إن العلم لابد أن يتمخض عن نتائج عملية ترتقي بالناس وبحياتهم و واقعهم، لأن العلم يجب أن يقضي على الجهل ويخلص الناس من الكسل، وأي علم لا يقارع الجهل والكسل ليس بعلم نافع، وما يحتاجه الناس هو ما يرتقي بهم من حيث التفكير والتطور وتحويل كل المعلومات الجديدة...
(من يتصدّى لرفع الجهل له مقام عظيم جدّاً عند الله تعالى)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
تحدثنا وكتبنا كثيرا عن الجهل وخطورته، وفي نفس الوقت ذكرنا كثيرا أهمية العلم في شقين، الأول نتعلم العلم، والثاني نعلمهُ، وعلينا أيضا أن نُقرِن العلم بالعمل، فلا فائدة من علم دون أن يتمخّض عنه عمل واضح ومفيد، فالعمل الناتج عن العلم دليل قاطع على إلحاق الهزيمة بالجهل، وهذا هو سر تقدم الناس والأمم.
رسول الله صلى الله عليه وآله، أعطى لأمته دروسا عظيمة في هذا الباب، ولكي يثبت أهمية العلم وطرد الجهل، فضّل العلم حتى على العبادة، وأكّد أن العبادة مهمة و واجبة، ولكن من الأفضل أن تقترن بالعلم والمعرفة، ولهذا علينا جميعا أن نفهم لاسيما في عصرنا الذي نعيشه اليوم، بأن الجهل هو السبب الأول في تخلف المجتمعات، وأن العلم هو المخلّص الأول من الجهل، بشرط أن يواصل المتعلّم تعليمه للآخرين.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقدّم لنا مثالا من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله، ذكره في محاضرة قيمة ضمن سلسلة محاضرات (نبراس المعرفة) حيث قال سماحته:
(ذات مرة دخل رسول الله إلى المسجد، فرأى الناس يجتمعون في مجلسين. جماعة منهم تجلس في جانب من المسجد، وتدعوا الله تعالى وتتضرّع إليه، وجماعة أخرى تجلس في جانب آخر لطلب العلم وتحصيله. فقال الرسول صلى الله عليه وآله: كِلا المجلسين إلى خير، أما هؤلاء فيدعون الله، وأما هؤلاء فيتعلّمون ويفقّهون الجاهل).
ثم أشار صلى الله عليه وآله إلی مجلس المتعلّمين وقال: (ولكن هؤلاء أفضل). ثم بعد ذلك قال: (بالتعليم أُرسِلتُ، ثم قعد معهم).
فإذا كان الرسل والأنبياء، وعلى رأسهم رسول الأمة النبي محمد صلى الله عليه وآله، أُرسِل للبشر كي يعلمهم العلم، ويخلّصهم من الجهل، فهذا دليل قاطع على أن الله تعالى يفضّل العلم أكثر من الدعاء ومن العبادة أيضا، لأنه الدواء الناجع للجهل، وزوال الأخير يقرّب الإنسان من العبادة ومن الدعاء، ويجعله عارفا وعالِما بالعبادة ومضامين الدعاء، والعابد العارف خير من العابد الذي يجهل عبادته وأحكامه الشرعية ومعاني دعائه.
هذه الأهمية الحاسمة للعلم، جعلت الرسول صلى الله عليه وآله، يفضله ويضعه في المرتبة الأولى من حيث الأهمية والفائدة التي يحصل عليها العباد.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(كان النبي يحبّ مجلس العلم أكثر من مجلس الدعاء والعبادة، ولذا قال: (إنّي أرسلت بالتعليم)، لكي أعلّم الجاهلين من الأمّة).
الصراع الأزلي بين العلم والجهل
أما الصراع الذي دار بين الجهل والعلم، فقد بدأ منذ أن عرف الإنسان التجمعات السكانية، حيث بدأت معارف الناس تتفتح، وصاروا يعرفون ما هو أفضل لهم، وتطور الجانب المعنوي والعقلي لديهم، وصارت الرسالات النبوية المتواترة مصابيح علمية تصارع الجهل، وتفتح آفاق المعرفة أمام العقول، فكان الصراع بين العلم والجهل مستمرا ومحتدما.
لهذا دأب الأنبياء (عليهم السلام) بحمل الرسالات السماوية، وبثها بين الناس، لكي يتخلصوا من الجهل المهيمن على عقولهم من خلال العلم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(في الواقع، إنّ الهدف من بعثة الأنبياء هو رفع الجهل عن الجاهلين من الأمّة، فالجهل مصدر لكثيرٍ من المعاصي والموبقات، وسبب لإبطال الكثير من العبادات).
هكذا يمكننا أن نحسم النتيجة لصالح العلم، حتى لو كانت المفاضلة مع العبادة أو مع الدعاء، وهذه الأفضلية للعلم لا تعني انتقاصا من مكانة الدعاء، لأن الله تعالى ذكر قيمة الدعاء بشكل واضح عبر الآية الكريمة (قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم).
ولكن مع هذه المكانة العظيمة للدعاء، يبقى العلم هو المتصدّر، إذا تمخّض عن عمل نافع، فالعمل يناقض الكسل ويقضي عليه، مثلما العلم يحارب الجهل ويحرر العقل من جبروته القاتم، لذا لابد أن يتّجه الإنسان لمقارعة الجهل، ويخصص له وقتا واهتماما وتركيزا، يفوق ما يخصصه للعبادة والدعاء رغم أهميتهما الكبيرة، لأن قيمة العلم والعمل أكبر.
يذكّر سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بهذه النقطة فيقول:
(الذين يتصدّون لرفع الجهل هم أفضل بكثير من أولئك الذين يعبدون الله ويدعونه، وهذا الأمر ليس من جهة تقليل شأن الدعاء، لأن الدعاء له مقام عظيم، حيث قال تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ).
ولأن العلم ينظف العقول، ويشحذ الهمم، ويقود إلى العمل، وينبذ الكسل، فهذه السلسلة من النتائج الإيجابية تجعل الإنسان الذي يعلّم الناس ويضيء لهم دروب المعرفة أكثر وأعلى منزلة من ذلك الإنسان الذي يدعو بدلا من أن يلج مسالك العلم.
سلسلة النتائج الإيجابية للمعرفة
وهذا هو السبب الذي جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، يميل إلى يحبون العلم ويعلمون للآخرين، أكثر من أولئك الذي يذهبون نحو الدعاء، وهذا يثبت بشكل قاطع أن المتعلّم والمعلّم هما أولوية بالنسبة للدين، كونهما المرتكز والقاعدة القوية التي ينطلق من المجتمع نحو البناء العلمي المعرفي المقارِع للجهل، والداعي إلى العمل المستدام.
هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حين يقول:
(الدعاء إذن له منزلة عظيمة، ولكن من يُعلّم ويهدي الناس ويرشدهم، له منزلة أكبر وأعظم ممن يدعو بالدعاء. ولذلك فإن الرسول الأكرم لم يجلس مع الذين يدعون الله، بل جلس مع الذين يعلّمون الناس العلم ومع الذين يتعلّمونه).
من القضايا التي قد تكون غائبة عن أذهان الناس قيمة العمل المصاحب للعلم، ليس من حيث النتائج المادية الملموسة في الواقع، لأن هذا الواقع يفضح قيمة العلم الخالي من العمل، ويجعله غير ذي فائدة ولا قيمة كونه (علم بلا عمل)، وإنما هناك خلل في الجانب المعنوي والروحاني أيضا.
فمن يغوص في العلم ولا ينتج عن ذلك عمل ملموس سوف يبتعد عن الله تعالى، وينتكس معنويا، بمعنى أوضح حين يكون عملك بلا عمل فهذا يجعلك أكثر بعدا عن الله تعالى، ويمكن ملاحظة هذه الحقيقة، حين نتفحص حركة المجتمع، فهناك أناس يرون أنفسهم علماء لكن الناس يرونهم غير ذلك، لأن علمهم يبقى في دائرة مغلقة، لهذا لو فإن علمهم يكون مقرونا بالضرر عليهم وعلى الآخرين.
نجد ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (علم ليس معه عمل لا يزيد صاحبه إلاّ بُعداً عن الله تعالى)، فلو لم يكن لمثل هذا الشخص علم لكان أفضل إليه، من أن يكون عالماً جاهلاً يتسبّب في ضلالة نفسه والآخرين).
ويضيف سماحته قائلا: (لهذا نرى الأصحاب المخلصون للنبي والأئمة، مع أنهم لم يكونوا جميعاً مُتفرّغين للتعلّم من رسول الله وأهل بيته الأطهار، لانشغالهم بالكسب وأمور أخرى، لكنّهم كانوا يتحيّنون الفرص لكي يتعلموا من فيض علمه ويعلمون الآخرين من ذلك).
خلاصة الكلام إن العلم لابد أن يتمخض عن نتائج عملية ترتقي بالناس وبحياتهم و واقعهم، لأن العلم يجب أن يقضي على الجهل ويخلص الناس من الكسل، وأي علم لا يقارع الجهل والكسل ليس بعلم نافع، وما يحتاجه الناس هو ما يرتقي بهم من حيث التفكير والتطور وتحويل كل المعلومات الجديدة التي يتعلمونها إلى عمل مفيد يطور حياتهم وعقولهم وتصوراتهم.
اضف تعليق