q

أمين طاهر

 

تتنامى ظاهرة العولمة في عصرنا الحالي بوثيرة سريعة بفعل التقدم التكنولوجي الهائل في عدة قطاعات، مثل المواصلات والاتصال ونزوع دول العالم نحو تحرير التجارة؛ مما سهل اندماجها في مجال موحد مترابط في مختلف المجالات يأتي الاقتصاد في مقدمتها، حيث أتاحت له حرية تبادل السلع والخدمات و«الرساميل» بشكل مضطرد لم يشهد له التاريخ مثيلًا.

لعب السياق التاريخي دورًا بارزًا في هذه التحولات الاقتصادية التي شهده العالم منذ التسعينات القرن الماضي، مع زوال القطبية الثنائية، بعد انهيار المنظومة الشيوعية، وتبوؤ الولايات المتحدة الأمريكية كقطب مهيمن على جميع الأصعدة؛ مما جعل بعض الباحثين يصف انتصارها الاديولوجي بنهاية التاريخ وبكون مذهبها الاقتصادي الليبرالي الأمثل لبلدان العالم.

وهو ما جرى تسويقه فيما بعد بالاعتماد على المؤسسات المالية ومنظمة التجارة العالمية، والتي لعبت دورًا هامًا في تطور الاقتصاد العالمي، وتحريره من خلال إحياء مبادئ «الليبرالية الكلاسيكية» بمسمى جديد «النيوليبرالية»، كوصفة جاهزة للتغلب على مشاكل الاقتصادية، سواء بالنسبة للبلدان التي شهدت تحولًا من الاقتصاد الموجه نحو الرأسمالية أو البلدان التي تعاني من صعوبات اقتصادية عبر عدة سياسات ليبرالية في صيغة جديدة من قبيل التقويم الهيكلي، وتحرير التجارة والخصخصة.

وعلى هذا الأساس تمددت النيوليبرالية بنسختها الأنجلوسكسونية إلى بقاع متعددة في العالم كمشروع أممي يهدف إلى عولمة الاقتصاد، بعد أن شهدت انحسارًا طيلة عقود القرن العشرين، حيث تم تحميلها مسؤولية الكساد العظيم لسنة 1929 ، غير أن هذا التراجع الذي أصابها سرعان ما اختفى بعد اندلاع الأزمات الهيكلية للاقتصاد العالمي في السبعينات؛ مما أعادها إلى الواجهة كحل ناجع لاقتصاديات البلدان الرأسمالية، وأعطى لمبادئها القائمة على عدم تدخل الدولة في الاقتصاد وإخضاعه لقانون السوق، وبضرورة تصفية القطاع العام لصالح القطاع الخاص دفعة قوية، بعد أن تحررت من مختلف القيود والعراقيل.

وبالرغم من دينامية التي بات يتمتع بها الاقتصاد العالمي خصوصًا مع تحرير التجارة الدولية، إلا أنه في الجانب المقابل يطرح الكثير من المشاكل والصعوبات، لاسيما من حيث العلاقات بين الدول المتقدمة، والدول النامية، ومدى الاستفادة من النمو الهائل الذي يشهده الاقتصاد المعولم الذي يتميز بانعدام العدالة في توزيع المكاسب الاقتصادية واحتكار اقلية من الرأسماليين على ثروات هائلة.

وأسفر النظام الرأسمالي بذلك عن بزوغ مرحلة جديدة طابعها المميز التوحش في استغلال مقدرات الشعوب بتوظيف شعارات رنانة من قبيل تحرير التجارة والتكييف الهيكلي و الخصخصة التي لم تنتج سوى العديد من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المركبة في العديد من الاقطار حول المعمورة.

بالاستناد إلى إحصاءات المؤسسات المالية، فلم تشهد جل البلدان النامية التي طبقت مبادئ الليبرالية الاقتصادية النمو المنشود، بل زادت أوضاعها الاقتصادية سوء مسفرة عن تزايد ديونها، وتآكل مداخيلها المالية، بعد أن جرى حصرها لخدمة مستحقاتها المالية لفائدة المؤسسات المالية الدولية، كما تعمقت الهوة بينها وبين البلدان المتقدمة، حيث تحولت في معظمها إلى مجرد أسواق لتصريف فائض الإنتاج الصناعي ومصدرًا للمواد الخام الرخيصة، التي تحتاجها بشدة الشركات العملاقة العابرة للقارات، كتوزيع للأدوار الاقتصادية، بعد أن جرى تفكيك معظم مؤسسات القطاع العام وخصخصتها بذريعة عدم كفاءتها؛ مساهمًا بذلك في تراجع نموها الاقتصادي وتكريس تبعيتها للخارج.

وتبقى الانعكاسات الاجتماعية الأخطر على الإطلاق بعد عقود من السياسات الهيكلية التي تشترطها المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي، استفحلت معدلات الفقر والبطالة في قطاعات واسعة من المجتمع وترسخت الفوارق اجتماعية بين أقليات ثرية محلية مرتبطة بمصالح خارجية وباقي الطبقات الفقيرة التي تشكل غالبية المجتمع.

وهزت هذه السياسات الاقتصادية البناء الاجتماعي بعنف، حيث تحولت قطاعات هامة من الطبقات الوسطى إلى فئات محدودة الدخل؛ بسبب تدهور قدرتها الشرائية وارتفاع الأسعار وتوقف الدولة عن تمكينها من الاستفادة من الخدمات الاجتماعية؛ كنتيجة لتخلي الدولة عن دعم المواد الغذائية، أو توفير التعليم والتطبيب المجاني؛ بذريعة أن موازنة العامة تعاني من عجز حاد، وهو ما شكل حرمانًا لها من الثروات الوطنية التي تصلهم بشكل غير مباشر عبر الإعانات الحكومية في شكل سلع وخدمات اجتماعية مدعمة.

ساهمت النيوليبرالية في تكريس التبعية السياسية بين دول المركز المتقدمة، وباقي العالم الذي تحول إلى أطراف هامشية في الاقتصاد العالمي في مشهد يعيد إلى الأذهان عصر الاستعمار، ولكن بصيغة معدلة حيث حلت الشركات العملاقة متعددة الجنسيات محل الدول الاستعمارية في نهب خيرات، وثروات شعوب العالم وحرمانها من رساميلها بنقلها الخارج بشكل مقنن عبر الاتفاقات والمعاهدات التجارية المبرمة .

بحكم التجارب التاريخية لنتائج تطبيق الليبرالية الاقتصادية في أوروبا خلال القرنين 19 وبداية القرن العشرين، وما خلفته من ثورات واضطرابات اجتماعية وكوارث الحروب العالمية، بات يلوح في الأفق خطر انبعاثها من جديد؛ بعد وصول تيارات اليمين المتطرف في الغرب؛ بسبب تزايد الاحتقان الشعبي من السياسات الاقتصادية المؤلمة، ومن سيطرة «اللوبيات» الاقتصادية على المشهد السياسي الغربي، وهو ما سيساهم في تأزيم الأوضاع بعالم مضطرب أصلًا، ما لم يتم التدارك قبل فوات الأوان، عبر رد الاعتبار إلى دولة الرفاهية الاجتماعية، وإعادة تأسيس علاقات بين الشعوب قائمة على التعاون والتكامل بعيدًا عن منطق المصالح الضيق.

اضف تعليق