يقول العلماء وأهل التخصص والاهتمام بأن الفضيلة تعد أساس بناء الحياة السليمة، وأن الثبات على الفضيلة يعد أساس الاسلام، لذلك يلاحظ المهتمون والمعنيون أن المبادئ والتعاليم الاسلامية تركز على هذا الجانب، كما أننا نستطيع أن نكتشف ذلك من خلال الاطلاع على السيرة النبوية الشريفة، والتجربة السياسية الفريدة التي تنطوي على صفحاتها ومفرداتها قيادة الرسول الأكرم (ص)، لدولة المسلمين، حيث تؤكد هذه التجربة ذات الأبعاد الفريدة، بأن الثبات على العقيدة والمبادئ هي الأساس في الاسلام.
ولذلك يمكن أن نلاحظ ما تقدم في قول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في احدى كلماته التوجيهية للمسلمين: إن (الثبات أساس الإسلام وهو يعني التحدّي في إطار الفضيلة كما جاء في هذه الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ) سورة الأنفال: الآية45).
وعلى الرغم مما عاناه الرسول الأعظم (ص)، مشكلات ومواقف عصيبة، وحروب ومضايقات من بني عمومته وقومه، بلغت حدا لا يطيقه أحد، لكن الرسول (ص)، تحمَّل صنوف العذاب، وغض الطرف عن التطاول والأذى الذي كان يلحق به على مدار الساعة، كما أنه (ص)، لم يتخذ موقفا عدائيا قاسيا، ولم يقم بأي خشونة في التصدي لمن عذبوه وطاردوه وحاصروه مع مؤيديه من المؤمنين الأوائل.
فعندما تمكن قائد المسلمين (ص) من امتلاك عوامل القوة والسلطة، لم يثأر ممن تجاوزوا عليه وألحقوا به شتى صنوف الأذى وساموه العذاب هو والصفوة من المسلمين الأوائل، ممن آمن به ووقف الى جانبه في بدايات اعلان الرسالة النبوية على قريش.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في كلمته نفسها تأكيدا لموقف الرسول (ص): (لقد تعرّض رسول الله صلى الله عليه وآله في ابتداء البعثة، للكثير والكثير من عذاب المشركين، وإيذائهم له وتطاولهم عليه صلى الله عليه وآله بصنوف العذاب والتطاول. وفي كل ذلك كان صلى الله عليه وآله ثابتاً، صامداً، متحدّياً لكل المشكلات، ومتقيّداً بالفضيلة كل تقييد. وتحمّل صلى الله عليه وآله كل المشكلات ولم تصدر منه صلى الله عليه وآله خشونة صغيرة على أحد).
اذهبوا فأنتم الطلقاء
ركيزتان أساسيتان، كانت تقوم عليهما سياسة الرسول الأكرم (ص)، في ادارته لشؤون المسلمين ودولتهم الفتية التي ما فتئت تتوسع باضطراد، هاتان الركيزتان هما، الثبات على الفضيلة والمبادئ والمواقف المشرفة، واعتماد سياسة العفو عمّن اقترف الأذى بحق الرسول (ص) وأتباعه من المؤمنين الذين ذاقوا شتى أنواع التعذيب والملاحقة.
ولم تكن هذه السياسة مرحلية، او وليدة ظرف معين، فهي نفسها قائمة عندما كان المسلمون الحقيقيون ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، وعندما بلغوا مراتب النصر العالية، وتم الانتصار التام على المشركين في مكة، بقيت هذه السياسة نفسها، فالفضيلة هي الأساس دائما في سياسة الرسول الكريم (ص).
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي: (ثم جاء صلى الله عليه وآله ظافراً منتصراً إلى مكّة المكرّمة، في فتح مكّة، وكانت أيدي الألوف من المشركين ملطّخة بدماء المؤمنين الذين قتلوا، في مكّة المكرّمة، في عمليات التعذيب التي كان يتعرّضون لها، أو في المدينة المنوّرة في الحروب المفروضة على رسول الله صلى الله عليه وآله. فأصدر رسول الله صلى الله عليه وآله عفواً عاماً للجميع بكل فضيلة وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
لقد قدم لنا التاريخ تجارب سياسية كانت تقوم على مطاردة ومعاقبة من أساء من اصحاب السلطة والمعارضين، فما أن يصل الضعيف او المعارض الى السلطة، حتى يبدأ بمعاقبة من طاردوه وعذبوه وحاصروه، ويبدأ مسلسل القتل والتعذيب والتشريد المعاكس، إلا في حالة وصول النبي الأكرم (ص) وصفوة المسلمين الى مكة وتسنم مقاليد السلطة، فلم يُقتل أحد، وكان شعار التسامح قولا وفعلا هو الذي حلّ محل البطش والقتل والتعذيب.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (لو كان غيره (ص) في هذا الموقع لنصب مئات المشانق، ولقتل الألوف من المشركين في مكّة المكرّمة، ولكن لم يقتل أحداً لأنه صلى الله عليه وآله أسّس إطار الفضيلة. وعلى هذا الإطار سار أوّل الوصيّين الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه).
لقد كانت الفضيلة هدفا أساسيا لم يبتعد عنه المسلمون الأوائل بقيادة الرسول (ص)، بل كان ركيزة مهمة عمل على ترسيخها بين المسلمين وهم يبنون دولتهم الجديدة ويؤسسون لها، في ظل قيادة سياسية، ودولة فتية تقوم على العدل والانصاف والمساواة والتسامح، ولعل الأساس في ذلك يكمن في مبدأ الثبات على الفضيلة.
لا يوجد سجناء سياسيون في عهده (ص)
كثيرا ما حاول أعداء الرسول الكريم (ص)، أن يشككوا بسيرته وادارته وقيادته لدولة المسلمين، وهو أمر لا جديد فيه، ولكن كانت هذه الاساءات تتلفع بالكذب والنفاق ولبس الوجود المتعددة، ففي وجود النبي (ص)، كثرت الأكاذيب التي تناولت قيادته وخطواته في ترتيب بيت الدولة وشؤون المسلمين، ومع كثرة محاولات الاساءة السياسية، والكذب، لكن التاريخ لم يسجل حالة قتل واحدة لمعارض سياسي ابان حكومة الرسول (ص).
فحق المعارضة مكفول، وحرية الرأي لا اعتراض عليها ولا مضايقة، ومع ذلك حاول اعداء الرسول (ص)، أن يكذبوا بحقه، وأن يسجلوا احداثا ومواقف كاذبة ويلصقوها بالرسول (ص) كقائد لدولة المسلمين، لكنهم لم يفلحوا في تحقيق أهدافهم في هذا المجال.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع: (إنّ أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله سجّلوا أشياء كاذبة على رسول الله، حتى قال صلى الله عليه وآله (كثرت عليّ الكذّابة وستكثر من بعدي)، ومع ذلك لم يسجّلوا في كل تاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله، قتيلاً سياسياً واحداً. وهذا أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله، لم يسجّل عليه أعداؤه حتى قتيلاً سياسياً واحداً).
ولأن الامام علي (ع) أخذ فن القيادة من الرسول الكريم مباشرة، لذا لم يستطع الاعداء أن يثبتوا (رغم أكاذيبهم وتخرصاتهم) بأنه قتل أحدا ما كونه معارضا سياسيا لحكمه، فالمعارضة السياسية مكفولة في حكومة الامام (ع) من دون أدنى شك وطبقا لأدلة التاريخ القاطعة.
إن الفضيلة هي أن تسمح للمعارضة بقول ما تؤمن به من آراء وأفكار، والتصريح بما تراه من دون مصادرة وإكراه، حتى لو كنت الحاكم وكانت مقاليد السلطة والقوة في يديك ورهن اشارتك، هذا ما تضمنه الفضيلة والثبات عليها وعلى المبادئ التي تمسك بها الرسول (ص) ورسخها في ادارة دولة الاسلام، وزرعها في نفوس وعقول القادة القريبين منه منهجا وسلوكا، كما هو الحال مع الامام علي (ع)، حيث كانت السلطة بالنسبة له، طريقا ومنهجا وأسلوبا للبناء والتربية والعدالة، وليس سيفا مسلطا على رقاب الناس، لاسيما المعارضين منهم، فالجميع لهم حق الاختلاف، واعلان الرأي بحرية تامة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في كلمته نفسها بهذا المجال: (لقد حكم رسول الله صلى الله عليه وآله قرابة عشر سنوات، وحكم الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه البلاد الإسلامية الوسيعة في زمانه، مما يقدّر بخمسين دولة في خريطة العالم اليوم أو أكثر، لم يسجّل عليه سجين سياسي واحد. وهذه الفضيلة، بل منتهى الفضيلة، هي الالتزام في إطار الفضيلة في شتّى الأحوال، مع التحدّي والثبات).
اضف تعليق