لقد جعل الله في تكوين الإنسان هذه الشهوات حتى يختبر من هو صالح ومن هو خبيث، فالإنسان الذي يواجه شهواته بحيطة وحذر وحكمة، ويتصرف معها وفق الضوابط الشرعية والاجتماعية والقانونية، فإنه سوف ينجح في الاختبار، أما الذي يفشل في هذا الاختبار فإنه سوف يكون عرضة للحساب...

(إنّ الله سبحانه وتعالى أودع فينا الشهوات لكي يختبرنا ويَميز الخبيث من الطيّب)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

يكتنز دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين عليه السلام، بالكثير من المعاني القيّمة، ويزخر بالكثير من الدروس التي يحتاجها الإنسان المؤمن، كونها تشكل وسائط واضحة المعالم، تقرّبه إلى الله، وتجعل من دعائه مُستجابا، ومن حاجاته مقضية، لاسيما إذا تمسك بالدروس الثمينة التي يقدمها الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه هذا. 

من أوائل هذه الدروس وأهمها أن يفتتح الإنسان دعاءه بالصلاة على محمد وآله، فهذه الجملة العظيمة بمثابة المفتاح الذي يفتح جميع الأبواب المغلقة أمام الدعاء، وبهذه الطريقة تكون استجابة الدعاء مضمونة، ليس هذا فحسب، بل يرافق ذلك سرعة الاستجابة للدعاء، وبهذا يحقق العبد الداعي ميزتين، الأولى يضمن أن الله تعالى سوف يحقق له ما دعاه، والثاني أن سرعة تحقق متطلبات الدعاء تتم في غاية السرعة.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (حلية الصالحين):

(إن إمامنا زين العابدين سلام الله عليه يفتتح دعاءه بالصلاة على محمد وآله، بل يجعلها مفتاحاً لكلّ فقرة من فقراته ـ كما ترى ـ وذلك للمأثور عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أنّ الصلاة على محمد وآله تعتبر من الأسباب الرئيسية لاستجابة الدعاء، وقد ورد ذلك في روايات متواترة عن مختلف فرق المسلمين؛ فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال: كلّ دعاء محجوب عن الله حتى يصلَّى على محمّد وأهل بيته عليهم السلام). 

شمول الإنسان بالعطف الإلهي 

هذا هو الدرس الأول، والأهم الذي قدمه الإمام زين العابدين عليه السلام للمسلمين، وللمؤمنين كافة، فحتى تضمن شمولك بالعطف الإلهي الكبير، وبقضاء الحاجة التي طلبتها في الدعاء، عليك أولا وقبل كمل شيء أن تبدأ دعاءك هذا بالصلاة على محمد وآله، وهذه الخطوة تقودك إلى نجاحات متتالية كونك لم تنسَ الخطوة الأهم في طلب الدعاء، وهذا ما تؤكده الروايات الشريفة المسندة.

حيث يقول سماحته (دام ظله):

(لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين إجابة الدعاء وبين الصلاة على النبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام. والمظهِر لذلك ومقام إثباته الروايات المصرّحة بذلك والتي تكشف أنّ من أسباب إجابة الله تعالى للدعاء أن يُفتتح بالصلاة على محمد وآله، كما في الحديث المتقدّم).

وهكذا نلاحظ أن الإمام السجاد عليه السلام، وضع أمام عيوننا درسا واقعيا عمليا، مطلوب منا الالتزام به، حتى نفوز بما نريد، ونبدأ بالدعاء كما هو صحيح، فيكون الباب الأول والخطوة الأولى هي الصلاة على النبي وآله، وهذا درس عملي واقعي يضعه الإمام زين العابدين أمام حواسنا وعقولنا، لكي نلتزم به في حياتنا اليومية والعملية والواقعية.

(إذاً فهذا تعليم وإرشاد لنا من الإمام زين العابدين عليه السلام، وهو في الوقت نفسه وقبل أن يكون تعليماً، عمل من الإمام بالواقع الذي يعلمه ويعرفه)، كما يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)..

ثم يأتي الدرس الثاني وهو لا يقل مكانة وقيمة عن مكانة الدرس الأول، حيث أن الإنسان مهما بلغت مرتبة إيمانه وتقواه و ورعه، يبقى بحاجة إلى المساندة الربّانية التي تعينه على تحقيق ما يصبو إليه، فإذا كان رجلا أو امرأة مؤمنة، وكان هذا الإنسان متقيا ورِعا، ويعرف أن مكانته عالية عند الله تعالى، عليه أن لا يُصاب بالغرور، ويجب أن يشعر دائما بأنه يحتاج إلى التسديد الإلهي في قبول الدعاء.

بعضهم ربما يظن أنه مؤمن إلى الدرجة التي لا يحتاج فيها أن يدعوا الله كي يستجيب له، ويقضي حاجته، أو لأي طلب كان، لكن هذا الظن ليس في مكانه، فالإنسان حتى لو كان في أعلى المراتب الإيمانية، يحتاج إلى التوسّل بالله تعالى، حتى يكون في عونه، ويقف له سندا ومعينا كي يحقق الحياة الكريمة التي يتمناها كل إنسان. 

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(بعد أن افتتح الإمام دعاءه بالصلاة على محمد وآله، انتقل عليه السلام إلى مقام سؤال حوائجه من الله تعالى مبتدئاً بهذه الكلمات الأربع: (بلّغ بإيماني أكمل الإيمان) أي أنا لا أستطيع الصعود والبلوغ بإيماني إلى أكمل الإيمان من دون عونك وتسديدك يا ربّ، وأنت الكفيل بذلك فأعنّي. فمهما بلغ الإنسان من المراتب العالية ـ سواء الدينية أو الدنيوية ـ فهو بحاجة إلى عون الله تعالى وتسديده).

هناك قضية يجب أن تنبّه لها جيدا، وهي أن الإنسان بغض النظر عن كونه مؤمنا متّقيا أو عكس ذلك، فإنه في جميع الحالات محاط بالشهوات، وهي تدعوه إلى ارتكاب الذنوب دائما إذا لم يتم إشباعها بالطرق الشرعية المسموح بها، لهذا يجب أن يتنبّه الجميع (حتى المؤمنون منهم) إلى هذه النقطة المهمة، وهي الحذر من الشهوات.

الانصياع للضوابط الشرعية

لقد جعل الله في تكوين الإنسان هذه الشهوات حتى يختبر من هو صالح ومن هو خبيث، فالإنسان الذي يواجه شهواته بحيطة وحذر وحكمة، ويتصرف معها وفق الضوابط الشرعية والاجتماعية والقانونية، فإنه سوف ينجح في الاختبار، أما الذي يفشل في هذا الاختبار فإنه سوف يكون عرضة للحساب، فالحياة الدنيا قاعة الاختبار لاكتشاف الجيد من الرديء.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إنّ الإنسان محاطٌ بالشهوات شاء ذلك أم أبی، والتفت أم تغافل. فقد يتأمّل الإنسان فيلتفت إلى مختلف شهواته، وقد يغفل فلا يلتفت. إنّ الله سبحانه وتعالى أودع فينا الشهوات لكي يختبرنا ويَميز الخبيث من الطيّب).

وفي كل الأحوال يبقى الإنسان دائما وأبدا بحاجة إلى الدعاء، لأن الله تعالى لا (يعبأ) بالناس لو لا دعاءهم، لذا على الإنسان مؤمنا كان أو غير ذلك، أن يتمسك بالدعاء، لأنه البوابة إلى القبول الإلهي، مثلما أصبحت الصلاة على محمد وآله بوابه تفتح للداعي كل الطرق التي تقوده إلى رضوان الله ورعايته.

لهذا يبقى (الإنسان بحاجة إلى الدعاء؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأ ُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ﴾ . والإمام السجّاد عليه السلام يرشدنا في هذا الدعاء ويعلّمنا أن نطلب من الله تعالى أن يأخذ بأيدينا ليبلغ بنا أكمل الإيمان). كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).

وهناك درس آخر لابد من أخذ بنظر الاعتبار، فهناك من يردد الدعاء بشكل آلي، يحرك شفاهه، ولسانه، وينطق كلمات الدعاء بطريقة شكلية آلية، هذه الطريقة السطحية لا يُقبل بها الدعاء، حيث يجب أن يصدر الدعاء من أعماق الإنسان، ويشعر به، ويتفاعل مع معانية وكلماته، لكي يكون الدعاء صادرا من أعماق الداعي فيتقبله الله صادقا، ومع ذلك هناك شيء آخر يجب أن يرافق الدعاء.

ألا وهو العمل، والسعي لقبول الدعاء، لأن الدعاء وإن كان حقيقيا إلا أن صدق العمل وصدق السعي يجب أن يرافق دعاء الإنسان.

لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(قد يجري الإنسان ألفاظ الدعاء على لسانه فقط، فيكون دعاؤه سطحياً. وقد ينطلق الدعاء من أعماقه، وهذا أفضل من الأول بلا شكّ، ولكنّه أيضاً لا يكفي، بل لا بدّ أن يكون إلى جانب الدعاء والخشوع سعي من قبل الإنسان نفسه لتحصيل ما يطلب من الله مستفيداً مما أعدّه الله سبحانه وتعالى للعباد، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر). 

هذه بعض الدروس التي يمكن أن نحصل عليها من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام، وهي دروس نحتاجها بقوة، حتى تمنحنا القدرة على العيش في سعادة، بالإضافة إلى تحقيق النجاح في الاختبار الدنيوي العصيب الذي لا يمكن أن يتحقق ما لم نطلبه عبر الدعاء وشفاعة أئمة أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.

اضف تعليق