إن الإمام علي عليه السلام أوجز للحكام المسلمين، تلك المسؤوليات الخطيرة التي تقع على عاتقهم تجاه أفراد الأمة، وهي حقا مسؤوليات تثقل كواهل الحكام، وهذه المسؤوليات سوف يُحاسَب عليها هؤلاء الحكام القدماء منهم وحاضرهم والقادمين، فلْيعِ هؤلاء الحكام دروس الإمام علي عليه السلام جيدا، ولينتهزوا فرص التصحيح المتاحة لهم...
(لم يضع الإمام علي سلام الله عليه حجراً على حجر، ولم يسكن قصراً فارهاً)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
يتحمل الحكام ماضيا وحاضرا ومستقبلا كل ما تتعرض له الأمم والشعوب والدول من نتائج على الصعيدين الإيجابي والسلبي، وليس هناك مجال يمنح الحكام فرصة التملص من مسؤولياتهم تجاه هذه النتائج، وعندما نحاول أن نبحث في أسباب تقدم أمة معينة، فإننا سوف نعثر على السبب فورا ونجده متجسدا في قيادتها الحكيمة، وعلى العكس حين تنحدر أمة ما نحو الحضيض فإن السبب سوف يكون الحكام بلا منازع.
لهذا السبب انتعشت دولة المسلمين عندما توفر لها قادة كالنبي محمد صلى الله عليه وآله، وتلميذه النجيب وساعده الأيمن الإمام علي عليه السلام، فهاتان الحكومتان العظيمتان في التاريخ السياسي المشرق للمسلمين يقف وراؤهما قائدان خالدان، حكيمان، وضعا الحكمة فوق كل شيء، والعلم في المقدمة، والعدل أساس كل شيء، ونشروا القيم العظيمة بين الناس.
فازدهرت أمة الإسلام ودولتهم، وصاروا منارا وفنارا يهتدي به البشر أجمعون، وانتعشت القيم التي تناصر الحق، وتعتمد العدل والحق في سياسة شؤون الناس، ووجد الفقير نصيرا ومجيرا له، وهو الحاكم الذي عاش عيشة الفقراء وشعر بشعورهم، وجاع مثلما كانوا يجوعون، ولبس مثلما كانوا يلبسون، فصار رمزا لهم وقدوة وأسوة يسيرون خلفها طلبا للهدى والنجاة، ذلك هو الإمام علي عليه السلام التلميذ النجيب لابن عمه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله.
لذلك فإن كل إنسان يتجاهل هذه الحقيقة، حقيقة العدل الخالد للإمام علي وتعاطفه الحقيقي مع الفقراء، ونشره العلم بين من يحتاجه، فإن هذا الذي يتجاهل هذه الحقائق سوف يجد نفسه من الخاسرين شاء أم أبى ذلك، وثبت واقعيا إن كل من يستقي علمه بعيدا عن الإمام علي والأئمة المعصومين عليهم السلام يكون من الخاسرين في الأولى والآخرة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (نفحات الهداية):
(إنّه لمن تعاسة الإنسان وسوء حظّه أن يطلب العلم والمعرفة من غير طريق علي وآل علي سلام الله عليهم، وهذا العلم، إن حصل، فليس بذاك لأنّه مفرّغ من القيم الأخلاقية والمعنوية، وبعيد عن روح الشريعة).
التعاطف مع البسطاء والمحتاجين
ونظرا للشعور العالي بالمسؤولية الذي كان يتحلى به الإمام علي عليه السلام إبان حكومته وقيادته لدولة المسلمين، فإن أكثر ما أظهره للأمة، هو دعمه للفقراء وللضعفاء، وتعاطفه الشديد معهم، وفي نفس الوقت كان القدوة والأسوة في الاعتدال والبساطة في العيش والابتعاد عن التظاهر الفارغ والتبختر والغرور بالسلطة.
وقاد خاطب الإمام علي عليه السلام أمته مرارا وتكرارا بأنه لا يعبأ بالدنيا ومفاتنها، ليس بالقول وحده، وإنما أثبت لهم ذلك بسلوكه ولباسه وتعاملاته في حياته اليومية، لهذا بلغت درجة رضا الناس أقصاها بالحاكم الذي كان يضع مصلحتهم فوق مصلحته بل وفوق كل اعتبار، وهذا درس كبير لقادة وحكام المسلمين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(إحدى خصال الإمام علي سلام الله عليه خاصة في فترة خلافته، تعاطفه مع الناس، ويتجلّى تعاطفه مع أفقر الناس من خلال عمله وقد قال: ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه(.
وإذا كان الحكام المسلمون الذين غرَّتهم السلطة، وخدعتهم الدنيا بمفاتنها، والكراسي بمغرياتها، وراحوا يتسابقون فيما بينهم على اكتناز الأموال، وشراء الأطيان، وبناء الفلل والقصور العالية، والسيارات الحديثة التي بلغت أسعارها مئات الملايين، إذا كان هؤلاء الحكام قد سقطوا في وحل الدنيا وحطامها، فإن الإمام علي قدّم لهم (الحكام المسلمين) وسواهم من حكام العالم درسا في الاعتدال والحكمة ومكافحة الفقر.
فالإمام علي وهو القائد الأعلى للدولة، وقف ظهيرا ونصيرا للضعفاء والفقراء، وكافح الفقر في دولته المترامية الأطراف، وأعطى الأوامر الواضحة لجميع الحكام الفرعيين التابعين لحكومته بأن يتعاملوا مع الناس وفق القيمة الإنسانية التي يستحقونها، وأوصى هؤلاء جميعا بالتعامل الذي يليق بقيمة الإنسان وكرامته.
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله أكد هذه النقطة حين قال:
(لم يضع الإمام علي سلام الله عليه حجراً على حجر، ولم يسكن قصراً فارهاً، بل تحمّل كلّ المصاعب والآلام لئلا يكون هناك فرد في أقصى نقاط دولته يعاني من فقره ولا يجد حتى وجبة غذاء واحدة تسدّ رمقه).
هذه هي الدروس العظيمة التي قدمها الإمام علي عليه السلام للحكام المسلمين، فعلى الرغم من سعة الدولة التي يحكمها ومسؤول عنها، حيث ضمت عشرات الولايات ومنها معظم الدول العربية الحالية، والعديد من دول العالم الأخرى، على الرغم من ذلك كان الإمام يرفض وجود جائع واحد في الدولة كلها.
رؤية الإمام علي لمسؤولية الحكم
مثلما كان يرفض وجود مظلوم واحد من الشعب والأمة، فليس هناك مجال لامتهان كرامة الإنسان، وليس هناك فرصة للحكام والمسؤولين أن يتجاوزوا على حقوق الناس مثلما هو حاصل اليوم، ولو كان الإمام عليه السلام حاكما معاصرا، لجعل من كل المسؤولين تحت طائلة القانون وأحكام الشريعة، ولهذا من أهم الأمور الواجبة على حكام المسلمين الانتباه الشديد لمسؤولياتهم الكبيرة تجاه الناس.
كذلك عليهم أن لا يسرفوا كثيرا بممتلكاتهم، وامتيازاتهم، وأرصدتهم، والتشبث بكراسيهم ومناصبهم، فالدنيا لم تدم لأحد ولن تدوم، وعلى هؤلاء الحكام أن يطالعوا سيرة الإمام علي عليه السلام لكي يعرفوا كيف تعامل مع السلطة، وكيف أفنى حياته من أجل الفقراء والمحتاجين، وترك الدنيا وما فيها من مغريات وراء ظهره.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(إنّه عليه السلام لمجرد أن يحتمل سلام الله عليه وجود أفراد في المناطق النائية من رقعة حكومته جوعى، لم يكن ينام ليلته ممتلئ البطن، وقد حرم نفسه حتى من متوسط الطعام واللباس والمسكن ولوازم الحياة العادية).
وحين يتعامل حاكم مثل الإمام علي مع السلطة بهذه الطريقة، فإن لديه رؤيته الخاصة بالسلطة ومسؤولية الحكم، فقد أراد عليه السلام أن يحقق هدفين كبيرين من خلال طبيعة تعامله مع السلطة والكرسي ومغرياته.
الهدف الأول، أراد عليه السلام أن يلجم تلك الأفواه والألسن المغرضة التي كانت تثير وتبث الشبهات عن الإمام علي كي تطال شخصه بما لا ينسجم مع مكانته العظيمة بين المسلمين، وتاريخه الحافل بالمواقف المشرفة في تثبيت أركان ومبادئ الإسلام، لهذا كان الهدف الأول هو إسكات الأصوات المغرضة وفضحها بالحقائق.
أما الهدف الثاني فهو توجيه رسالة إلى الحكام المسلمين، وتنبيهم حول مسؤولياتهم تجاه الناس، وتحذيرهم من مغريات الدنيا وامتيازات السلطة، وأهمية إنصاف الناس والتعاطف معهم وكبح الحرمان والفقر الذي يجتاح حياتهم، ومنحهم فرص العيش الكريم المرفّه، فشعوب الدول الأخرى المرفّهة ليست أفضل منزلة من المسلمين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله عن هذه النقطة المهمة:
(أراد الإمام علي سلام الله عليه بنهجه هذا تحقيق هدفين: الهدف الأول: أن يُبعد عنه أي شبهة كحاكم إسلامي، ويسلب منتقديه - هؤلاء الذين أنكروا عليه حتى مناقبه- أي حجّة تدينه. الهدف الثاني: تذكير الحكّام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه آلام الناس وفقرهم في ظلّ حكوماتهم، وضرورة إقامة العدل والتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم، والسعي بجدّ من أجل تأمين الرفاهية والعيش الكريم لهم).
وكم هو عظيم ذلك الحاكم الذي لا يقبل بوجود فقير واحد من بين أفراد أمته وشعبه، هذا الحاكم هو الإمام علي عليه السلام، الذي قدم الدروس الخالدة لكل حكام العالم ومن بينهم حكام المسلمين، حيث دعاهم إلى أن يلبسوا ما يلبس الفقير ويأكلوا ما يأكل الفقير، ويحققوا أحلام الفقراء البسيطة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(إن مجرّد احتمال وجود جياع في أبعد نقاط الحكومة الإسلامية يعتبر في ميزان الإمام علي سلام الله عليه مسؤولية ذات تبعات، لذا فهو عليه السلام يؤكّد على الحكّام ضرورة أن يجعلوا مستوى عيشهم بنفس مستوى عيش أولئك، وأن يشاركوهم شظف العيش).
الخلاصة إن الإمام علي عليه السلام أوجز للحكام المسلمين، تلك المسؤوليات الخطيرة التي تقع على عاتقهم تجاه أفراد الأمة، وهي حقا مسؤوليات تثقل كواهل الحكام، وهذه المسؤوليات سوف يُحاسَب عليها هؤلاء الحكام القدماء منهم وحاضرهم والقادمين، فلْيعِ هؤلاء الحكام دروس الإمام علي عليه السلام جيدا، ولينتهزوا فرص التصحيح المتاحة لهم قبل أن تزول فيخسرون كل شيء.
اضف تعليق