إشاعة السلوك اللطيف بين الناس، والسعي لمحاصرة مشاعر الكراهية والعنصرية، والسعي إلى نشر السلوكيات التي حثّ عليها الإسلام، وفي مقدمتها اللين واللاعنف والرحمة والتعاون، ونشر القيم التي تزيد من تماسك وترابط الناس مع بعضهم، في علاقات اجتماعية متينة قائمة على رفض السلوك الفظ، والابتعاد عن الألفاظ الخشنة...
(لا ينبغي للمؤمن أن يكون فظّاً، ونظرته يجب أن تكون نظرة لطيفة ودودة)
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)
المعني الحرفي في قواميس اللغة لمفردة فَظَاظَة: هو خُشُونَةً فِي الْكَلاَمِ، وسُوءَ الْخُلُقِ، أما توصيف الفظاظة وتسمى أيضًا الوقاحة، فهي نوع من عدم الاحترام، وذلك بعدم الامتثال للمعايير الاجتماعية أو آداب جماعة أو ثقافة ما.
وقد (تشكّلت فظاظة بانحراف عن أي شيء يعتبر مقبول في سياق اجتماعي معين، وهي بطبيعتها مواجهات بطريقة عدوانية وتسبب خللا في التوازن الاجتماعي. وحين يختلّ التوازن الاجتماعي فإن الجميع سوف يتضرر، وغالبا ما يحدث هذا النوع من الاختلال عندما تضمحل القيم، وتتراجع الأخلاق الحسنة، وتسود الفظاظة في العلاقات الاجتماعية وفي التعاملات المختلفة في حياة المجتمع.
فمن يسعى لصنع مجتمع متوازن اجتماعيا، عليه أن يعدّ العدة لمواجهة الفظاظة، والتقليل منها، ومحاصرتها كسلوك ظاهري أو باطني، لأن الفظاظة لها طريقان للوجود، فأما أن تكون ظاهرة للعيان من خلال السلوك الفظ لأحدهم تجاه آخر، وأما أن تكون باطنة تقبع داخل الإنسان لأنه يحاول أن يقمع ظهورها للناس لأسباب سنأتي عليها لاحقا.
لماذا تشكل الفظاظة خطرا على الفرد والمجتمع، لأنها ببساطة تهدد تماسك النسيج الاجتماعي، وتساعد بقوة على شيوع السلوك العنيف، واللفظ النابي، وهذه الأمور من العوامل المساعدة على إضعاف الوشائج والأواصر الرابطة بين أفراد المجتمع، وتقوية العلاقات المختلفة التي تُسهم في قوة المجتمع واستقراره وتطوره.
من الحالات الجيدة التي يتسم بها الناس، كبحهم للفظاظة أثناء تعاملهم مع الآخرين، فهناك أناس لا يمكن أن تظهر في وجوههم الفظاظة ولا الانزعاج، فهل هذا يعني إنهم لا يتعرضون إلى مواقف مؤذية ومزعجة؟، كلا بالطبع فهناك من يتعرض للأذى المعنوي واللفظي لكنه يكون حريصا على عدم إظهاره للفظاظة في الرد أو في التعامل مع الآخر.
كبت الانزعاج ليس نفاقا
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيم، الموسوم بـ (يا أبا ذر):
(إنّ الرسول المصطفى كان رغم ما قد يتعرّض لما يزعجه ـ وهو كثير جداً ـ يحفظ احترامه في الظاهر، ولا شكّ أنّ هذه الصفة ليست نفاقاً أو مجرّد تظاهر، بل هي من خصائص وفضائل المؤمنين، وقد جاء في كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه: المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه).
من القضايا والسمات المهمة التي من الأفضل للإنسان أن يتسم بها، هي عدم إظهار كل ما في سريرته من مشاعر أو مواقف مختلفة، لأن إظهار الانزعاج من الآخر يتسبب في حالة من التوتر، وعدم الثقة، وربما يتصاعد الموقف المتبادَل ويتأجج، لذلك فالإنسان الخلوق والمتوازن هو من يكبح مشاعر الانزعاج إزاء الآخر حتى لو كان من حقه ذلك.
ويوجد لدينا النموذج الذي يمكن أن نتأسى به في مثل هذه القضايا، فالرسول (صلى الله عليه وآله)، ما كان يُظهر انزعاجه من أحد، على الرغم من كثرتهم، بل كان (ص) يتحاشى المشاعر التي تبيّن مواقفه تجاه الآخرين إذا بدرت منهم إساءات.
هذا السلوك النبوي ينبغي أن يكون درسا لنا في التعاملات المتبادلة في علاقاتنا ونشاطاتنا المختلفة، فالحفاظ على كرامة الآخر أمر في غاية الأهمية، حتى لو بدرت منه الفظاظة، أو أظهر نوعا من العنف اللفظي في حديث وحواره، لأن الفظاظة غالبا ما تشحن الأجواء بالكراهية، وبالمشاعر السوداء والمواقف المتشنجة، لذا من المهم أن يتماسك الإنسان المؤمن، ويضع بينه وبين الفظاظة حاجزا يمنع ظهورها إلى العلن.
مطلوب من الإنسان المؤمن أن لا يستاء بشكل واضح وظاهر من الآخرين، حتى لو كانت مواقفهم وأفعالهم وكلامهم يستحق الردع، أو الرفض، أو التوبيخ، أو الرد بخشونة، فمن صفات المؤمن المهمة أن يكون هادئا سمحا بشوش الوجه في أصعب الظروف والمواقف.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لا يجدر بالإنسان أن يظهر على لسانه كلّ ما في قلبه. فقد كان النبي صلى الله عليه وآله لا يحبّ العديد من أصحابه، وتارة يدلي ببعض الحديث لإتمام الحجّة، ولكنّه كان يهتمّ مطلق الاهتمام للمحافظة على كرامة الآخرين وصيانة الحدود، باعتبار أنّ الإنسان المؤمن لا يصحّ منه أن يبدي استياءه ـ بشكل مباشر على الأقلّ ـ لمن يشعر بالانزعاج تجاههم).
من الممكن أن نُظهر الانزعاج من الآخر إذا كان الأمر يدخل في باب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فالأفعال وحتى الأقوال المحرّمة يجب أن نقف بالضد منها بشكل علني، وهذا أمر صحيح ومتَّفق عليه، لكن الكلام يتعلق بالأمور والقضايا الأخرى التي لا تنطبق عليها قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إطفاء نيران الضغائن والأحقاد
هناك قضايا كثيرة ومواقف عديدة يمكن أن تتسبب في إزعاج الإنسان المؤمن، كأن يكون لا يحبذها بشكل شخصي لأسباب تتعلق بما يحب وما يكره، وهذا من حق كل إنسان، في هذه الحالة كلما تمكن الإنسان من عدم الرد بخشونة يكون موقفه أفضل وأكثر قبولا، كونه يُسهم بطريقة أو أخرى في إطفاء نيران الأحقاد والضغائن.
لهذا من الأفضل أن لا يُظهر الإنسان مواقف العداء للآخر بشكل مطلق، إذا كان السبب لا يدخل في باب التحريم، وهو أقوال وأفعال معروفة ومكرهة ومرفوضة شرعيا وأخلاقيا وعرفيا، لكن إذا تعلق الأمر بكتم مشاعر الكراهية ضد الآخر، فهذا من الأمور التي تحسّن من سمعة وشخصية الإنسان المؤمن.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّما الفضيلة تكمن في عدم إظهار - الانزعاج من الآخر- حتى آخر لحظة من لحظات العمر. أما إذا كان في الأمر ضرورة قصوى، كأن يكون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مما لا إشكال فيه).
إن البشاشة مطلوبة لكل إنسان مؤمن، بل كل الناس من الأفضل لهم أن يتحلوا بهذه الصفة، لاسيما أن الابتسامة واللطف والنظرة الودودة، كلها عوامل مساعدة على تقريب الإنسان من الآخرين، وتفضيلهم له على غيره من الناس، على العكس من الفظ، فإن الناس غالبا ما تتحاشاه وتهربُ منه لخشونة كلامه وطبائعه.
لذا يجب أن يسعى الإنسان إلى كسب هذه الصفات، وتدريب نفسه عليها، فالبشاشة والود واللطف والنظرة الكريمة، كل هذه الأمور من الممكن أن يتعلمها الإنسان من خلال تكرارها والتدريب عليها، وإتقانها وإن كانت تنطوي على صعوبة بدرجة معينة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) أشار إلى هذه النقطة قائلا:
(لا ينبغي للمؤمن أن يكون فظّاً، ونظرته يجب أن تكون نظرة لطيفة ودودة، وكذلك يجب أن يصطبغ حديثه بصبغة الليونة، وهذه الصفات بمستطاع الناس تحقيقها في أنفسهم، وهي قد تكون صعبة، ولكنّها غير مستحيلة).
خلاصة ما نريد الوصول إليه، هو إشاعة السلوك اللطيف بين الناس، والسعي لمحاصرة مشاعر الكراهية والعنصرية، والسعي إلى نشر السلوكيات التي حثّ عليها الإسلام، وفي مقدمتها اللين واللاعنف والرحمة والتعاون، ونشر القيم التي تزيد من تماسك وترابط الناس مع بعضهم، في علاقات اجتماعية متينة قائمة على رفض السلوك الفظ، والابتعاد عن الألفاظ الخشنة.
اضف تعليق