تعريب: علاء الكاظمي
بمناسبة قرب حلول شهر رمضان العظيم (1437 للهجرة)، وكالسنوات السابقة، ألقى المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، كلمه قيّمة مهمة، بجموع غفيرة من العلماء والفضلاء والمبلّغين والخطباء وطلبة العلوم الدينية والمؤمنين، من العراق والخليج وأوروبا والهند وأفغانستان وباكستان وسوريا وأفريقيا, ومن مختلف المدن الإيرانية كـ قم المقدّسة وأصفهان وطهران وغيرها، وذلك في بيته المكرّم بمدينة قم المقدّسة، مساء يوم الأربعاء الموافق للخامس والعشرين من شهر شعبان المعظّم 1437 للهجرة (1حزيران/يونيو2016م)، إليكم نصّها الكامل:
قال الله عزّ وجلّ في القرآن الحكيم: «هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ». والبلاغ يعني الوصول والإيصال. وظاهر الآية الكريمة هو ان القرآن هو بلاغ للناس كافّة ولكل الأزمنة. ولكن تأويل الآية وسبب نزولها يبيّنان ان المراد من (البلاغ) هو النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله، كما قال أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم، حيث أرسله الله تبارك وتعالى لعباده كلّهم.
حجج الله تعالى
إنّ حجج الله تعالى على خلقه هي ثلاث: الأولى: القرآن الكريم. والثانية: نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله. والثالثة: العترة الطاهرة صلوات الله عليهم أجمعين. كما ان النبيّ صلى الله عليه وآله قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي». ولذا فإن كل مقولة في الدين ترجع إلى هذه الحجج الإلهية الثلاث، فهي صحيحة وفيها اليقين. وهذه الحجج الثلاث لا تتناقض مع بعضها. ولا تتنافى مع بعضها أيضاً. فقول المعصومين صلوات الله عليهم وعملهم وتقريرهم مطابقاً لأقوال وأفعال وتقارير رسول الله صلى الله عليه وآله، تماماً، ومطابقة لأحكام وآيات القرآن الحكيم أيضاً.
ملاك الإسلام
يقول الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في إحدى خطبه الشريفة بمناسبة يوم الغدير، ما مضمونه: (ولا يرضى الله التوحيد بلا نبوّة، ولا يرضى بالتوحيد والنبوّة بلا العترة). فهذه الحجج الثلاث هي ملاك الإسلام، ولا علم في غيرها أبداً. فإذا كان كلام مرجع التقليد الجامع للشرائط حجّة فهذا لا يكون إلاّ في ظل اقتباسه من الحجج الثلاث، أي: القرآن، والنبيّ، والعترة.
وجوب التبليغ
ثم أشار سماحة المرجع الشيرازي دام ظله إلى أهمية التبليغ في شهر رمضان العظيم، وإرشاد الناس، وقال: يعدّ التبليغ في طول السنة، أمراً لازماً وواجباً كفائياً، إلاً من كان قاصراً وليس جاهلاً. لأن الجاهل حتى إذا كان مقصراً، إن لم يسعى إلى التعلّم، فلا يسقط عنه وجوب التعلّم وتعليم الآخرين، بل يبقى مسؤولاً. ولكن القاصر معذوراً عند الله، فـ(القاصر لا يستحق العقاب).
أفضل فرصة لتهذيب النفس
علينا أن لا نغفل عن التبليغ طول السنة، ولكن شهر رمضان العظيم، وبسبب ما يختصّ به من خصائص، يعدّ أفضل فرصة للتبليغ. ومن خصائص هذا الشهر العظيم، هو الصيام، والأعمال الواجبة والمستحبّة الخاصة به، التي تهيئ القلوب وتحضّرها لقبول الحقائق أكثر وأكثر. ومن أهم الواجبات في هذا الشهر تربية النفس. فيجب على الإنسان أن يفعّل قوته وهمّته ويسعى بكل قدراته إلى تربية نفسه في هذا الشهر الفضيل. فمهما يكن الإنسان حسناً ومتّقياً يمكنه أن يرتقي أكثر في ذلك. فالتقوى والأخلاق الحسنة والإخلاص لا حدود لها، وفيها مجال للارتقاء، وأفضل فرصة لذلك هو شهر رمضان العظيم.
قال الله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا». فالنفس عنيدة وتسعى دائماً إلى الإيقاع بالإنسان في فخ الذنوب. والفالح هو من يمسك بزمام نفسه العنيدة ويربّيها. فالإنسان إذا تمرّض مرضاً صعب العلاج، أو كان أحد من أفراد عائلته مبتلياً بذلك، تراه يسعى إلى البحث عن كل طريقة وحلّ للعلاج والشفاء منه.
وهكذا، يجب العمل به تجاه النفس العنيدة، حيث يمكن علاجها بتهذيبها. لأنه إذا غفل الإنسان عن تزكية نفسه، فسيشقى، كما حدث لكثير ممن كانوا من الكبار كبلعم بن باعوارء، والزبير، وغيرهم حيث وقعوا في فخ النفس.
وسيلة التهذيب
وحول الآية الكريمة: «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا» قال سماحته: هذه الآية لها ظهور في حصر، بمعنى ان السبيل الوحيد في سعادة البشر هو تزكية النفس. وقد تطرّق كتاب المطوّل بالتفصيل حول الحصر وأداته. ويعني أنه أحياناً تجد في جملة واحدة كلمتين تدلاّن على الحصر في آن واحد، كأداة النفي والاستثناء. وأحياناً تجد جملة لها ظهور في حصر. ففي علم الطب، مثلاً، إذا قيل ان كذا دواء هو لكذا ألم أو داء، فهذه ليست جملة خبرية صرفاً، بل لها مفهوم حصري. وعلى هذا فإن الآية الكريمة «قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا» إضافة إلى ما لها من خبر، تحمل مفهوم الحصر أيضاً، وهو ان طريق الفلاح ينحصر في تزكية النفس. فلذا على الإنسان أن يسعى إلى الفلاح. والدعاء هو جزء من السعي. والجزء الآخر هو التوسّل إلى الله تعالى بمن أمر تعالى بالتوسّل بهم، وهم الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم. ومن أجزاء ذلك هو مراقبة النفس ومحاسبتها. فعلى الإنسان أن يستفيد من هذه الأجزاء كلها لعلاج نفسه وإصلاحها. فمعظم الذين أشار القرآن إلى شقاوتهم، ليس أنهم لم يكن لهم الميل إلى الفلاح، بل انهم لم يسعوا سعياً كافياً إلى ذلك.
أسوة التبليغ
وفي سياق كلمته، أشار سماحة المرجع الشيرازي دام ظله إلى أبعاد شخصية نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وأثر هذه الشخصية العظيمة على الناس، واعتبر الخلق العظيم للنبيّ صلى الله عليه وآله بأنه كان عاملاً أساسياً في جذب الكثير من الناس نحو الإسلام، وقال: يقول الله عزّ وجلّ في القرآن الحكيم: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ». فما سوى الله تعالى، كان نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله الأكثر موفقية. وكانت بعض أدوات الموفقية له صلى الله عليه وآله دنيوية كالدفاع. فقد ذكر التاريخ في مئات المواقف أن الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه قد نجّى النبيّ صلى الله عليه وآله، ومنها في أُحد وحنين والعقبة، وكان الإمام ناصراً ونصيراً للنبي صلى الله عليه وآله في مواطن كثيرة أخرى ومحامياً عنه. كما في القول المشهور: «لولا سيف علي ومال خديجة ما استقام الإسلام».
أهم سبب في انتشار الإسلام
ومع نصرة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه للنبيّ والنصرة والمحافظة الإلهية، كانت لأخلاق النبيّ صلى الله عليه وآله الأثر البالغ والكبير في نفوذ الإسلام إلى نفوس الناس. فبعقيدتي أن من أهم أسباب انتشار الإسلام وتقدّمه هو الأخلاق الرفيعة والراقية للنبيّ صلى الله عليه وآله. ولا أحد يضاهى نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله في الأخلاق. ويمكنكم أن تعرفوا عن سيرة وأخلاق الشخصية العظيمة له صلى الله عليه وآله، أكثر، عبر الكتب التاريخية كبحار الأنوار بالأخصّ الأجزاء من 15 إلى 22، واتركوا الكتب التي تنسب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله ما هو مرفوض وغير مقبول.
سيرة النبيّ في الحرب
من العبر التي يمكن استلهامها من حياة النبي صلى الله عليه وآله، هي سيرته في حروبه مع اليهود الذين كانوا أطراف المدينة. فقد سعى أحد زعماء اليهود إلى الكيد بالنبيّ صلى الله عليه وآله وقتله والقضاء على الإسلام من أول وصول النبيّ صلى الله عليه وآله للمدينة. فبدأ يعدّ العدّة والعدد، وجمع الكثير من الأموال والسلاح، وعبّأ الكثير من الرجال لذلك، وبقي على هذا المنوال لسنين عديدة. فالمشركين في معركتي بدر وأحد لم يستطيعوا القضاء على الإسلام، وكان لنتيجة تلك المعركتين التأثير على ذلك اليهودي بأن يصمّم أكثر على قتل النبيّ. فعزم على ذلك، وعلم النبيّ صلى الله عليه وآله بما عزم عليه اليهودي، فدعا صلى الله عليه وآله أهل المدينة إلى التهيّؤ للدفاع.
النقطة المهمة والداعية إلى التأمل في سيرة النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه وحتى الإمام الحسين صلوات الله عليه هي أنهم صلوات الله عليهم لم يبدؤا بالحرب ولا بحرب أبداً. فكل حروب النبيّ صلى الله عليه وآله كانت دفاعية ولم يبدأهم صلى الله عليه وآله بالحرب. وكان من طرقه للسلم أنه صلى الله عليه وآله كان يبعث رسولاً وممثّلاً عنه إلى العدو ويدعوه للتفاوض. وكان ممثّله صلى الله عليه وآله يسعى كثيراً عبر التفاوض إلى دعوة العدو لعدم الحرب. فبعث صلى الله عليه وآله ممثّلاً عنه إلى اليهود للتفاوض معهم، ولكن لم ينفع معهم. فبدأت الحرب، وكان اليهود يسكنون في الجبال بأطراف المدينة، وكانت لهم فيها القلاع والحصون وبيوتهم، وبهذا كانوا بمثابة المشرفين على المسلمين الذين كانوا يعيشون في الأرض المنبسطة. وهذه الوضعية كانت بمثابة الموقع الاستراتيجي وبصالح اليهود. ولكن الله تعالى وعد نبيّه بالنصر، وهذا ما وقع، وغنم المسلمون غنائم كثيرة. وكانت من الغنائم جُبيره بنت أحد زعماء اليهود.
العفو أمضى من السيف
بعد انتهاء المعركة، لجأ اليهود إلى الجبال بسبب انكسارهم. وذكر التاريخ أنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله ليقضي حاجته ـ حيث ذكرت الروايات أن النبيّ صلى الله عليه وآله «ما رئي علي غائطٍ قط» ـ و قد وضع سلاحه فجعل بينه وبين أصحابه الوادي، فإلى أن يفرغ من حاجته، وقد درأ الوادي، والسماء ترش (المطر) فحال الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين أصحابه وجلس في ظل شجرة، فبصر به الغورث بن الحارث المحاربي فقال له أصحابه: يا غورث هذا محمد قد انقلع من أصحابه. فقال: قتلني الله إن لم أقتله، وانحدر من الجبل ومعه السيف، ولم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده، وقال: يامحمد من يعصمك منّي الآن؟ فقال الرسول صلى الله عليه وآله: الله. فانكبّ عدوّ الله لوجهه، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله، فأخذ سيفه، وقال: ياغورث من يمنعك منّي الآن؟ قال. لا أحد. قال: أتشهد أن لا إله إلاّ الله، وأني عبد الله ورسوله؟ قال: لا، ولكني أعهد أن لا أقاتلك أبداً، ولا أعين عليك عدوّاً، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله سيفه، فقال له غورث: والله لأنت خير منّي. قال صلى الله عليه وآله: إنّي أحقّ بذلك.
وعقّب سماحته على ذلك، وقال: حسب قوانين الدنيا، وكذلك قانون الإسلام يعتبر غورث محارباً حيث كان قد شهر السيف بوجه رسول الله صلى الله عليه وأراد قتله. وعليه وطبقاً لقوانين الدنيا وقانون الإسلام كان يحقّ للنبيّ صلى الله عليه وآله قتل غورث، ولم يك بحاجة إلى أن يقول له من ينقذك منّي. ولكن بما ان الله تعالى قد جعل النبيّ صلى الله عليه وآله أسوة وقدوة للعالمين أجمع، فإنه صلى الله عليه وآله لم يك ساعياً لإحقاق حقّه، بل كان صلى الله عليه وآله يريد تعليم الأخلاق والمروة للناس جميعاً على مرّ العصور. وكان لهذا التعامل من النبيّ صلى الله عليه وآله الأثر البالغ في دخول الكثير من اليهود إلى الإسلام، وزواج جبيرة من النبيّ صلى الله عليه وآله، وقيل انه صلى الله عليه وآله غيّر اسمها إلى برّه.
الإحسان تجاه الإساءة
نحن الآن لم نبتلى بالحرب، ولكن علينا أن نقتدي بهذه الأخلاق النبويّة في ممارسة التبليغ. فإذا أهانكم أحد أو اتهمكم وأنتم في حال التبليغ، فحافظوا على أنفسكم بأن لا تغضبوا سريعاً ولا تواجهونه بالمثل. بلى ان القرآن الكريم قد أعطى الحقّ في الردّ على المعتدي بقوله عزّ من قائل: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ». ولكن هذه الآية هي رخصة وليست إلزاماً، لأنه قال سبحانه وتعالى في جانب آخر: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ». فكل شخص له الحقّ في أن يردّ بالمثل على من اتهمه أو آذاه أو تعامل بالسوء معه، ولكن الله تعالى أوصى في الآية الأخيرة بالتعامل الأحسن. حيث لم يقل جلّ وعلا بالحسن بل قال بالأحسن، وهذا أمر يدعو إلى التأمّل. فالردّ بالمثل ليس من الأخلاق الحسنة. وكان أساس تعامل النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم هو التعامل مع المسيئ والرد عليه بالأحسن.
الحذر من الغدر
العبرة الأخرى التي نتعلّمها من قصّة النبيّ صلى الله عليه وآله التي مرّ ذكرها، هو تعامل ذلك اليهودي. فالغدر والطعن من الخلف لا يجيزه الإسلام، بل حتى غير الإسلام، حيث قبل الإسلام لم يعمل بذلك المشركين وكذلك اليهود والنصارى وأتباع باقي الأديان، وكانوا يعدّون الغدر بأنه ليس من المروّة والرجولة. ولكن ومما يؤسف له ان الدنيا اليوم ابتلت بذلك وصارت لا تعرف إلاّ الغدر. وكذلك في الجاهلية كان الغدر مرفوضاً وغير مرضي عنه، وكانوا يتّقونه كثيراً. ففي حادثة المبيت عندما صمّم أربعين رجلاً من المشركين على الهجوم ليلاً على بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وقتله، قال بعضهم لبعض لعلّ محمداً قد يكون نائماً، فلنصبر إلى الصباح حينها نهجم عليه.
بلى حتى المشركين كانوا يتجنّبون هذا الفعل القبيح، ولكن بني أمية وبني العباس كانوا هم من سّن هذا الفعل الشنيع. فالغدر قد ترسّخ بين المسلمين وشوّه سمعتهم بمجيء الأمويين والعباسيين على الحكم.
لا يخفى أن (المكر) يختلف عن (الغدر)، حيث ان المكر في الحرب لا إشكال فيه. كما صرّح صاحب كتاب الجواهر إلى هذا المورد، وقال بأن الخدعة والمكر لا إشكال فيهما بالحرب، ولكن الغدر غير جائز.
أعدى أعداء النبيّ
لقد امتلأ تاريخ الإسلام بالجوانب المشرقة من الأخلاق العظيمة للنبيّ صلى الله عليه وآله وقصصه الراقية والعجيبة، في تحمّله صلى الله عليه وآله للأذى والمشاق التي كانت تعترضه صلى الله عليه وآله في سبيل تبليغ ونشر الدين الإلهي وكان يشتريها بكل وجوده. وكان أبو لهب من ألدّ أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان من أعمامه صلى الله عليه وآله. وقد أنزل الله تعالى سورة كاملة في ذمّ أبي لهب. وعندما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يدعو الناس إلى الله تعالى بكلامه الجميل وبيانه الراقي الذي كان ينفذ إلى القلوب، في كل مناسبة وفرصة تسنح له، كان الناس يفرّون ويبتعدون عن النبيّ صلى الله عليه وآله بسبب الكلمات السيّئة التي كان يروّج لها أبي لهب. ومنها انه كان يتّهم النبيّ صلى الله عليه وآله، والعياذ بالله، بالكذب، وكان يقول إن ابن أخي هذا لمجنون، وقد عجزنا عن معالجته، كما أشار القرآن الكريم إلى نماذج من هذه التهم، ومنها قوله تعالى: (لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ) سورة الصافات: الآية36.
الصمود الفريد
من جانب كان أبو لهب من الشخصيات المعروفة في قريش والجزيرة العربية. وكان من مراسيم ذلك الزمان ان المشركين يحجّون ويعتمرون في الأشهر رجب وذي القعدة وذي الحجّة لأصنامهم. وكانت تقام الأسواق الفصلية في مكّة وأطرافها، ويأتيها الناس من أطراف مكّة. فكان النبيّ صلى الله عليه وآله يمارس التبليغ في هذه المناسبات لأهالي مكّة، وكان يدعوهم إلى الإسلام، فكان يواجه الأذى والعراقيل من أبي لهب وأمثاله. وكان صلى الله عليه وآله ينادي في تلك المراسيم والأسواق، ويقول: «قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا». فكان أبو لهب يتطاول على النبيّ صلى الله عليه وآله بكلام بذيء وناب وأحياناً يرميه بالحجارة. وذات مرّة أصاب حجر رجل النبيّ صلى الله عليه وآله وبالتحديد عرقوبه صلى الله عليه وآله. والعرقوب هو من الأوردة الكبيرة بالجسم، ولا يشفى بسهولة إذا أصيب بأذى, حيث ان استقرار جسم الإنسان هو على هذين العصبين. وأنا شخصياً شاهدت في كربلاء شخصاً أصيب عرقوبه في حادث، وبعد عشر سنوات من تلك الحادثة رأيته وكان لايزال يعرج في مشيه. والحجر الذي أصاب عرقوب النبيّ صلى الله عليه وآله كان من الأحجار الخشنة التي يستفاد منها في الحروب، أي كان حجراً منبّلاً. ففي معركة أحد عندما انهزم الأصحاب وتركوا النبيّ صلى الله عليه وآله كان الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه يحامي ويدافع عن النبيّ صلى الله عليه وآله، ولكن أصاب رأسه الشريف حجر وسال الدم منه. وفي واقعة كربلاء رمى بعض الأعداء الإمام الحسين صلوات الله عليه بالحجارة أيضاً. ومن المناسب للإخوة أهل العلم والمبلّغين أن يطالعوا التاريخ ويتأمّلوا في مثل هذه الأحداث ويحقّقوا فيها.
التحمّل النبويّ
وذكرت الروايات ان أبي لهب قد رمى النبيّ صلى الله عليه وآله بحجارة أصابت عرقوبه الشريف. وذكروا في أحوال النبيّ صلى الله عليه وآله أنه كان قوي البنيّة، بحيث كانت قوّته تعادل قوّة أربعين رجلاً. ولو لا هذه القوّة لأصبح صلى الله عليه وآله مقعداً. وتجاه هذا التعامل المشين من أبي لهب، لم يصدر من النبيّ صلى الله عليه وآله أيّة ردّة فعل أو اعتراض بل حتى لم يرمي صلى الله عليه وآله بطرفه إلى أبي لهب.
الاقتداء بالخلق النبويّ
مثل هذا التعامل من النبيّ صلى الله عليه وآله، جذب الكثير من الناس إلى الإسلام، إلاّ أبي لهب وأقرانه الذين كانت قلوبهم كالحجارة. وهكذا كان لأخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله الأثر البالغ في تبليغ الدين. فيجدر بالمبلّغين أن يقتدوا بمثل هذا التعامل النبويّ الشريف، في ممارستهم للهداية. فعليهم أن يصبروا تجاه المشاكسات والإهانات التي تعترضهم، وأن يتأسّوا بتعامل أولياء الدين وبالقرآن الكريم، بأن يردّوا بالأحسن وبالتعامل أحسن على منن يسيئ إليهم.
ذكرت الروايات الشريفة أنه في إحدى معارك اليهود مع النبيّ صلى الله عليه وآله، جاء أحد قوّاد اليهود برفقة ابنيه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وأعلنوا إسلامهم. وكان سبب هذا الأمر هو الأخلاق الفاضلة للنبيّ صلى الله عليه وآله. بل كان عدد القتلى في الحروب الدفاعية للنبيّ صلى الله عليه وآله قليلة جدّاً. وكان سبب التوفيق الكثير والكثير للنبيّ صلى الله عليه وآله هي أخلاقه الراقية والسامية.
وصايا للمبلّغين
وأكّد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله على ضرورة التحلّي بحسن الخلق في ممارسة التبليغ، وعدّه واجباً كفائياً، وقال: إن من أهم أسباب موفقية النبيّ صلى الله عليه وآله هو حسن خلقه، وبهذا الصدد يقول القرآن الكريم: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ». فعلى المبلّغين أن يجعلوا نصب أعينهم قوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ». وعلى المبلّغ أن لا يهين أحداً لإحقاق الحقّ، فهذا التعامل إضافة إلى كونه غير جائز، لا يليق بالمبلّغ للدين. بلى إن الله تعالى لم يوجب الأخلاق الحسنة حتى لا تصبح إلزامية، لكن ومن جانب آخر، تعدّ الأخلاق الحسنة لأجل هداية الناس، أمراً ضرورياً، كما هو مشهود في سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله خلال دعوته الناس إلى الإسلام. وبالنتيجة فإن الأخلاق الحسنة لها وجوب كفائي، وإذا لم يوجد من فيه الكفاية فستكون واجباً عينياً. وهذا ما تحتاجه الساحة اليوم في العراق وإيران، وتحتاج إلى مبلّغين جديرين، أيضاً.
لنيل التقوى
كما ان الكثير من الأمور المستحبّة كالأدعية والنوافل يمكن أن تكون واجباً كفائياً. فالدعاء والتوسّل، وحتى صلاة الليل، مع انها مستحبّة، ولكن تكون مقدّمة للتقوى في بعض الموارد. كما ان الله عزّ وجلّ أمر بقوله عزّ من قائل: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ». ولذا فلا ضير إن قلنا بأن نافلة الليل والدعاء والكثير من الأمور المستحبّة الأخرى هي واجب عيني لنيل التقوى.
بلى إن تبليغ الدين واجب كفائي وليس عيني. ولكن حال عدم وجود من يقوم بذلك كفائياً يتبدّل إلى واجب عيني. والكثير من المدن والمناطق في العراق وإيران اليوم بحاجة إلى مبلّغين، وهذا أمر مشهود وملموس. والتبليغ الحسن له من الآثار التي تستطيع أن تغيّر حتى اليهود، الذين وصفهم الله تعالى في كتابه المجيد بقوله: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا». ففي هذه الآية الكريمة بيّن تعالى أن اليهود هم الأكثر حقداً على المؤمنين من المشركين، وهذا ما احتفظت به الكثير من الشواهد التاريخية. ففي الكثير من الموارد كان اليهود يحثّون المشركين على النيل من المسلمين، بأسلوب التطميع والترغيب. ولكن استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله أن يجذبهم نحوه ويجعلهم شغوفين به وبتعامله الجميل.
الأخلاق لسان الباطن
هكذا كانت سيرة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه، أيضاً، أي سيرة مليئة بالعجيب من تأثير الأخلاق الحسنة على جذب الآخرين نحو الحقيقة. ففي زمن حكومته صلوات الله عليه التي امتدّت على رقعة كبيرة من المعمورة، وكانت تضمّ قرابة خمسين دولة من دول عالم اليوم، وكانت ممتدّة إلى أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط وحواليها، تطاول شخص على الإمام وقال: قاتله الله من كافر ما أفقهه. فأراد أصحاب الإمام أن يأدّبوه، فنهاهم الإمام ومنعهم من ذلك، ولم يقم هو صلوات الله عليه بالردّ على ذلك الشخص أيضاً، وقال صلوات الله عليه: «سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب».
إنّ الأخلاق الحسنة تحاور باطن الناس، فكأنما قلوب الناس ترتبط فيما بينها عبر تعاملهم بعضاً مع بعض. وهذا من أسرار التأثير الكثير للأخلاق على هذا الترابط القلبي. فهل تجدون في حكومات اليوم، أو في أية نقطة من نقاط العالم المدّعي للحداثة والمدنية والحرية، أنه يُعفى على من يهين رئيس الحكومة؟ ولكن الإمام عليّ صلوات الله عليه وبكل التواضع لم يردّ على ذلك الشخص الذي تعرّض له، بل قال: «أمّا السب فإنه لي زكاة».
عليكم بسيرة المعصومين الأربعة عشر
وفي ختام كلمته القيّمة أكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله، على ضرورة التحلّي بالأخلاق الحسنة، ودعا أهل العلم إلى الصبر وضبط النفس، والتأسّي بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم، وقال: جزاء الإنسان في الآخرة رهين ما عمله في الدنيا، والأخلاق الحسنة هي من الأعمال التي تجعل صحيفة أعمال المرء ملئية بالخير والبركة.
قال الله تعالى في كتابه الحكيم: «وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى».
إذن على الجميع، أن يجعلوا الأخلاق العظيمة للنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله في رأس قائمة أعمالهم وتوجّهاتهم ونصب أعينهم دوماً، مهما كان مستواهم ومقامهم ومنصبهم. ولا شكّ ان مما ينفعهم كثيراً وكثيراً في هذا المجال هي مطالعة تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الأخيار صلوات الله عليهم ومعرفته حقّ المعرفة.
وصلّي الله علي محمّد وآله الطاهرين.
اضف تعليق