في كل يوم جديد يفاجئنا ابتكار جديد في الزراعة، وفي التصاميم العمرانية للمدن بساحاتها وشوارعها وحدائقها وعمارتها المتميزة، وكأن العالم المتقدم في وادٍ ونحن في آخر!، لا تشغلنا الزراعة، ولا تطويرها، ولا نعتني بمضاعفة الأراضي الخصبة لزيادة المحاصيل والغلال، كذلك لا نهتم بزيادة الموارد من خلال المشاريع الاقتصادية المستحدثة، لتوظيفها في العمران، وكأننا خُلقنا لنتابع نجاحات الآخرين بتعجبٍ وإعجاب، من دون أن نتخذ الخطوات العملية التي تجعلنا جزءاً من العالم المدني المتطور، مع أننا نمتلك كل اشتراطات التطور المادية والفكرية، لأننا كما يعترف العالم اليوم، نحن الذين قدمنا لهم العلم، فاستثمروه وحوَّلوه الى موارد وأموال وثروات، وبقينا نحن نتغنى بمجدنا وماضينا ولا نعمل بأفكاره!.
تُرى أين يكمن الخلل، وكيف يمكننا مواكبة التحديث المتسارع في الزراعة والعمران؟، لاسيما أن دول العالم المتطورة تحقق قفزات سريعة في هذا المجال، بعد أن كنّا نتقدم عليها في الزراعة والعمران ايضا، بسبب تطور الافكار والاختراعات وما شابه، فقد كان المسلمون يتقدمون زراعيا على غيرهم من الامم والدول، كما تثبت كتب التاريخ.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام): في عهد الحكومة الاسلامية (كانت الزراعة موجودة بكثرة هائلة منقطعة النظير، حتى قياسا إلى هذه الأيام التي سهلت فيها الزراعات، وصنعت المكائن التي تعمل لاستخراج المياه ورش البذور والحصاد وغيرها).
ويضيف سماحته في المجال نفسه: لقد (كان العراق يسمّى بـ أرض السواد لأنّ الشخص في العراق أين ما كان يذهب أو يحل، يبصر ـ بمرمى بصره ـ الزراعات، وكان يقول واصفو مزارع العراق: إنّه لا يوجد فيه فدان غير مزروع). ويؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا (ومصر كذلك كانت مزروعة وأرضها خصبة في عهد الحكومة الإسلامية). وهذا يمثل دليلا قاطعا على تطور الزراعة آنذاك، على العكس مما يجري الأن من تراجع كبير للزراعة.
شواهد التأريخ وأدلّـته
من الامور المتَّفق عليها منطقيا، وفقا لقانون التراكم، أن المسلمين اليوم ينبغي أن يقودوا العالم في مجال الزراعة، ويجب أن يحققوا الاكتفاء الذاتي بالنسبة للغذاء، كذلك الامر في مجال العمران، فالامة التي تملك جذروا عميقة في ميدان ما، وخبرات متراكمة في الزراعة مثلا، ينبغي أن تتقدم الآخرين في هذا المجال دائما، أما اذا تراجعت فيه كما هو الحال بالنسبة للعراق، وبعض الدول الاسلامية، فهذا ينبئ بوجود خلل في التخطيط والادارة والتنفيذ، وهو تقصير حكومي بالدرجة الاولى، فكيف يتراجع المسلمون في الزراعة والعمران، بعد ان كانوا يقودون العالم في هذا المجال قبل مئات السنين؟!.
نقرأ في كتاب المرجع الشيرازي نفسه ما يلي: (ذكر المقريزي ـ وهو من المؤرّخين: إن هشام بن عبد الملك سنة 107 هجرية، أمر عبد الله بن الحجّاب عامله على خراج مصر أن يمسحها ـ أي، يستعلم مساحتها ـ فمسحها بنفسه، فوجد مساحة أرضها الزراعية، مما يركبه النيل 30,000,000 - ثلاثين مليون فداناً)!. ويضيف سماحة المرجع الشيرازي بكتابه نفسه: (يقول جرجي زيدان: مع أنّ مساحة الأرض الزراعية في وادي النيل سنة 1914 مع ما تبذله الحكومة من العناية في إخصابها وتعميرها لم تتجاوز ستّة ملايين فدان كثيراً.. الخ). ثم يردف قائلاً: (يوجد مثل هذا العمران أيضاً في مدن الإسلام الكبرى في الأندلس مثل: قرطبة وغرناطة وطليطلة، وفي العراق والشام بلاد لا تحصى، كانت في تلك الأيام مدناً كبرى وأصبحت الآن قرى صغيرة).
أما الآن فبعد كل التطورات التي حدثت في الزراعة وفي مجالات البناء والمنشآت الهندسية المعمارية المتطورة، وبعد كل الخبرات المتراكمة للمسلمين، فإن الزراعة في العراق بلغت أدنى مستوياتها في الزمن الراهن، على مستوى الكم والنوع!، كذلك هناك فوضى في المعمارية وعشوائية تحكم البناء والاعمار، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، ترى لماذا هذا التردّي الخطير في هذا الجانب، وما هي الاسباب التي تقف وراء ذلك؟ هذا السؤال موجَّه الى المعنيين والمسؤولين عن قيادة المسلمين في العراق وغيره.
علما ان سماحة المرجع الشيرازي يؤكد على أن: (هذه الشواهد وإن كانت لا تعطينا صورة تفصيلية عن العمران والزراعة في ظل الحكم الإسلامي في البلاد الإسلامية كلها، إلا أنها تكفي لأن تكون أنموذجاً عن ذلك). وهذا يمثل دليلا على درجة التراجع الكبيرة زراعيا ومعماريا، في بلاد المسلمين، ومنها وربما اكثرها اهمالا هو العراق، كونه يسجّل درجة كبيرة من التدني وهبوط الانتاج الزراعي، على الرغم من توافر جميع مقومات التقدم في هذا المجال.
الأرض لمن عمّرها
عندما نقوم بمسح دقيق للأراضي الزراعية في العراقي على سبيل المثال، فإننا سنجد مساحات هائلة منها، كلها يمكن ان تكون صالحة للزراعة بعد الإعداد والتهيئة، أي بعد اجراء عمليات الاستصلاح اللازمة عليها، ولكن هناك اراضي واسعة وكبيرة مهملة، لا يمكنها انتاج أية علة، بسبب عدم الاهتمام بالأرض، بل بسبب إهمال الزراعة كورد اقتصادي للبلاد، فضلا عن المعوقات الكثيرة التي تقف حائلا امام استصلاحها، لأسباب عديدة منها القوانين الفاشلة التي تهدف الى تنظيم العمليات الزراعية لكنها تعطي نتائج عكسية تماما.
فتؤدي الى تراجع الزراعة واهمال الاراضي الصالحة، ويؤدي ذلك الى التدهور المتواصل لهذا القطاع الاقتصادي الحيوي والمورد المهم للدولة، ونتيجة لهذا التدهور سوف يتراجع العمران بطبيعة الحال، وهو امر واضح ربما لا يحتاج الى تفسير، فعندما توضع عقبات ضد الزراعة، تقل الموارد ويتراجع العمران ايضا، وهو ما يحدث الآن بصورة فعلية.
لذلك يتساءل سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه قائلا: (ما هذا التدهور المستمر في الزراعة والعمران في الدولة الإسلامية إلا من جراء إزاحة الإسلام عن مجال الحكم والتنفيذ، ومن جراء استبدال الإسلام بقوانين ليست من الإسلام ولا الإسلام منها، وإيجاد قيود ثقيلة على الزراعة والعمران مضافاً إلى الضرائب).
وقد كان المسلمون في السابق لا يتركون ارضا بلا زراعة، لهذا يحق للمسلم أن يزرع الارض التي لا صاحب لها يرعاها ويجعلها منتِجة، بل من يزرع الارض المتروكة سوف تصبح ملكا له، أرضه هو، لهذا كانت الاراضي المزروعة واسعة جدا، وكان العمران يرافقها، وكانت المنافسة الايجابية شديدة بين المزارعين من اجل زراعة الارض، وبهذه الطريقة لن تبقى ارضا زراعية فارغة من الاشجار والاثمار والغلل الاخرى وغير مستَغلّة، فمن الاحكام الاسلامية التي كانت سائدة في عهد الحكومة الاسلامية بصدر الاسلام، أن الارض لمن يزرعها، ومن لا يستطيع زراعة الارض لاي سبب كان، لا يجوز ان يتملّكها، بل ستكون حقا وملْكا لمن يزرعها فعلا، أما من يهملها فلا يحق له تملكها، إلا إذا بادر وزرعها واستحصل منها الغلال والمحاصيل المختلفة.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على مبدأ (الارض لمن عمّرها وأحياها، قائلا سماحته في كتابه المذكور نفسه: (لو رجعت الأنظمة الإسلامية ـ اليوم ـ إلى ذلك الحكم، وأبيحت الأراضي لمن عمّرها وأحياها، ورفضت القوانين المقيّدة، والضرائب الباهظة، لساد البلاد الإسلامية العمران الشامل).
اضف تعليق