاب إلى أن الجبير ألمح إلى "صعوبة استبعاد بشار الأسد من السلطة في الوقت الحالي"، وأن على المعارضة إعادة صياغة موقفها من النظام على أساس البحث في مدة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وليس إزاحته من المشهد السياسي، وذلك على اعتبار أن مجريات الأحداث تشير إلى أن هذا الاقتراح تجاوزته التطورات على أرض الواقع.
المشروع الغربي
وفي هذا الشأن قال الرئيس السوري بشار الأسد إن بلاده أفشلت المشروع الغربي للإطاحة به لكن جيشه لم ينتصر بعد في الحرب الدائرة منذ أكثر من ستة أعوام. وأضاف في كلمة بثها التلفزيون إنه رغم أن هناك مؤشرات على الانتصار بعد ستة أعوام ونصف العام من الحرب الأهلية فإن "التحدث عن إفشال المشروع الغربي لا يعني أننا انتصرنا فالمعركة مستمرة وبوادر الانتصار موجودة". ولم يسهب في التصريح عن تلك النقطة.
لكنه قال إن المساعدة التي قدمتها روسيا وإيران وجماعة حزب الله اللبنانية مكنت الجيش من تحقيق مكاسب في المعارك وخففت من عبء الحرب. وأضاف الأسد "دعم أصدقائنا المباشر سياسيا واقتصاديا وعسكريا جعل إمكانية التقدم في الميدان أكبر والخسائر أقل وهم شركاؤنا الفعليون". وتعهد الأسد بمواصلة هجوم الجيش السوري شرقا في منطقة الصحراء السورية حيث يتلقى دعما من فصائل مسلحة تمولها إيران وقوة جوية روسية مكثفة مما سمح لجنوده بانتزاع أراض من تنظيم داعش على عدة جبهات رئيسية. وتأمل الحكومة السورية في استباق فصائل مدعومة من الولايات المتحدة في هجوم على محافظة دير الزور آخر معقل رئيسي للتنظيم في سوريا وتمتد حتى الحدود العراقية.
والاتجاه شرقا، الذي لم يكن متصورا قبل عامين عندما كان الأسد في خطر، يعكس مدى قوة موقفه والمأزق الذي يواجه زعماء الغرب الذين ما زالوا يرغبون في إزاحته عن السلطة في عملية انتقالية عبر المفاوضات. وقال الرئيس السوري إن الجيش يحقق مكسبا تلو الآخر كل يوم للقضاء على "الإرهابيين" مؤكدا أن قواته ستواصل مهاجمتهم حتى القضاء عليهم. وقال إن بلاده ترحب باتفاقات محلية لوقف إطلاق النار بوساطة روسية تسعى موسكو لتوسيع نطاقها لتشمل مناطق أخرى في سوريا لأنها ستضع حدا لإراقة الدماء وحمل السلاح وتفتح الباب للعفو عن مقاتلي المعارضة. وقال الأسد إن فكرة مناطق عدم التصعيد تهدف لوقف سفك الدماء وإخراج الجماعات المسلحة التي تسلم أسلحتها موضحا اهتمام حكومته بنجاح هذه المبادرة.
ونشرت روسيا منذ الشهر الماضي شرطة عسكرية بجانب نقاط تفتيش عسكرية في جنوب غرب سوريا وفي الغوطة الشرقية قرب دمشق للمساعدة في ضمان الهدوء في اتفاقات أبرمتها مع جماعات من المعارضة. ولا تزال المفاوضات جارية مع جماعات المعارضة الرئيسية ومجالس محلية للتوصل إلى هدنة في ريف حمص الشمالي حيث سعت المعارضة لتدخل موسكو للسماح بدخول مساعدات إنسانية إلى مدنيين محاصرين. ويطالب زعماء المعارضة بإطلاق سراح آلاف من المعتقلين تحتجزهم الحكومة في سجونها.
وتشعر العديد من جماعات المعارضة الرئيسية بشكوك بشأن الأهداف النهائية لموسكو في سوريا وفي استعدادها لممارسة ضغط حقيقي على الأسد لدفعه لاحترام اتفاقات الهدنة. وتشعر تلك الجماعات بقلق أيضا من أن تكون اتفاقات وقف إطلاق النار وسيلة لجيش الأسد وحلفائه لإعادة الانتشار في مناطق أخرى واستعادة مزيد من الأراضي. واتهمت فصائل في المعارضة الجيش السوري وفصائل مسلحة متحالفة معه مدعومة من إيران بانتهاك وقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية. ويقول شهود إن الجيش يواصل قصف المناطق السكنية بالضواحي الشرقية لدمشق. بحسب رويترز.
ويقول الأسد إن الجيش يحتفظ بحق مواصلة الهجوم على مسلحي المعارضة. وتصنف الحكومة السورية الكثير من جماعات المعارضة المنضوية تحت لواء الجيش السوري الحر الذي توصلت موسكو لاتفاقات هدنه معها بأنها إرهابية. لكن الأسد أدان "المناطق الآمنة" التي اقترحتها الولايات المتحدة. وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قال في وقت سابق من العام إنه يأمل في تنفيذها مع روسيا إلا أن الأسد قال إن مثل هذه الخطوة لن تسفر إلا عن "منح غطاء للإرهابيين".
الأسد والأكراد
من جانب اخر أوقف مقاتلون يرتدون ملابس عليها شارة النسر الأزرق التي تميز أفراد قوة الأمن الداخلي الكردية (الأسايش) سيارة أجرة وهي تهم بدخول حي الشيخ مقصود في مدينة حلب السورية للتحقق من أوراقها وتفتيشها بحثا عن أي سلع مهربة. وعندما أشاروا للسيارة بالدخول إلى الحي الخاضع لسيطرة الأكراد فإنها كانت داخل المدينة لكنها غادرت فعليا الجمهورية العربية السورية التي يقودها الرئيس بشار الأسد.
وداخل الشيخ مقصود ترفرف الأعلام الكردية من على أسطح المنازل وتحل صورة زعيم كردي محل صورة الأسد. وقال سعاد حسن وهو سياسي كردي بارز إنهم لن يتخلوا عن الحي إلا إذا قتلوا جميعا. وتتقبل الحكومة السورية بشكل عام الحكم الكردي لذلك الجيب وتسمح بالتنقلات منه وإليه وهو ما يظهر استعدادها في الوقت الحالي على الأقل لقبول حركة كردية تتناقض رؤيتها لسوريا بشكل مباشر مع روية الحكومة لكنها ليست عدوتها اللدود.
لكن الخلافات بين من يديرون الشيخ مقصود، الذي يقطنه 40 ألف نسمة، والحكومة تشير إلى مشكلات مستقبلية محتملة. والعلاقة بين الطرفين غير مستقرة وتعقدها شبكة من التحالفات والخصومات الدولية ستكتسب أهمية متزايدة مع انتزاع كل من الطرفين السيطرة على مزيد من الأراضي من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية. وروجت حكومة الأسد لهزيمة مقاتلي المعارضة في حلب بوصفها أكبر نصر للرئيس في الحرب حتى الآن فهي عودة لسيطرة داعش على مدينة كانت يوما أكبر مدن البلاد.
لكن الأسد لم يتحرك لاستعادة السيطرة على الشيخ مقصود الذي يقع على تلة محاطة بمناطق يسيطر عليها الجيش. وليس هناك وجود عسكري حول الحي عدا نقطة تفتيش للجيش السوري على الطريق المؤدي إليه ويتنقل الكثير من عمال الحكومة والطلبة من داخل الحي إلى المدينة يوميا. وبرغم ذلك شكى قادة في قوات الأسايش من أن نقاط التفتيش الحكومية تمنع دخول السلع والخدمات إلى داخل الحي.
في غرفة داخل مقر أكاديمية المجتمع الديمقراطي في حلب يحضر 15 رجلا وامرأة محاضرة عن الفكر اليساري ونظام الحكم الفيدرالي الذي تتبناه وحدات حماية الشعب الكردية السورية. وقفت امرأة تتحدث وأومأ المحاضران باستحسان قبل أن يصححا مفهومها عن مبدأ أساسي. طغت على الغرفة صورة بحجم حائط بالكامل لعبد الله أوجلان مؤسس حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا والرمز السياسي لوحدات حماية الشعب وللحزب الكردي السوري الرئيسي وهو حزب الاتحاد الديمقراطي.
وتحمل الكتابات على الجدران في حي الشيخ مقصود عدة إشارات لحزب العمال الكردستاني وأيضا إلى "آبو". والملصقات المعلقة في الشوارع وتحمل صور "الشهداء" لا تقتصر على من قتلوا من صفوف وحدات حماية الشعب في سوريا بل أيضا بعض من قتلوا وهم يحاربون في صفوف حزب العمال الكردستاني في تركيا.
هذه الصلات بحزب العمال الكردستاني تقلق الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي كان من بين أسباب قراره بالتدخل في سوريا منع قيام دويلة كردية على حدود بلاده. كما عقدت تلك الصلات أيضا من علاقة وحدات حماية الشعب بالولايات المتحدة التي تدعمها بوصفها في صدارة الحملة ضد داعش في سوريا لكنها في ذات الوقت تصنف حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية.
وتخلى الأكراد عن فكرة الاستقلال عن سوريا ويريدون دولة لا مركزية تنتخب فيها المجتمعات المختلفة مجالس محلية يقودها الرجال والنساء على حد سواء بحيث تكون كل المجموعات العرقية والدينية ممثلة فيها. ويقول منتقدون إن هياكل الحكم التي أسسوها وفقا لذلك المفهوم في شمال سوريا أقل ديمقراطية مما تبدو عليه ويهيمن عليها مسؤولون يدينون بالولاء لحزب العمال الكردستاني. لكن تظل رؤيتهم مناقضة لمفهوم الدولة السورية بقيادة الأسد التي تتسم بالمركزية وتؤكد الجذور العربية للبلاد.
وأشار وزير الخارجية السوري وليد المعلم إلى إمكانية التوصل إلى ما وصفها بموائمة مع الأكراد وأشار الأسد إلى أنه يقبل حملهم للسلاح في الوقت الراهن. لكن الأسد تعهد أيضا باستعادة السيطرة على كل شبر من البلاد ووصف الكيانات الكردية الحاكمة بأنها مؤقتة. ومن الأسباب الواضحة لتسامح الأسد مع وحدات حماية الشعب الكردية عداء الوحدات لجماعات المعارضة التي تسعى للإطاحة به.
وكانت جبهة الأكراد ضد المعارضة ساعدت الأسد عندما استعادت قواته شرق حلب العام الماضي. كما حرم قتال الأكراد ضد داعش الجهاديين من موارد كان من الممكن أن يستخدموها ضد الحكومة السورية. واستفادت الحكومة السورية أيضا من قلق تركيا من الصلات بين الوحدات وحزب العمال الكردستاني. ويتركز تدخل تركيا في سوريا على احتواء النفوذ الكردي. وتركيا من أكبر الداعمين للمعارضة السورية.
وسمح الأكراد باستمرار جيوب تحت سيطرة الحكومة قرب الحسكة والقامشلي وهما مدينتان يسيطرون عليهما في شمال شرق سوريا لكنهم اشتبكوا أيضا مع الجيش هناك. وانتقد محمد علي وهو قائد الأسايش في الشيخ مقصود الحكومة السورية وقال إنها كثيرا ما منعت المرور من الشيخ مقصود إلى مناطق أخرى ومنعت دخول إمدادات إنسانية. وقال إن سلوك الحكومة السورية خاطئ ويجعل الشيخ مقصود تبدو وكأنها منطقة عسكرية وليست مدنية.
وقال علي إن هناك مدرستين فقط ولا توجد أي مدارس ثانوية في الشيخ مقصود. ويحتاج الصبية والبالغون الذين يعملون في مناطق أخرى من حلب إلى الانتقال إلى مناطق خاضعة للحكومة. وأوضح أن نقطة التفتيش تفتح فقط من الثامنة صباحا وحتى الخامسة مساء في الصيف وحتى الثالثة مساء في الشتاء. وتأتي كل الإمدادات من الخارج ومنها الغذاء والدواء والوقود المخصص لمولدات الكهرباء والمطلوب أيضا لتشغيل المضخات التي ترفع المياه من الآبار. وقال بائعون إن المنتجات في أسواق الشيخ مقصود تشترى جميعها كل يوم من سوق للفواكه والخضروات بوسط حلب لكنها تخضع لرسوم قدرها 50 ليرة (0.10 دولار) للكيلو عند نقطة التفتيش. وتبعد منطقة الشيخ مقصود نحو 17 كيلومترا عن عفرين أقرب منطقة يديرها الأكراد. ويستطيع المدنيون المرور دون صعوبات كبيرة لكن يتعذر ذلك على المقاتلين الأكراد. ويخاطر الشباب بالخضوع للتجنيد الإجباري عند نقاط التفتيش التابعة للجيش.
وقال علي إن نقاط التفتيش رفضت في بعض الأحيان دخول شحنات إلى الشيخ مقصود دون إنذار مسبق ودون إبداء أسباب مشيرا إلى شحنة ديزل لم تحصل على إذن بالدخول مؤخرا. وأضاف أن نقاط التفتيش منعت أيضا الشاحنات الثقيلة ومعدات البناء مثل الجرافات المطلوبة لرفع الأنقاض في المناطق المتضررة من الدخول. وفي الجناح الرئيسي بالمستوصف الوحيد في الشيخ مقصود الذي كان مدرسة في السابق يرقد جندي بلا حراك ورجل مسن على سريرين معدنيين.
وكانت خزانة بلاستيكية أمام أحد الحوائط ممتلئة بمعدات ومستلزمات طبية قديمة وغير مرتبة. كانت هناك حقيبة بلاستيكية للمهملات ممتلئة لمنتصفها ومفتوحة في زاوية وبداخلها قفازات جراحية مستخدمة. ولا يقدر المستشفى على إجراء جراحات تحت التخدير ويوفر في الغالب فقط إسعافات أولية قبل نقل المرضى إلى مستشفيات خاصة في القطاع الخاضع للحكومة في حلب. ويظهر الاعتماد الواضح على الصلات بمناطق حكومية في مناطق كردية أخرى من سوريا إذ تقع حدودها الأخرى مع تركيا والعراق. بحسب رويترز.
ولا يوجد في الشيخ مقصود أثر للعلاقات بين وحدات حماية الشعب والولايات المتحدة لكن رويترز رأت مركبة روسية مدرعة تسير ببطء في أحد الطرق. وموسكو أكبر حليفة لسوريا في الحرب ويعتقد الأكراد أن وجود قوات روسية في منطقة عفرين الكردية ساعد أيضا في تفادي هجمات تركية محتملة هناك. ومع ذلك يقول زعماء أكراد في الشيخ مقصود إنهم لا يرون سببا لقبول سلطة دمشق إلا إذا رغب الأكراد في ذلك. وقال محمد حاج مصطفى رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي في الشيخ مقصود إن نحو 30 إلى 40 في المئة من الأراضي السورية تحت سيطرة الأكراد وإن إرادة الشعب هي الأقوى.
اضف تعليق