لقد زهد الإمام علي عليه السلام بالسلطة، حينما رفضها، ولم يتعامل معها على أنها نوع من التكريم أو التشريف، بل تعامل معها على أنها تكليف يستطيع من خلاله أن يُحقّ الحق ويهزم الباطل، ويؤسس لمنظومة قيم ترتفع بقيمة الإنسان، وتُكرمهُ وتنشر العدالة الاجتماعية فيما بين الجميع من دون تفضيل أو استثناء لأحد...
(يا ترى هل سينجب التاريخ حاكما عادلا يقتفي أثر الامام علي سلام الله عليه؟)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
ترتكز سيرة الإمام علي عليه السلام منذ لحظة الولادة المباركة حتى لحظة الاستشهاد على المبدئية التي لم يفرطّ بها الإمام حتى آخر لحظة من حياته، فهو (عليه السلام) صاحب المنظومة المبدئية التي ترتبط بسيرته وتاريخه المعفّر بالقيم العظيمة، ولعل المؤشر الأعظم في هذه المنظومة رفض الإمام للسلطة والنظر إليها على أنها وظيفة لإنصاف الناس وحماية لحقوقهم وكرامتهم، وليس سيفًا مسلَّطا على رقابهم، كما يفعل الحكام المغرمون بالسلطة.
لقد زهد الإمام علي عليه السلام بالسلطة، حينما رفضها، ولم يتعامل معها على أنها نوع من التكريم أو التشريف، بل تعامل معها على أنها تكليف يستطيع من خلاله أن يُحقّ الحق ويهزم الباطل، ويؤسس لمنظومة قيم ترتفع بقيمة الإنسان، وتُكرمهُ وتنشر العدالة الاجتماعية فيما بين الجميع من دون تفضيل أو استثناء لأحد.
ولأن الإمام كان مبدئيا في رؤيه للسلطة، وللقيم العظيمة، فإنه رفض السلطة، وكان على استعداد تام أن يواجه العالم كله من أجل أن يحافظ على منظومة المبادئ والقيم التي جعل منها معيارا لنشر العدالة بين الناس، وتنسيق كفتّي الميزان بين صاحب السلطة والإنسان العادي، فالمهم عند الإمام هو الحفاظ على المبادئ والعمل بها بحذافيرها.
سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في الكتاب القيم الموسوم (من عبق المرجعية):
(الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام رفض وفضّل أن تخرج الخلافة من قبضته، لا بل فلتذهب الدنيا كلها ويصبح العالم كله ضده ولا يتخلى عن مبادئه).
ونظرا لإيمانه العميق والحقيقي بهذه المنظومة من المبادئ، فما أن تسلّم السلطة وصار حاكما فعليا لدولة المسلمين، حتى بدأ في نشر الحريات المكفولة لجميع الناس، بغض النظر عن الهوية والانتماء أو صلة القرابة، أو المركز الاجتماعي والوظيفي، فالجميع سواسية، ولهم الحق في التمتع بالحريات المكفولة لهم شرعا وقانونا وأعرافًا أيضا.
العالم غاطس في بحار الظلم
مع أن العالم كله في ذلك الوقت، كان غاطسا في بحار الظلم وطوامير السجون، وأساليب القمع بمختلف أشكاله ودرجاته، لاسيما في ظل أنظمة الحكم الفردية الجائرة آنذاك، ففي الوقت الذي كان يعيش فيه العالم عصر الظلام والتراجع والتردّي، كان المسلمون في عهد الإمام علي عليه السلام يعيشون الحريات الكاملة ويتمتعون بالقيم المضيئة والحقوق المحمية التي يحصلون عليها كواجب على الحاكم وليس منّةً منه.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(منح الامام علي بن ابي طالب سلام الله عليه الحريات للناس في عصر كان العالم كله يعيش في ظل الاستبداد والفردية في الحكم).
ومن أعظم المبادئ التي كانت تزخر بها منظومة الإمام علي عليه السلام، ما كان يتعلق بالعدل بين الناس، والتعامل معهم على أنهم متساوون في كل شيء، فلا أحد له ميزة معينة على آخر، وليس هناك تفضيل لقريب أو نسيب أو مؤيّد للسلطة، بل هناك معايير ثابتة للحق والتعامل بمبدئية مشروطة لا يمكن أن يتنازل عنها الإمام عليه السلام في تعامله مع أفراد الأمة، وفي نفس الوقت كان الزهد مبدأً عظيما يعمل به الإمام عليه السلام.
فالدنيا بالنسبة للإمام رحلة سريعة بل خاطفة لا تستحق أن نقع في مغرياتها، ولا نسمح لها بأن تخدعنا، ولهذا كان مبدأ الزهد واضحا كل الوضوح في حياة الإمام عليه وأسلوب معيشته، وفي تعامله الحاسم مع السلطة والتعامل معها على أنها وظيفة إدارة حقوق الناس ومصالحهم من دون تمييز أو تفضيل.
فقد (كان أمير المؤمنين عليه السلام عادلا في الرعية، قاسما بالسوية، زاهدا في حطام الدنيا) كما يذكر سماحة المرجع الشيرازي دام ظله.
وهذا التمسك بمنظومة القيم، والتشبث بها، وتطبيقها في حياة الناس العملية، وفي إدارة السلطة أيضا، أثبت أن الإسلام الذي انتهجه الإمام عليه السلام هو الإسلام الحق، لأن الإمام كان متمسكا بدين العل والتطبيق وليس دين القول والشعارات فقط.
فمنظومة القيم التي أبرزها الإمام عليه السلام، وطورها، ودعمها ونشرها بين الناس وفي مفاصل التعامل الحكومي، أسهمت في بناء الدولة خير بناء، وأسهمت في حماية حقوق الناس، وطورت نظرتهم للحريات وحمايتها، لذا لم يكن الإسلام في عهد الإمام علي إسلام القول فقط، بل إسلام القيم والمبادئ العظيمة، وهو الإسلام الحقيقي.
لهذا يرى سماحة المرجع الشيرازي دام ظله بأن:
(إسلام امير المؤمنين سلام الله عليه يعني الاسلام الصحيح، أي إسلام القول والعمل وليس اسلام الاسم فقط).
ويمكننا أن نتصور طبيعة شخصية الحاكم الذي يتخلى طعامه وطعام زوجته وطعام أولاده لصالح اليتيم أو الأسير أو المسكين، هذه المبدئية الإنسانية النادرة الحدوث على مر التاريخ السياسي والإنساني، توضّح بجلاء تام طبيعة الإمام علي عليه السلام كقائد لدولة المسلمين المترامية الأطراف، والتي تفوقت على أمم كبيرة في ذلك الوقت.
سلوكيات قيادية ملهِمة
لم يقم الإمام علي بهذا الفعل مصادفة، أو لتحقيق دعاية خاطفة يلجأ إليها سياسيون (مزيَّفون)، وإنما استمر تقديم طعامه الشخصي وطعام العائلة لثلاثة أيام متعاقبة، وهذا ما يؤكد قوة منظومة المبادئ التي اعتمدها الإمام في حياته وسيرته الشخصية والإنسانية.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(من شفقة امير المؤمنين علي سلام الله عليه على الخلق انه أعطى طعامه للأسير واليتيم والمسكين، وبات جائعا هو وزوجته فاطمة الزهراء وولداه الحسن والحسين سلام الله عليهم اجمعين، ثلاثة ايام متواليات ولم يكن طعامهم سوى اقراص خبز).
في الحقيقة مثل هذه السلوكيات القيادية، تمثل دروسا ملهمة لقادة المسلمين اليوم، وما عليهم إلا الالتزام التام بمنظومة هذه القيم العظيمة التي رسّخها الإمام علي عليه السلام من خلال حكمه، وطرائقه في إدارة شؤون الدولة والناس، وانتصاره لمنظومة المبادئ القيم التي تنصف الناس وتنتصر للحق وتفتح آفاق التعامل الإنساني الرائع للحكام مع أفراد الشعب، بحيث تُبنى هذه المنظومة المبدئية وتزداد وتتطور وتعم عموم المسلمين أينما كانوا.
وهكذا يتضح لنا اليوم باننا نحتاج إلى سيرة الإمام علي عليه السلام، وهذا هو الدافع الأهم والأقوى لاستذكاره في مثل هذه المناسبات وإن كانت مؤلمة وثقيلة وقاسية علينا، ولكن تبقى شخصية الإمام علي عليه السلام على مرّ التاريخ، تنتصر للمبادئ الأصيلة، وتقدم نموذجا بارعا للحاكم الناجح الذي يفوز بمحبة الناس طُرًّأ.
هنا يطرح سماحة المرجع الشيرازي دام ظله تساؤلا يقول فيه:
(يا ترى هل سينجب التاريخ حاكما عادلا يقتفي اثر الامام علي سلام الله عليه الذي كان يشاطر حتى أضعف مواطني دولته في العدل والإنصاف).
هذه هي منظومة المبادئ التي آمن بها الإمام علي عليه السلام، وعمل بها، وحقق من خلالها دولة كبيرة يُشار إليها بالبنان عبر التاريخ، وهي منظومة ستبقى تقدم الدروس تلو الدروس للمسلمين وللإنسانية في مجالات تحسين وتطوير العلاقة بين الحاكم وبين الأمة، وكيف تُبنى هذه العلاقة وفق منظومة مبدئية ترتقي بالطرفين إلى أعلى المراتب والدرجات.
اضف تعليق