إسلاميات - المرجع الشيرازي

السياسة الأخلاقية ترتقي بالدول والشعوب

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

السياسة الناجحة يجب أن تحتفظ بالقيم السديدة، وأن تقوم على قواعد منصفة، وركائز تحترم حقوق الآخر، ولا تعني السياسة مطلقا أن ينجح هذا السياسي أو ذاك على حساب الآخرين من دون وجه حق، ولا يجوز أن يُقال عن هذا الحاكم بأنه ناجح وجيد لأنه يضرب مصالح الدول الأخرى ويحمي مصالح دولته...

(على الحكومات الإسلامية أن تتعلم من الرسول صلى الله عليه وآله كيفية التعامل مع شعوبها)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

هناك من الساسة غير مخلصين لسمعتهم ولا مهتمين بمستقبلهم السياسي، لأنهم يعلنون في مناسبة ومن دونها أن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق، وهؤلاء ينفون بشكل تام كل القيم الجيدة في مضمار السياسة، ويتفقون مع ذلك السياسي الغربي الذي قال ذات يوم (ليست هناك صداقات دائمة بين الدول وإنما هناك مصالح دائمة)، وكأنهم يريدون القول بأن السياسة لا يحكمها أي نوع ولا أي مستوى من مستويات الأخلاق.

لكن هذا الرأي ليس سديدا بالمطلق، فالسياسة الناجحة يجب أن تحتفظ بالقيم السديدة، وأن تقوم على قواعد منصفة، وركائز تحترم حقوق الآخر، ولا تعني السياسة مطلقا أن ينجح هذا السياسي أو ذاك على حساب الآخرين من دون وجه حق، ولا يجوز أن يُقال عن هذا الحاكم بأنه ناجح وجيد لأنه يضرب مصالح الدول الأخرى ويحمي مصالح دولته.

ولدينا مثال تاريخي وديني وإنساني يبيّن لنا كيف ارتقت الاخلاق والثوابت بالسياسة، وكيف ارتفعت بها إلى مستويات عالية في الإنسانية والقيم السامية، هذا المثال نجده في شخصية النبي محمد صلى الله عليه وآله، حاكم أعظم دولة في السجل الإسلامي والإنساني أيضا، وقد أدارها قائدها الأعظم بالأخلاق أولا وبناها بالقيم السليمة الراقية، ومن خلال هذه السياسة انتشر الدين في أصقاع الأرض وحتى يومنا هذا.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيمة ضمن سلسلة نبراس المعرفة، وهي بعنوان (الحكم):

(الأخلاقيات العالية هي التي جعلت رسول الله قمة في التأريخ، وساهمت في بقاء الدين الإسلامي وتوسّعه في العالم وإلى اليوم).

وعلى الرغم من المشكلات الكبيرة التي تعصف بواقع الدول الإسلامية، يبقى الإسلام وديمومته وتوسعه قائما على السبب الأهم، وهو الأخلاق التي تداخلت مع السياسة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله، فقد زرع هذا القائد السياسي المحنك أساليبه السياسية التي سمحت للأخلاق أن ترافق السياسي في حلّه وترحاله.

المؤاخاة بين الأخلاق وسلطة الحكم

وقد قدم الرسول الأكرم نموذجا خالدا في قضية المؤاخاة بين الأخلاق وإدارة السلطة والدولة والعلاقات مع الدول الأخرى، وثبت بما لا يبقل الشك، أن المنهج السياسي القائم على ثوابت وقيم أخلاقية راسخة، يعد أفضل الأنظمة السياسية، وأن الحاكم الذي يراعي الأخلاقيات في علاقاته وفي مصالح دولته هو الذي يسودُ على غيره من الحكام.

لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(الإسلام ورغم كل المشاكل والمآسي التي تمرّ بها البلاد الإسلامية، يبقى مدينا لأخلاق النبي، وإذا كان ثمة توسّع في الدين في أي نقطة من نقاط العالم، فهو نتيجة للعقل النيّر الذي كان يمتلكه رسول الله صلى الله عليه وآله والحنكة في التدبير والتسامح).

ومن الأمثلة الحية التي أظهرت إنسانية الحاكم، وأثبتت بأنه يعتمد العفو في أشد المواقف خطورة، ذلك الموقف الذي تعامل فيه الرسول الأكرم مع الذين خانوا الإسلام وقائد المسلمين، حيث عفا عن الخائنين (في الحرب)، مع أنهم تنكروا لأوامره وبارحوا أماكنهم وهم في ساحة المعركة، ومع ذلك لم يتعرضوا لأي نوع من العقاب.

كما أن القائد الإسلامي النموذج والأسوة لم يعاقب أحدا من المسلمين، فيما تعامل مع الجميع حتى غير المسلمين بما يحفظ حقوقهم وكرامتهم وينصفهم ويحمي مصالحهم، وهنا تظهر الأخلاق جنبا إلى جنب في إدارة شؤون الدولة وعلاقاتها سواء كانت في حالة حرب أو سلم. 

(فقد عفا النبي عن الخائنين في الحرب رغم أن القرآن الكريم أوعدهم بالنار مراراً، عفا عنهم مع أنهم اقترفوا معصية كبيرة بمخالفتهم لأوامره ومبارحتهم للجبل. إذ لم ينقل لنا التأريخ أن النبي صلوات الله عليه وآله عاقب أحداً من المسلمين وفيهم الكثير من المنافقين. ونحن نعلم أن هذا العمل في المعركة هو أشد مراتب الخيانة لأنه جرى في ساحة المعركة) كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي.

وبهذا فإن سماحته (دام ظله) يدعو بشكل واضح وصريح، كل الحكومات الإسلامية وسواها، إلى أن تتبع التعاليم التي استند إليها النبي صلى الله عليه وآله، وطبقها في إدارة الدولة والشعب، وفي العلاقات الدولية المنصفة العادلة، ليس هذا فحسب، وإنما حتى في الإدارة الاقتصادية للدولة، وعليهم الاستفادة من أسلوب الحكم والإدارة والسلوك الشخصي للرسول كحاكم نموذج، يرعى مصالح أمته والأمم الأخرى بما لا يهضم حقها، ولهذا يجب أن يتعلموا كيف حكم الدولة وأدارها وفق القيم التي ارتفعت فوق المنازعات واغتصاب المصالح.

أخلاقيات الإدارة الاقتصادية للدولة

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يوجه دعوته إلى الحكومات قائلا: (أنا أوجّه رسالة إلی الحكومات والشعوب في العالم أدعوهم فيها إلى إتباع تعاليم رسول الله (صلوات الله عليه وآله) خطوة خطوة في الحرب والسياسة والاقتصاد والتعلّم من حِكَمِه التي نطق بها ثم عَمِلَ بها).

ثم يطالب سماحته من الحكومات الإسلامية أن تتعلم من تجارب الرسول الأكرم، في إدارة الأمة، وفي اساليب التعامل مع الشعب، وكيف كسب قلوب وعقول الجميع، بما امتاز به من حنكة وصبر وحكمة عظيمة، جعلت القيم الصحيحة في المقدمة دائما، لاسيما التعامل بالصفح والعفو والرحمة والتسامح.

فالأخلاق يجب أن تكون حاضرة في جميع القرارات التي تتخذها الحكومات، والعدالة والإنصاف بين الناس، هو المعيار الذي يمنحها شرعية الحكم، وهذا كله يبدأ من شخص الحاكم الأول أو الأعلى، فهو النموذج الذي يسير خلفه الجميع.

كما يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): 

(على الحكومات الإسلامية أن تتعلم من الرسول صلى الله عليه وآله كيفية التعامل مع شعوبها وإن كان بعضهم من المنافقين، فيجب أن يكون التعامل برحمة وعقل وإنسانية، وتعامل بفضيلة وأخلاق وتسامح).

من المؤسف حقا أن تصل الأمور بواقع الدول الإسلامية إلى ما هي عليه الآن، فهو واقع مليء بالمشكلات والأزمات، وكل هذا يجري بسبب الحكام والحكومات، (لأن الناس على دين ملوكهم)، فإذا كان الحاكم ذا سياسة أخلاقية تقوم على الثوابت، وتأخذ قراراتها من صلب المبادئ السامية لأهل البيت عليهم السلام، ومن تجربة الحكومتين الخالدتين للرسول الأكرم والإمام علي (صلوات الله عليهما)، فإنه سوف ينجح في تحقيق أهدافه حتما.

وهذا ما يراه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حيث يقول:

(إذا أرادت الحكومات الإسلامية وغير الإسلامية أن تنجو بنفسها من المآسي وتتغلب على مشاكلها التي غطّت رقاعها جميع البلاد الإسلامية فعليها أن تتبع سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله ولاسیّما في المجال السياسي والاقتصادي).

وأخيرا فإن الحاكم الذي يحكم الناس بالأخلاق، والذي يقيم علاقاته مع الدول الأخرى بمعيار أخلاقي منصف، فإنه سوف يحقق أهدافه الجيدة، وسوف يجد من شعبه وأمته كل الدعم والتأييد، كما سوف ينجح في بناء سياسات أخلاقية مع الدول الأخرى، ويثبت بأن السياسة يمكن جدا أن تتناغم وتتعاون مع الأخلاق، وكذلك علاقات الحاكم بشعبه يجب أن تستند إلى الأخلاقيات التي تمسك بها قائد المسلمين الأعظم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

اضف تعليق