الإنسان بين شهوات النفس والعقل السليم

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

السبب يعود إلى أن الله خلق في الإنسان عقلاً يدعو إلى الفضائل، ونفساً تدعو إلى الشهوات، وبين هذين الأمرين يكون الاختبار الإلهي للإنسان في شتى مراحل الحياة. ومن الطبيعي هنا أن يكون الاختبار والامتحان في المرارات ولا يكون في الأمور التي لا مرارة فيها...

(إن الاختبار والامتحان الأكبر والأشدّ والأشمل، يكون في تذوّق المرارات)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

من المفارقات العجيبة لحياة الإنسان أنها تقدم المرّ والحلو في آن واحد للجميع، ولكن المقياس الكوني لهذه الثنائية المتناقضة (الحلو و المرّ)، يجعل معطياتها متعاكسة، فيكون الحلو في الدنيا مرًّا في الآخرة، ويكون المرّ في الدنيا حلوًا في الآخرة، كيف نفسر هذا التناقض الدنيوي الأخروي، ولماذا يقع تبادل الأدوار بهذه الصورة التبادلية التامة؟

بمعنى كيف يتحول الحلو في الدنيا إلى مرّ في الآخرة؟، وكيف نفسر هذا الأمر، هل هناك من أمثلة على هذا التوصيف؟، إن الشيء الحلو أو اللذيذ في الدنيا يقع في دائرة الشهوات غالبا، والشهوات هي الميدان الذي تتحرك فيه نفس الإنسان، وتسحبه إلى الرداءة والبذاءة والرذيلة في آن واحد، فكل شيء ينتمي إلى الشهوة تنتج عنه لذة وحلاوة، لذلك يتحول كل شيء ينعكس عن شهوة الإنسان إلى فعل لذيذ لكنه خاطئ.

مثلا سرقة الأموال والحصول على مبالغ ضخمة يحدث نتيجة شهوة حب المال، وبالتالي يشعر الإنسان بلذة هائلة عندما يحصل على أموال طائلة، ولكن النتيجة أن هذه الحلاوة سوف تتحول في الآخرة إلى مرارة العلقم وأكثر.

من هنا يجب أن يحترس الناس جيد ويفهموا هذه القاعدة ونتائجها كما يوضحها حديث أمير المؤمنين عليه السلام، ويشرحها لنا، ويؤكد فيها بأن اللذيذ في الدنيا مر في الآخرة إذا كان يدور في مدار الشهوات والأعمال الخارجة عن أحكام المشروع والمقبول حكما ودينًا.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في محاضرته القيمة (مرارة الدنيا) ضمن سلسلة محاضرات نبراس المعرفة:

(ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أنه قال: (مَرَارَةُ اَلدُّنْيَا، حَلاَوَةُ اَلْآخِرَةِ ـ وَحَلاَوَةُ اَلدُّنْيَا، مَرَارَةُ اَلْآخِرَةِ) هذه قاعدة عامة تشمل جميع مراحل الحياة ومراتبها، فهي تشمل الإنسان الذي يعيش وحيداً مجرّداً ثم تشمل العائلة والريف والقرية، وهكذا العشيرة والمدينة وسائر الشعوب والحكومات والدنيا وما فيها).

كل الشواهد الدينية والعقائدية والمنطقية تؤكد بأن الله تعالى خلق الدنيا لاختبار الإنسان، وأعدّ لهذا الاختبار ثنائية (الحلو و المر)، وربط الحلو بالدنيا، والمر بالآخرة، فإن أراد الإنسان الآخرة عليه أن يتحمل المرّ في الدنيا، وإن أراد الحلاوة في الدنيا عليه أن يتحمل المرارة في الآخرة، لأن حلو الدنيا غالبا ما يقود الإنسان إلى مرّ الآخرة.

حلو الدنيا يقود للخطيئة

كما أن هذا الشعور مرتبط بالنفس والجسد، فالحلو يمكن أن تعيشه النفس ويمكن أن يتمتع به الجسد، هذا شيء يعيشه الإنسان ويشعر به، ولذلك يصبح محل اختبار وامتحان، لأن حلو الدنيا قد يقود الإنسان نحو الخطيئة، وبالتالي هناك حساب على ذلك في الآخرة، أما إذا بقي الإنسان صامدا بعيدا عن حلاوة المحرّمات، فإنه حتما سوف يكون بعيدا أيضا عن مرارة يوم الحساب التي لا يمكن لأحد أن يتخلص منها إلا بالعمل الصالح الصحيح.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(الله سبحانه وتعالى كما ورد في متواتر الآيات المباركة والروايات الشريفة خلق الدنيا وخلق فيها الإنسان للاختبار، ولذلك فإن أي حلاوة في الدنيا (هي حلاوة نفسية وجسدية) خلقها الله تعالى لامتحان الإنسان واختباره، وفي المقابل، المرارات أيضاً كلها (مرارات جسدية ونفسية) قد خلقها الله تعالى أيضاً للاختبار).

في مقابل ثنائية الحلو المرّ، خلق الله تعالى ثنائية العقل و النفس، فالأول مركز الفضيلة والعمل الصالح والحكمة والتوازن والعدل والرحمة، والثاني النفس بؤرة الأعمال المحرّمة، حيث تدفع بصاحبها نحو الشر، وتجعله ألعوبة بيد الشهوات، فتجعله يلتذ بحلاوة الدنيا، لكنه لا تحره مما ينتظره من مرارات في يوم الحساب.

لهذا يجب ان يتنبّه كل إنسان تتاح له فرصا كبيرة للحصول على اللذة والأموال الحرام وظلم الناس والحصول على مراكز ومناصب كبيرة تسمح بالاختلاس والسرقة والتجاوز على حقوق الناس، هنا ستكون هناك فرص كبيرة للإنسان كي يقع في مرارة الآخرة، لكنه سوف يتمتع بحلاوة الدنيا، لهذا على المسؤول والثري وكل إنسان متمكن أن يحذر من شهواته.

وعلى كل إنسان أن يوازن بدقة في قضية البحث عن اللذة في الدنيا، نعم هناك لذائذ مسموح بها كونها تقع في إطار الأحكام الشريعة التي تسمح بها، نعم هذي لذيذة لكنها ليست محرّمة فهي متاحة للإنسان، لكن المشكلة تتعلق باللذة غير المشروعة، هنا يجب على المسؤول وكل الناس أن يحذروا منها.

حيث يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله القول:

(السبب يعود إلى أن الله خلق في الإنسان عقلاً يدعو إلى الفضائل، ونفساً تدعو إلى الشهوات، وبين هذين الأمرين يكون الاختبار الإلهي للإنسان في شتى مراحل الحياة. ومن الطبيعي هنا أن يكون الاختبار والامتحان في المرارات ولا يكون في الأمور التي لا مرارة فيها. وعليه فإن الاختبار والامتحان الأكبر والأشدّ والأشمل، يكون في تذوّق المرارات). 

محاربة الشهوات غير المشروعة

من هنا ينشأ ذلك التناقض الكبير بين عقل الإنسان وشهواته، فالأول يمنع الانحدار صوب الرذيلة بكل أشكالها، والثانية تفتح جميع الأبواب للإنسان كي يدخل إلى الملذات المحرّمة، وهذا تضعه أمام مشكلة مواجهة مرارة الآخرة، وتضييع فرصة النجاح الدنيوي الممكن من خلال كبح جماح النفس، ومحاربة الشهوات غير المشروعة.

يستطيع المسؤول الكبير ان لا يسرق المال العام حتى لو توفر أمامه بالملايين والمليارات، ويمكن لكل الناس أن يتجرّعوا مرارة التمسك بالأعمال المشروعة، والمحذورة، أو المحظورة، فأن تبتعد اليوم عن حلاوة الدنيا، هذا يعني بأنك تبتع حتما عن مرارة الآخرة.

لذلك عندما يقدم الإنسان الشهوات على عقله، إنما هو يضحي بأعظم الفرص التي تحميه من مرارات الآخرة، وبالتالي سوف يفقد القدرة على مغادرة دائرة الشهوات التي تغلقها النفس حوله، فيصبح الخروج منها عسيرا، وتصبح مرارة الآخرة هي النتيجة التي تنتظره حتما.

كما يؤكد ذلك قول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في قوله:

(لهذا السبب تتعارض غالباً شهوات النفس مع ما يصبو إليه عقل الإنسان السليم، فنرى المظالم المختلفة من كبيرها إلى صغيرها التي كانت في الدنيا ولاتزال، ستكون كلها بسبب تقديم الشهوات على ما يدعو إليه العقل الإنساني السليم).

لذلك من المهم جدا ان يفهم الإنسان بأنه إذا تحمّل مرارة الدنيا (في منصبه) وفي أعماله، وأغلق أبواب الانحراف ورفض حلاوة الدنيا، فإنه إنما يعد نفسه لملاقاة النتائج التي تسره في الآخرة، ويحدث العكس تماما عندما يضعف الإنسان لا سمح الله أمام الملذات، ويهدر قيمته ومكانته وعقله أمام شهوات سرعان من تتبخر كما يتبخر الثلج تحت وقْد الشمس.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(الشخص الذي يتحمل مرارة الدنيا، ويتحملها في سبيل لله ومن أجل خير نفسه وخير الآخرين ستكون نتيجة تلك المرارة حلاوة في الآخرة. والعكس كذلك صحيح، فحلاوة الدنيا، مرارة الآخرة). 

الخلاصة الأخيرة إن الإنسان يعيش هذا الصراع في دنياه، وأمامه العقل والنفس، وفي يده أن يميل لعقله فينجو، أو أن ينحدر مع نفسه فيهلك، وسوف تتحول لذة الدنيا السريعة الزائلة في كل الأحوال، إلى مرارة أخروية لا تزول، فأيهما الأفضل لهن هو الذي عليه الاختيار حصرا ولا أحدا سواه.  

اضف تعليق