إن غياب إرشاد الناس، أو ضعفه، هو السبب الأول الذي يجعل من عالمنا محتاجا إلى الاستقامة، وتنقصه القيم الصحيحة، وتزداد فيه الأفعال المحرّمة، كالربا، والتشاحن، واللهاث وراء المال الحرام، هذه كلها مغريات الدنيا، ومن يرتكبها لم يحصل على فرصة الإرشاد بالقناعة والفهم والتوجيه الصحيح...
(أعطى الله تعالى للبشر قوة الفهم والإدراك، حتى ينقذ نفسه وينجيها، وينجي الآخرين)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
كثيرة هي النِعَم التي أسبغها الله تعالى على الإنسان، ومن الصعب حصرها أو عدّها، كما أنها تكاد تتساوى في أهميتها الكبيرة، ومن بين أعظم هذه النِعم قدرة الإنسان على الفهم والإدراك، وهذه خاصية تميَّز بها الإنسان عن سواه من المخلوقات، حتى يستطيع أن يفهم ما يدور حوله من منافع ومخاطر، لكي يقرّب المنافع بعد أن يفهمها ويطرد المخاطر بعد أن يدركها.
وهكذا يتمكن الإنسان من أن ينقذ نفسه عن طريق الفهم والتعلّم، ولكن هل تقف هذه المهمة عند هذا الحد، وهل على الإنسان أن يكتفي بالتعلّم وإنقاذ نفسه من المخاطر والتلوث بالذنوب والفساد؟، الجواب كلا، هناك تكملة في لخطوة التعلّم والفهم الذاتي، نعم على الإنسان أن يتعلّم ويفهم ما يدور حوله، حتى يدرك كل شيء.
ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فمن المهم جدا أن يواصل الإنسان رحلة التعلم ويلحق بها تعليم الآخرين وتثقيفهم وتوعيتهم، أي أنه يجب أن لا يتوقف عند مرحلة تعليم نفسه فقط، وإنما عليه أن يرشد الآخرين على ما تعلمه وتثقّف به و وعاه من قضايا وأمور مختلفة، وبهذا يؤدي مسؤولية الإرشاد وتعليم الآخرين بعد أن يعلّم نفسه.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته التوجيهية القيّمة:
(إن إرشاد الآخرين مهم كثيرا. فلقد أعطى الله تعالى للبشر قوة الفهم والإدراك، حتى ينقذ نفسه وينجيها، وينجي الآخرين. وإرشاد الآخرين مسؤولية على عاتقنا. فعلاوة على إنقاذ أنفسنا، يقع على عاتقنا كلّنا مسؤولية إنقاذ الآخرين أيضاً).
وانطلاقا من هذه الرؤية المهمة، يجب أن لا نتردد أو نتكاسل في نقل الخبرات والمعلومات التي تعلّمناها إلى الآخرين، ومن الواجب علينا أن لا نحرم الآخرين مما حصلنا عليه وتعلمناه حتى لو حدث ذلك بجهود ذاتية ومساعٍ فردية، ففي الغالب يتعلم الناس بعد بذلهم لجهود فردية متواصلة، ولكن هذا السعي وتحصيل العلم يجب أن لا يمنع الإنسان المتعلم من نقل علومه إلى الناس الآخرين الذين يحتاجون التعلّم لخوض غمار الحياة الشائكة.
فالزوج عليه أن يعلّم زوجته ما تعلّمه، وما فهمه، وما تثقف به، وما وعاه، حتى يمكن للزوجة أن تتجنب الملوِّثات من الذنوب، وكذلك هناك حق للأبناء بالتعلّم والتوعية المستمرة، وحق للأصدقاء، وحتى الغرباء لهم حق في تعلّم ما نتعلَّمه، لأن إنقاذ الإنسان لنفسه فقط لا يكفي، بل هو مسؤول عن إنقاذ الآخرين أيضا.
التعليم لا يقل أهمية عن أداء الفريضة
وأهمية السعي لتعليم الآخرين، لا تقل أهمية أدائنا للفرائض، فمثلما هي واجبة وعلينا أن لا نقصّر فيها، فإن تعليم الآخرين ما تعلّمناه لا يقل أهمية عن أداء الفريضة، وهكذا نستطيع أن نعرف مستوى وقيمة تعليم الآخرين ما ندركه ونتعلمه كي نحتمي من الملوِّثات التي تملأ واقعنا في عالم اليوم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(يجب علينا، أن لا نقصّر في إرشاد الآخرين ولا نحرمهم من الإرشاد، كالزوج والأبناء، والوالدين، والأصدقاء والمعارف والأقارب وأبنائهم، وكل من لنا معه علاقة أو ارتباط بشكل ما. ويجب علينا أن لا نقصّر في هذا الأمر كعدم تقصيرنا في أية فريضة).
ولكن علينا التنبّه إلى نقطة جوهرية أقرب إلى الشرط، حين نسعى لتعليم الآخرين ما تعلّمناه، وحين نرشد الأقربين، سواء من الأهل أو الأصدقاء أو حتى الغرباء، هذه النقطة المهمة هي أن يكون إرشادنا وتعليمنا لهم مقرونا بصفة الإقناع، وليس الضغط أو الإجبار، فالتعليم بالإقناع أهم بكثير من أن نجبر شخصا ما على فكرة أو شيء معين.
الإكراه غالبا لا يؤدي إلى النتائج المطلوبة، فقد يكون الشخص خائفا منك فيضطرّ للتعلم الشكلي وليس التعلّم عن إقناع، والتعلّم الشكلي سرعان ما يتحول إلى هواء في شبك، وتذهب جهود المعلّم بالإجبار أدراج الرياح، لهذا يجب أن يقترن إرشادنا للآخرين بالإقناع حتى لا تضيع جهودنا سدى، وحتى يتعلّم الآخر عن قناعة فيؤمن بما تعلّمه ويطبقهُ.
لذلك مسؤوليتنا كبيرة في هذا المجال، وعلينا أن لا نقصّر قيد أنملة في توعية الناس بالإقناع، حتى يستفيدوا مما يتعلمونه، وينقذون أنفسهم من الواقع الممتلئ بالمغريات والملذات والماديات الهائلة التي اجتاحت عالمنا اليوم.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(علينا أن نمارس الإرشاد بالإقناع، سواء قبل منّا الطرف المقابل وعمل بإرشادنا أو لم يقبل، فعلينا أداء مسؤولية الإرشاد والإقناع فقط، ولا ضير علينا: «فَمَنْ شَاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْیَکْفُرْ» (سورة الكهف: الآية29). فمسؤوليتنا أن لا نقصّر في حقّ الآخرين).
المسؤولية جماعية في إرشاد الناس
ولكن يبدو أن المرشدين قلّة في هذا الزمن، ولو لم يكونوا قلة، لما وجدنا هذا الكم الهائل من الفساد وهو يجتاح العالم، لماذا؟، لأن المرشدين والمعلّمين قليلين، لهذا انتشر الفساد والظلم في العالم، وكثرت الموبقات.
وازداد الظلم والظالمين، كل هذا بسبب قلة المرشدين المعلمين المخلصين، فأما يكون التعليم شكليا، أو يتم بالإجبار، وهذا النوع من التعليم لا يجدي نفعا، يجب توفّر المعلم الجاد والمرشد السديد الذي يعلّم الناس عن طيب خاطر، معتمدا على قناعته التامة بما يتعلّمه.
لذا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(هل توجد النسبة الكافية من الذين يمكنهم أن يرشدوا الآخرين عند الضرورة؟ لو كان ذلك موجود فعلاً لما رأينا الفساد الكبير الموجود اليوم في العالم، ولما رأينا الظلم والفساد يغطّي العالم كلّه، ولما رأينا انتشار المحرّمات).
وتبقى النتيجة مؤلمة ومؤسفة في واقع الحال، لأننا نرصد ضمن واقعنا الكثير من الظلم، وهنالك الكثير من الذنوب والمعاصي التي تُرتكَب في كل يوم، وكان من الممكن تقليل ذلك إلى أدنى مستوى، لو أن المرشدين عملوا بجد لتوعية الناس وتعليمهم على تجنب الفساد والحرام بكل أشكاله وأنواعه.
إن غياب إرشاد الناس، أو ضعفه، هو السبب الأول الذي يجعل من عالمنا محتاجا إلى الاستقامة، وتنقصه القيم الصحيحة، وتزداد فيه الأفعال المحرّمة، كالربا، والتشاحن، واللهاث وراء المال الحرام، هذه كلها مغريات الدنيا، ومن يرتكبها لم يحصل على فرصة الإرشاد بالقناعة والفهم والتوجيه الصحيح.
لذا حقا (من المؤسف له، أن نرى عالم اليوم مملوءاً بالظلم والذنوب والمعاصي والتعدّي، وسببه عدم إرشاد الناس) كما يقول سماحة المرجع الشيرازي.
والسؤال الأكثر أهمية في موضوعنا هذا هو: من المسؤول عن إنقاذ الناس الغاطسين في مستنقع الفساد والمعاصي؟، في الحقيقة هو سؤال في غاية الأهمية، لأننا نعيش في عالم ملوّث ويجب علينا إنقاذ أنفسنا، ولا يجب أن نكتفي بذلك، بل علينا التحرك الجاد المنظّم لمواصلة إنقاذ الناس لأن المسؤولية لا تستثني أحدا، الكل فيها مسؤول.
هذا هو السؤال الذي يطرحه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بالقول:
(من المسؤول عن إنقاذ الأشخاص الملوّثين بالذنوب أو المعرّضين للذنوب والآثام؟ لا شكّ هي مسؤولية على عاتقنا جميعاً. فجميعنا، رجالاً ونساءً، وكباراً وشباباً، مسؤولون لإنقاذ الآخرين، لأنّه لا يوجد من فيه الكفاية، ولا يوجد الكافي ممن ينفّذ هذه المسؤولية والفريضة في العالم. فعلينا أن نشمّر عن سواعدنا لأجل إرشاد الآخرين وهدايتهم).
نعم علينا أن نشمر عن سواعدنا وقدراتنا ونستنفر معلوماتنا وكل إمكانياتنا، لكي نرشد الآخرين بأسلوب الإرشاد بالإقناع، حتى يتمسك الناس بما يتعلمونه من نصائح ودروس وعبر وأحكام تنقذهم من الانزلاق في مستنقع الفساد لا سمح الله، نحن جميعا تقع علينا هذه المسؤولية، أولا إنقاذ أنفسنا بالتعلّم والتثقف والوعي، ومن ثم إرشاد الآخرين بما تعلّمناه بعيدا عن الضغط والإكراه بل بالإقناع التام.
اضف تعليق