يسعون باستمرار إلى تشويه ما يقوم به المصلحون، ويحاولون جرّ الآخرين بهذا الاتجاه المضاد للإصلاح، ومع ذلك لابد أن يبقى الإنسان المصلح متمسكا بهدفه الإصلاحي، ولا يتراجع عن تحقيقه مهما كانت الأسباب، ومهما بلغت درجة الاستهزاء والسخرية، فالهدف الذي جاءوا من أجله أكبر وأعظم وأجلّ من كل ما يقوم به الحاقدون الفاشلون...
(المهم أن يصبر الإنسان ويعتمد على الله تعالى ويتحمل الأذى والمشاكل)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
لابد أن يكون هناك جذر وسبب نفسي يدفع بالبشر للاستهزاء بالمصلحين، وقد عزى علماء النفس بأن الإنسان الذي يستهزئ بالإنسان الناجح يعاني من الفشل والضعف الذاتي الذي يمنعه من إصلاح نفسه وإصلاح الآخرين، ولهذا يندفع في الاتجاه المعاكس، ويسعى لتسقيط المصلحين والناجحين عبر السخرية التي يُظهرها نحوهم.
هذه الظاهرة ليست وليدة هذا العصر، بل هي قديمة قِدَم نشأة الحياة فوق كوكب الأرض، ومنذ أن نشأ الإنسان واجتمع في تجمعات سكنية واحدة كالقرى الصغيرة، أخذت تظهر بوادر الانتقاص من الناس المتميزين، وهكذا نلاحظ حتى يومنا هذا ان كل إنسان ناجح ومتميز بالإصلاح والإنتاج والفكر الصالح، تكون سهام الآخرين موجَّهة له لتطيح به.
هذه الظاهرة تعرض لها المصلحون منذ أن أرسل الله تعالى رسله وأنبيائه لكي يقودوا عملية الإصلاح في الأرض، وينشروها بين بني البشر، ولعل أكثر الناس الذين نالت منهم ظاهرة الاستهزاء والتسقيط هم الرسل والأنبياء وكل الذين أرسلهم الله تعالى لإصلاح البشر، ومن عادة البشر أنهم لا يستقبلون توجيه المصلحين لأسباب عديدة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيمة ضمن سلسلة نبراس المعرفة وجاءت بعنوان الاستهزاء:
(من عادة البشر أنّهم غالباً، لا يطيقون كلام المُصلحين ولا يتحمّلون خطاب الأنبياء الديني الذي يدعو إلى الهداية وإلى الخير والسعادة، فيقومون بالاستهزاء بهم وبأقوالهم، بمختلف الأساليب والطرق).
هذه الطبيعة البائسة الموجودة عند البشر، حالة مؤسفة جدا، كونها تسعى إلى إحباط مساعي المصلحين، وتعيق محاولات كبح الرذيلة، فحين يرسل الله تعالى الرسل والأنبياء من أجل قضية الإصلاح، فهذا يبيّن بوضوح كبير كم هي مهمة قضية إصلاح الناس، وإن الله تعالى سخّر لهذه المهمة الكثير من رسله وأنبياء. ويتحسّر على عباده الذين لا يعرفون قيمة مهمة الإصلاح التي يتصدى لها المصلحون، وما هي أهداف هذا الإصلاح.
فحين يأتي شخص ما مصاب بمرض نفسي، كأن يكون حقودا أو عاجزا أو ممتلئا بالطاقة السلبية التي لا ترغب بكل شيء له علاقة بالإصلاح، فإن الله تعالى لا يقبل بهذه المعارضة ويتحسَّر على عباده الذين يرفضون ويعيقون هذه العملية التي تجعل بني البشر صالحين.
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يشير إلى هذه النقطة فيقول:
(هذا الاستهزاء الذي غالباً ما يقوم به البشر، جعل الله يخاطب عباده كافّة ومن دون استثناء قائلاً: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، سورة يس، الآية 30.
ومما يثير الغرابة حقا، أن الرسل والأنبياء بلا استثناء طالهم الاستهزاء، وكانوا هدفا للمستهزئين، مع أنهم كانوا من أفضل الخلق أخلاقا، وقيمًا وتعاملا هادفا مع الجميع، وقدموا نصائح لا تتوقف، كي يتم إصلاح القلوب والنفوس، ويتعامل الناس فيما بينهم وفق ما يريد الله تعالى والدين والأحكام والعقائد والقوانين.
مشكلة قلة الوعي والثقافة
ولكن البشر السيئين لم يترددوا قيد أنملة عن إلحاق الأذى بهؤلاء المصلحين، على الرغم من أنهم قدموا للبشرية أعظم الجهود في مجال إصلاح النفوس والأفكار والعقول، لكي تتقدم البشرية إلى أمام كم خلال عمليات الإصلاح المتواصلة، ولكن هؤلاء المستهزئين لم يتركوا مصلحا إلوا وأصابوه بالهزء والسخرية والتشويه.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(مما يؤسَف له أيضاً أن هذا الاستهزاء جرى على جميع الأنبياء من دون استثناء، بحيث لم يستثن الله تعالى أحداً من الرّسل، بل خصّهم بالذكْر جميعاً، فقال تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
ولكن الغريب في أمر البشر حقا، أنهم كانوا دائما وغالبا يستهزئون بالمصلحين، والأسباب كثيرة، أولها قلة الوعي والثقافة، وأكداس الجهالة التي تتراكم فوق عقول الناس وتملأ قلوبهم بالسوء، فتدفعهم أحقادهم وجهلهم إلى ممارسة السخرية والاستهزاء بالمصلحين، مع أن من بينهم كانوا رسلا وأنبياء ومصلحين لا يشقّ لهم غبار.
ومع ذلك هناك من يؤمن بهؤلاء المصلحين ويتبعهم، ويتمسك بأهدافهم وأفكارهم وبالقيم التي يجسدونها في دعواتهم وسلوكياتهم، ففي زمن الرسل والأنبياء مع كثرة المستهزئين، لكن هنالك أيضا المؤمنين المؤيدين السائرين وراء هؤلاء المصلحين بلا أدنى تردد.
علما أن هذا التبّاع الدائم والمستمر للمصلحين موجود في كل عصر، وحتى في عصرنا الراهن هنالك الملتزمين بنصائح وتوجيهات المصلحين، وستبقى هذه الحالة الإيجابية موجودة مستقبلا مثلما هي موجودة حاضرا، وهذا يؤكد أن الفطرة الإنسانية تدفع بالناس رغم وجود الساخرين المستهزئين، إلى ملازمة وتأييد الإصلاح والمصلحين.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي حيث يقول:
(نعم، لا ننكر أنّ هناك أشخاصاً يؤمنون بالرسل وبالأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ويتبعونهم، بل ويتّبعون العلماء المصلحين والهداة الأتقياء الأخيار من ورائهم، فهذا الإتّباع موجود مع وجود کلّ الاستهزاء، وسيبقى الإتّباع جارياً في الحاضر والمستقبل).
تعزيز القيم في القلوب والعقول
وغالبا ما يتعرض كل المصلحين إلى نوع من الاختبار الإلهي، حيث يتسلح هؤلاء بالصبر والإيمان القاطع، والعمل المستمر والمثابر في عمليات إصلاح الناس، من دون أن يصابوا بالضجر أو الملل، وإنما هم مؤمنين بما كُلِّفوا به من مهام إلهية عليهم التصدي لها.
فمهمة إصلاح البشر ليست سهلة، واستمرار المستهزئين متواصل وحاضر طالما أن هناك جهودا إصلاحية هدفها تعزيز القيم في نفوس وعقول وقلوب الناس، ولهذا السبب فإن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، حقق النصر الناجز على أعدائه وثبت أركان الإصلاح في أمته، على الرغم من كل ما فعله المستهزئون.
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يؤكد ذلك في قوله:
(إنّ الله تعالى يختبر عباده المصلحين والذين يسيرون على خطى الوحي الإلهي ويتبعون الأنبياء والرسل والأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين). وهؤلاء ليس المهم عندهم ما يفعله الأعداء، فالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله قد انتصر في نهاية المطاف على جميع المنافقين والمشركين واليهود والنصارى في دعوته إلی الإسلام، وكذا الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم) أيضاً قد انتصروا على شتى أنواع الأعداء، ومضى على خطاهم العلماء الأتقياء والمراجع العظام).
أما لماذا يسعى الخبثاء الحاقدون إلى الوقوف بالضد من المصلحين، فهذا الأمر يتعلق أولا بالخلل النفسي والفكري والديني الذي يعانون منه، وثانيا هم يجدون راحتهم في هذا النوع من التشويه، لأنهم لا يستطيعون العيش في بيئة سليمة أخلاقيا ودينيا وفكريا.
فيسعون باستمرار إلى تشويه ما يقوم به المصلحون، ويحاولون جرّ الآخرين بهذا الاتجاه المضاد للإصلاح، ومع ذلك لابد أن يبقى الإنسان المصلح متمسكا بهدفه الإصلاحي، ولا يتراجع عن تحقيقه مهما كانت الأسباب، ومهما بلغت درجة الاستهزاء والسخرية، فالهدف الذي جاءوا من أجله أكبر وأعظم وأجلّ من كل ما يقوم به الحاقدون الفاشلون.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(المهم أن يصبر الإنسان ويعتمد على الله تعالى ويتحمل الأذى والمشاكل من أجل نشر أحكام الله والترويج للعقائد الإسلامية والأخلاق والفضائل التي يتبناها الإسلام في کلّ مكان وزمان).
وبعد أن اتضحت لنا تلك الاسباب التي تدفع بالمستهزئين إلى ما يقومون به بالضد من المصلحين، تبيّن لنا بأن المصلحين أيضا، يمتلكون الثبات على الهدف، والتمسك بما كُلِّفوا به، من أجل بناء الأمة المؤمنة التي تؤمن بالإصلاح، وتساند المصلحين على القيام بأهدافهم بقوة وإخلاص تام.
اضف تعليق