طالما كانت معرفة الله تعالى أفضل المعارف، فكان على الإنسان أن يمضي قُدُما في هذا الطريق، من خلال توسيع معارفه كي تكبر مداركه، ويصبح قادرا أكثر فأكثر في معرفة الحدود والأحكام والعبادات وشروطها، فهذه الأمور كلها تعمّق لديه المعرفة بشكل عام والمعرفة بحدود الله بشكل خاص، وهذا الأمر يسمو به عاليا من خلال المعرفة المتوقدّة...
(إن الإنسان العارف حقّا لا يرتكب الخطيئة)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
المعرفة ببساطة هي أن تعرف ما هو مختفي من الأشياء، وتفهمه وتفهم ظاهره أيضا، وهذه المعرفة يمكن أن تتحقق للإنسان عبر وسائل عديدة يستطيع أن يحصل عليها ويلم بها مع مرور الوقت، أي مع تراكم الخبرات تتضاعف المعرفة، ويصبح الإنسان أكثر فهما ومعرفة بالأشياء التي يحتاج إلى فهمها ومعرفتها، وهي متنوعة ومتشعبة وكثيرة.
العلماء المعنيون يفسرون المَعرِفَة على أنها الإدراك والوعي وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرد أو بطريقة اكتساب المعلومات بإجراء تجربة وتفسير نتائج التجربة أو تفسير خبر، أو من خلال التأمل في طبيعة الأشياء وتأمل النفس أو من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين وقراءة استنتاجاتهم. كما أن المعرفة ترتبط بشكل أو بآخر بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات وتطوير التقنيات أيضا.
والمعرفة أنواع فهناك معرفة الذات، ومعرفة الآخر، ومعرفة الخارج، ومعرفة الأشياء، ومعرفة المضمَر والمجهول، وهذه كلها تحتاج إلى جهود عقلية حثيثة حتى يمكن للإنسان بلوغها وتحقيقها، وفي هذا المقال نسعى إلى تحديد ماهية المعرفة المعنوية التي يمكن أن ترتقي بالإنسان وتسمو به إلى مراتب عالية.
وكما ذكرنا أن المعرفة أنواع، وما يهمنا هنا المعرفة بالله تعالى وبالحدود التي وضعها سبحانه، ومن ثم بالكيفية التي يحصّل فيها الإنسان هذه المعرفة، ومن ثم ما هي النتائج التي يحصل عليها من معرفته لله تعالى، ولابد أن نذكر هنا بأن المعرفة لها درجات ومراتب، وإن أكثر علوّا وسموّا هي معرفة الذات الإلهية معرفة ترتقي بالإنسان إلى أعلى المراتب.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ ( يا أبا ذر):
(إنّ للمعرفة درجات ومراتب، وإنّ المعصومين يتمتّعون بأعلى الدرجات وأسمى المراتب الخاصّة بمعرفة الله المتعال).
الإنسان العارف لا يرتكب الخطيئة
وهناك مزايا كثيرة يستطيع الإنسان كسبها من خلال المعرفة، ومن هذه المزايا وقد تكون أهم المزايا أن المعرفة تحمي الإنسان من ارتكاب الخطيئة، وعدم الوقوع في الخطأ، لأن المعرفة تجعل العقل أكثر استقرارا وتوازنا، وتساعده على اتخاذ القرارات الصحيحة في التفكير والسلوك، لذلك إذا كان الإنسان ذا معرفة فإنه لن يُقدِم على الخطيئة، وبالتالي يكون ذا مكانة عالية سواء في بيئته الاجتماعية أو العملية، بالإضافة إلى المكسب الأخروي.
المعرفة هنا تساعد الإنسان على أن يحقق نجاحا مزدوجا، دنيويا و أخرويا، أما لماذا لا يرتكب الإنسان العارف الخطيئة، فلأنه يدرك حقيقة الله تعالى ويعرفه تمام المعرفة، وهذه ميزة أخرى يكسبها الإنسان العارف، ولأنه يعرف ربه جيدا فإنه يمتنع عن اقتراف الخطأ خجلا من ربه الذي يعرفه جيدا، فيبتعد عن الزلل خجلا وحياءً، وهذا من مزايا المعرفة الأساسية.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ الإنسان العارف حقّاً لا يرتكب الخطيئة، لأنّه يدرك حقيقة الله وشأنه، ويلفّه الحياء والخجل من أن يرتكب ذنباً في محضر ربّه).
ومن المزايا المهمة للمعرفة حين يتحصّل عليها الإنسان، منعها له من السير في مسارات الانحراف، فالمعرف تمنع الإنسان من أن ينحرف، لأنها تغلق أمامه هذا النوع من الأبواب، أي أن أبواب الانحراف تكون مغلقة أمام الإنسان الذي يكتسب درجات عليا من المعرفة، وبهذا فإنه لن يقترب من الآثام بأنواعها، ولا يدنو من المحرّمات، ويجد نفسه مصانة من الحرام بقوة وعمق وسلاح المعرفة.
كأنه يتشابه في ذلك مع الإنسان الذي يقي نفسه من الوقوع بالمرض، فمن يريد أن يحمي نفسه من الأمراض ويحمي جسده من الترهّل والبدانة العالية التي تجلب له الأمراض القاتلة، فإنه يحمي نفسه من خلال وضع البرنامج الغذائي المتوازن، وهكذا هو الإنسان الذي يسمو بالمعرفة، فإنه يحمي نفسه من الانزلاق في الخطيئة من خلال معرفته المسبقة بالنتائج السيّئة والمؤذية التي ستنتج عن ارتكاب الخطأ والحرام.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ جميع الطرق التي تؤدّي إلى ارتكاب المآثم والانحراف البشري تنغلق وتنقطع عند المعرفة، فيُمنح صاحبها حياة شبيهة بحياة المعصومين، تماماً كما أنّ التعرف إلى الحالة البيئيّة أو الطبيعيّة لبدن الإنسان تدفعه في معظم الأحيان إلى انتهاج سبيل الاعتدال والوقاية الصحيّة فيما يخصّ أمور التغذية، ليكون في منأىً عن الأمراض).
وكما ذكرنا في أعلاه فإن المعرفة يمكن أن تكون مادية، وكذلك هنالك معرفة معنوية، وهذا النوع من المعرفة له دور كبير في حماية الجوانب الروحية للإنسان، ومن ثم تحميه من الأمراض الروحية التي قد تكون أصعب من الأمراض الجسدية المعلومة أو المتعارف عليها، حيث تتم معالجتها بالعقار أو المضادات الحيوية أو الأدوية المعروفة، لكن المشاكل الروحية تكون غامضة وغير مفهومة وعلاجها يكون أصعب، ويكمن دواؤها في المعرفة المعنوية.
تحصيل المعرفة المعنوية والمادية
ومثلما تقي العلاجات الملموسة الأمراض المعلومة، فإن المعرفة المعنوية تعالج الأمراض غير المرئية وغير الملموسة، وهي (الأمراض النفسية، وليس الجسدية)، وهكذا يمكن أن ينجو الإنسان العارف، ويقي نفسه وروحه من الوقوع في أمراض روحية مستعصية من خلال المعرفة المعنوية.
يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) هذا الأمر في قوله:
(إنّ المعرفة المعنويّة تنجي أو تقي المرء من التعرّض للأمراض والمشاكل الروحيّة).
وهنالك أيضا المعرفة الواقعية، وهي التي يطل من خلها الإنسان على الواقع بصورة صحيحة ومتوازنة، ليس فيها مغالاة أو تضخيم أو تعتيم، أي يعرف الإنسان واقعه بصورة جيدة ويفهمه بصورة مناسبة لكي يتحرك فيه بطريقة آمنة، فالإنسان يحتاج إلى أن يعرف أين مكانه في هذا العالم وما هو واقعه وما تفاصيل هذا الواقع؟
ومتى ما أتقن معرفة هذا الواقع صار في مأمن من الناحية المعنوية والروحية وحتى المادية، فتستقر نفسيته، وتطمئن روحه، ويصبح عقله متوازنا، كل هذا لأن الإنسان أصبح عارفا لواقعه، ومكتسبا للمعرفة المعنوية، والمادية، وبهذا لا يمكن أن ينحدر في مسار الانحراف، لأن عقله يعرف الأبواب التي تقوده إلى الطريق المستقيم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حول هذه النقطة:
(متى ما حصلت المعرفة الواقعيّة، أصبحت روح الإنسان وقواه العقليّة وحتَّى المادّية في مأمن من الوقوع في طرق ومهاوي الانحراف).
وطالما كانت معرفة الله تعالى أفضل المعارف، فكان على الإنسان أن يمضي قُدُما في هذا الطريق، من خلال توسيع معارفه كي تكبر مداركه، ويصبح قادرا أكثر فأكثر في معرفة الحدود والأحكام والعبادات وشروطها، فهذه الأمور كلها تعمّق لديه المعرفة بشكل عام والمعرفة بحدود الله بشكل خاص، وهذا الأمر يسمو به عاليا من خلال المعرفة المتوقدّة.
ومن المهم أن يستمر الإنسان في تطوير هذه المعرفة، حتى يضمن لنفسه مكانة عالية ومرتبة عليا سواء في الدنيا التي يعيشها اليوم، أو في الآخرة التي تترقب قدومه إليها، وشتان بين من يُقْدِم وهو محمّل بأعمال الخير والمعرفة المعنوية العالية، وبين إنسان محمّل بالجهل وارتكاب الحرام بسبب ضعف المعرفة المعنوية، وانشغاله بملذات الدنيا ومغرياتها.
لذا يحذر سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) من هذه المشكلة فيقول:
(من هنا كان من المفروض على الإنسان أن يسعى دائماً لتوسيع دائرة فهمه وأفق وعيه فيما يتعلّق بالربّ الواحد الأحد، وبعبادته وبشروطها، وينبغي أن يسير ضمن عملية تطوّر متواصل) في هذا المجال.
علينا إذًا بتحصيل المعرفة، فهي التي ترتقي بناء إلى مراتب عليا تحمينا من السقوط، وتغلق أمامنا أبواب الشر، ونوافذ السوء التي تجعلها المعرفة مغلقة على الدوام، وبهذه الطريقة كلما ازدادت المعرفة بالله صرنا أكثر أمانا وسعادة واطمئنانا.
اضف تعليق