كيف ترتقي المجتمعات نحو الأفضل؟ سؤال يبحث عن إجابة مستمرة، خاصة في مجتمعاتنا الاسلامية التي تفتقر للتطور، وتعد من المجتمعات المتأخرة، الارتقاء هدف الانسان الفرد، والجماعة، ولكن طريق تقدم المجتمع والدولة يحتاج الى ركائز ومقومات، أهمها وأكثرها قدرة على تحقيق هذا الهدف، هي (الأخلاق)، الشعب الخلوق هو الأكثر وعيا وتطورا وارتقاءا وانسانية من سواه، ينطبق هذا على الفرد ايضا.
في حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أقربكم منّي يوم القيامة أحسنكم خلقاً).
فإذا كانت هذه منزلة الاخلاق في يوم الحساب، (يوم لا ينفع مال ولا بنون)، فأي درجة عالية لفاعلية أخلاقيات الانسان وقدرتها على دفعه هو والمجتمع معا الى أمام، ولعل الأمر الجميل في هذا المجال أن الانسان بمقدوره كسب الاخلاق وقتما يشاء، أي أن الأمر يعود له، لإرادته وسعيه، وبحثه عن الاخلاق حتى يرتقي بفكره وسلوكي ويعكس هذا الرقي على المجتمع كله، ويسمو بنفسه الى درجة عالية من السلوك والتفكير.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في احدى كلماته القيمة التي وجهها الى المسلمين: إن (حسن الخلق هي حقيقة معنوية يمكن لكل شخص أن يحصل عليها. وكل من وفّق للحصول على هذه الحقيقة يمكنه أن يسمو أكثر وأكثر. وقد ورد في الحديث الشريف عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله، أنه قال: حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة).
ومما يجعل قضية تحصيل الأخلاق أمرا ممكنا، أن الانسان متى ما قرر تحقيق هذا الهدف، فإنه بإمكانه أن يرتقي بأخلاقه الى درجة أعلى، وهذه الامكانية يمكن أن تأتي على درجات، فمن لا يمتلك أي درجة من حسن الاخلاق يمكنه الحصول عليها اذا قرر هو تحقيق ذلك والسعي له، حيث يمكن أن تكون الاخلاق على درجات، وهذا يتبع سعي الانسان والجهود التي يبذلها في هذا المجال.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله بكلمته نفسها: حيث بيّن سماحته، أن: (حسن الخلق درجات، مثل أي شيء آخر. فالذي ليس له خلق حسن يمكنه أن يتحلّى بحسن الخلق، وإذا كان له درجة من حسن الخلق يمكنه أن يسمو ويرتفع بدرجة أخرى وثالثة وعاشرة ومئة).
فوائد جمة لحسن الاخلاق
من البديهي أن يكون صاحب الأخلاق الرفيعة محبوبا من الجميع، وأن يكون وجها مقبولا وانسانا محترما، وهذا بحد ذاته مكسب عظيم للانسان، ومن المؤكد أن الناس سوف تدعو بالخير لحامل الاخلاق الحميدة، كونه يحسن الى الناس ويتعامل معهم بحس انساني راقي وبتهذيب عال، وهذا يجعله شخصية مرموقة بين افراد المجتمع.
وهناك فوائد اخرى لمن يحمل الاخلاق الرفيعة، وهي صفاء حالته النفسية وارتقاء حالته المعنوية وشعوره بالرضا عن النفس، وهذا يحميه من الامراض، وخاصة النفسية منها، كونه انسان مقبول من الجميع، ومتصالح مع ذاته، ولا يتعصب في أي حال من الاحوال، كما أنه يستطيع أن يفكر ويتصرف بحكمة من خلال اخلاقه العالية، حيث تنعكس على طبيعة علاقته مع الناس عموما.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (حسن الخلق محبوب عند الناس في الدنيا، وهذا خير عظيم. وحسن الخلق يدعوا الناس له ولا يدعون عليه، وهذا خير عظيم. وحسن الخلق يكون الناس في خدمته عادة بنسبة ما له من حسن الخلق، وهذه فائدة عظيمة. وحسن الخلق تكون حالته النفسية أحسن ممن ليس عنده خلق حسن، فهو يمرض أقلّ ويصاب بالأعصاب أقلّ، ونفسياً يتحطّم أقلّ، وهذه فوائد دنيوية عظيمة).
وفي هذه الحالة سوف يصر الانسان على تحصيل الأخلاق، أيا كان دوره في الحياة، سواءا في العمل او الدراسة او المحيط العائلي، حيث تكون هناك فائدة كبرى يحققها الانسان في دنياه وآخرته من خلال الأخلاق الراقية.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (لو لم يكن لحسن الخلق إلاّ هذه الفوائد لكان على كل إنسان، رجلاً وامرأة، وأمّ وبنت وأبّ وابن وعم وعمّة وخال وخالة وجدّ، ولكل فرد، كان عليه أن يعزم على حسن الخلق، لتلك الفوائد العظيمة في الدنيا. وهذا من خير الدنيا).
هكذا تنعكس نتائج الاخلاق على الفرد اولا، ومحيطه الأصغر، العائلة، المدرسة، العمل، ومن ثم تنعكس آثارها على المجتمع عموما، ومن مجموع الاخلاقيات التي يتحلى بها افراد المجتمع، يتحقق الارتقاء الأخلاقي لعموم الناس.
أصحاب المنزلة الكبرى
حاملو الاخلاق، هم اصحاب المنزلة الكبرى عند الله تعالى، فالانسان الخلوق عادة ما يكون هادئا حكيما متعاونا، يبتعد عن أذى يمكن أن يلحقه بالناس، بالكلام او باليد، فأخلاقه الراقية تمنعه من أن يتسبب بأذى لأي انسان كبير او صغير، ضعيف أو قوي، حتى لو اراد التنبيه على عيب معين فإنه لا يصرح بذلك بل يشير إليه بالتلميح وبشكل غير مباشر حتى لا يتسبب بجرح لإنسان ما، لذلك تتقدم الاخلاق حتى على العبادات، او الأعمال الخيرية الاخرى.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (إنّ قرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم القيامة هو ليس بمقدار عبادته وكرمه وأعماله الخيّرة وخدماته وبلائه الذي يبتلى به في الدنيا وبباقي الأمور. إذن فمن هو الأقرب إليه صلى الله عليه وآله؟ هل الذي لا ينام ليله خمسين سنة ويسهر بالعبادة ويقضي النهار بالصوم خمسين سنة هو الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؟ وهل الأقرب هو من ينفق من ماله أكثر في سبيل الله ولأرحامه وللمؤمنين والضعفاء والمستضعفين وباقي الناس؟ وهل الأقرب هو من يؤثر غيره على نفسه في الطعام، كأن يبيت جائعاً ويعطي طعامه لغيره من جاره ورحمه وقريبه حتى لا يبقون جياعاً؟ وهل الأقرب من كان أكثر علماً في الدنيا؟ وهل الأقرب من يتزهّد في الدنيا بالملبس والمسكن والمأكل ويعزف عن الدنيا ويبتعد عنها ويترك ملذّاتها ويتحمّل كل أنواع المرارات في الدنيا؟).
إن الاخلاق ليس ألفاظ فحسب، إنها منهج حياة متكامل يسير عليه الانسان، واخلاقه هي التي تقوده في مسارات الخير والفضيلة والاحسان، وهي التي تجعله ملتزما بقيم الخير والاخاء والانسانية، لهذا كان ولا يزال، الانسان الأقرب الى رسول الله (ص)، هو الأحسن أخلاقا من بين الناس، لأن أخلاقه كفيلة بأن تجعله أرقى الناس واكثرهم التزاما وفائدة للجميع، على أننا نفهم ونقر بأن أصحاب العبادات وأعمال الخير الاخرى ايضا لهم جزاءهم الجيد في الدنيا والآخرة، ولكن يبقى صاحب الاخلاق الأعلى هو الأفضل دائما.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (بلى إن أصحاب هذه الأعمال لهم الأجر الكبير والمنزلة الكبيرة في الآخرة، ولكن هذه الأعمال والعبادات لا تجعلهم الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فكلا وكلا. بل الأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله هو الأحسن خلقاً. ولو لم يكن في حسن الخلق إلاّ هذه الجملة لكان على الإنسان أن يسعى بجدّ وبنشاط ومثابرة حتى يصل إلى درجات رفيعة في حسن الخلق).
اضف تعليق