q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

قراءة تحليلية في حديثٍ نبويٌ شريف

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

ونحن نعيش ذكرى استشهاد النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنما المطلوب منا أن نتعمق في الأحاديث النبوية، ونقرأ مضامينها، وتفاسيرها كذلك، ونتأملها بعمق، لأنها في الحقيقة تجعلنا في نور الله، ومن يكون في نور الله سوف يفوز بالرحمة الإلهية إلى الأبد...

(إذا كان الإنسان في نور الله عزّ وجلّ فلا يزلّ ولا ينحرف ولا يطغى)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

في مستهلّ هذه المحاضرة القيمة، يقرأ سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) نص الحديث النبوي الشريف الذي جاء فيه: (روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: أربع من كنّ فيه كان في نور الله الأعظم ... ومَن إذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون). ثم يقدم سماحته رؤية تحليلية وافية تبسّط معنى الحديث الشريف حتى يكون في متناول الجميع من حيث الفهم والاستيعاب.

والحديث نفسه يتعلق بعلاقة الإنسان مع نور الله، وهل هو يقع في منطقة هذا النور أم خارجها، وما الذي يحدث إذا كان الإنسان في نور الله، وما هي المزايا والفوائد التي يحصل عليها إذا كان في نور أو داخل بقعة الضوء الإلهية (نور الله)، ثم ماذا يحدث لو أنه حُرِم منها وظل تائها خارجها، فمن يقبع بعيد خارج نور الله يبقى في حالة تيه وضياع طالما كان على قيد الحياة، أما من ينعم في هذا النور، فإنه سوف يكون من الفائزين على النفس الأمارة بالسوء.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في رؤيته التحليلية:

(إذا كان الإنسان في نور الله عزّ وجلّ فلا يزلّ ولا ينحرف ولا يطغى ولا تسيطر عليه نفسه الأمّارة بالسوء، ولا يسمح للشيطان أن يغويه، وتكون الدنيا بنظره كأهون ما يكون، لأنه يرى بهذا النور حقائق الأشياء، كما يرى بالنور المادّي الأجسامَ ويميّز بعضها عن بعض، فيُقبل على ما يرغب منها ويُدبر عمّا يكره).

إن الإنسان بهذا المعنى يرى ما يقع خلف السطور كما يُقال، ويكتشف المعاني، ولا يغفل عن شيء لأنه موجود في نور الله، وأن هذا النور يكشف له حقائق الأشياء كلها، فيعرف الجيد منها والرديء، ويعرف الطيب منها والخبيث، ويعرف ما ينفعه منها وما يضرّه، لهذا يكون من الناجين لأنه يتنعّم بنعمة نور الله.

مائدة النور والظلام

ويضرب لنا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) مثلا واقعيا، فإذا جلس الإنسان على مائدة كي تناول الطعام وكان الظلام يحيط به ويمنعه عن رؤية شكل الطعام ونوعه، فهل يستطيع تناول الأكل باطمئنان، أم أنه يبقى في حالة توجّس وقلق من أن هذا الطعام قد يكون شيئا يضرّ به، وكم هو الفارق كبير حين يُسكَب الضوء على المائدة، فيرى الإنسان الطعام بأدق تفاصيله، ويتناول أكله باطمئنان وشهية، كل هذا يحدث بوجود النور أو بفقدانه.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إنّ مَن يجلس على مائدة في ظلام لا يعلم بما وُضع أمامه هل هو من الأطعمة أم لا؟ فقد يمدّ يده وإذا بعقرب أو حشرة ضارّة أو سمٍّ وجدَ طريقه عمداً أو خطأً إلى مائدته فيتناوله وهو لا يعلم. أما الجالس في النور فهو يرى الطعام الذي أمامه فيميّزه عن غيره ولا يمدّ يده إلى ما يشكّ أو يحتمل الضرر فيه، وهكذا الحال في المعنويّات؛ إن لم يكن الإنسان في نور الله تعالى، فسيكون في تيه وظلام وحيرة وضلال وإن كان لا يدرك ذلك ويتصوّر نفسه عارفاً بما حوله).

إن نص هذا الحديث النبوي (إنا لله وإنا إليه راجعون) يضع الإنسان في منطقة النور الإلهي، وبذلك سوف يمنحه القدرة على معرفة ما يضره وما ينفعه، وسوف يكون قادرا على التمييز بين ما يلحق به الأذى وبين ما يقوّم شخصه وحياته في نفس الوقت، كذلك يفهم الإنسان الذي يتمتع بنور الله كيفية استثمار لحظات ودقائق عمره بما يصبّ في صالحه.

على العكس من الإنسان الذي يفتقد لنور الله، فهو كالأعمى بل وأشد من ذلك، لأنه سوف يكون مطيّة لنفسه، تركبه وتذهب به معصوب العينين إلى ملذاتها ورغباتها، وطغيانها واستئثارها، وتجعله تابعا لها لأنه يقع في منطقة الظلام، فيكون مطيعا لها، لتأخذه إلى اسوأ الأفعال والمآرب، أما من يفوز بنور الله فإنه في مأمن من كل أخطار النفس وعدم المعرفة.

كذلك فإن الإنسان الذي يفوز بنور الله سوف يسيطر على نفسه تماما، ولا يحب الدنيا، ولا يقترب منها ومن أحابيلها، وزخرفها، إنه الإنسان المؤمن الواثق الرائي الذي يرى العيوب والذنوب على حقيقتها، فيبتعد عنها كل الابتعاد، لأنه يعرف تمام المعرفة ما هي نتائج السير في طريق النفس الأمّارة، وكل ذلك بفضل النور الرباني الذي أفاض عليه بالهداية والمعرفة.

لابد أن نكون في نور الله

هذا هو الفارق الكبير بين الأعمى، وبين الرائي، الأول يكون في نور الله، والثاني يحرم نفسه من هذا النور الإلهي، بسب عصيانه وجهله وسيطرة نفسه عليه، فيكون تابعا لها، مطيعا لأوامرها، وهذه الأوامر في الغالب تصب في صالح أهواء النفس وملذاتها ومآربها الخبيثة، ولا يتردد الإنسان (أعمى العين والبصيرة) من أن يكون تابعا ذليلا مأمورا لنفسه.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(إنّ الحديث النبوي الشريف الذي افتتحنا به الموضوع يخبرنا أنّ قول: ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾ يجعل الإنسان في نور الله تعالى أي أنّ الله يمنحه النور ليرى ما ينفعه وما يضرّه، وفيم يصرف عمره، وكيف يعاشر الناس، وكيف يسيطر على نفسه وشهواته، وكيف يتخلّص من حب الدنيا وزخارفها، بل كيف يستطيع أن يعرف ما هو اللائق فيُقبل عليه وما هو المذموم فيصدّ عنه، لأنّ هذا هو حال الإنسان الذي في نور الله عزّ وجلّ).

بالطبع ليس المعني من هذا الحديث الشريف أن يلفظه الإنسان لفظا فقط، ولا تكمن الفائدة من هذا الحديث باللفظ المجرد فقط، وإنما على الإنسان أن يشعر شعورا كاملا متكاملا بكلمات هذا الحديث وبالمعاني التي تتجلى فيه، كذلك عليه أن يشعر بمعاني ومضامين الحديث من أعمق أعماقه، وعليه أن يؤمن بأنه لا يملك أي شيء بل الملك كلّه لله.

فإذا آمن الإنسان من أعماقه، بأنه لا يملك شيئا من (ممتلكاته المختلفة) وأنها تعود لله تعالى، هو جلّ جلاله مالكها الحقيقي، حينئذ سوف تتجسد فيه جملة ومعنى (نور الله) الذي يجعله مؤمنا بأن الله تعالى هو المالك الأوحد لكل ما يملك وما يمتلك.

يركز سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على هذه النقطة فيقول:

(ليس المقصود من الحديث الشريف أنّ مجرّد تلفّظ (إنا لله وإنا إليه راجعون) يجعل الإنسان في نور الله، بل الشعور بها وإنشاؤها من أعماق القلب، وذلك باستحضار الإنسان القائل لها أنّه ليس مالكاً لنفسه ولا لسانه وبصره وسمعه ولا لما بحوزته من أموال وعلاقات وشخصية وعلم وغيرها، بل يقول لنفسه: هذه كلّها لله، والله سبحانه جعلها تحت تصرّفي لينظر كيف أعمل. فالملك لله وحده وليس لي).

خلاصة القول، ونحن نعيش ذكرى استشهاد النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنما المطلوب منا أن نتعمق في الأحاديث النبوية، ونقرأ مضامينها، وتفاسيرها كذلك، ونتأملها بعمق، لأنها في الحقيقة تجعلنا في نور الله، ومن يكون في نور الله سوف يفوز بالرحمة الإلهية إلى الأبد.

____________________
المصدر: كتاب نفحات الهداية لسماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)

اضف تعليق