للإمام الصادق عليه السلام رسالة في غاية الأهمية، وجّهها إلى شيعته، وضمّن فيها الكثير من القيم والأخلاقيات العالية التي تساعد الإنسان على بناء شخصيته بطريقة متقنة، تسهم بدورها في بناء المجتمع أفضل البناء وأرقاه وأكمله، فالمجتمع حاصل جمع الأفراد، وإن صلح الفرد، فإن جمعه يعني صلاح المجتمع...
(لو عجز الإنسان عن التحكم بقلبه، فلَتَ منه زمام التحكّم بظاهره)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
للإمام الصادق عليه السلام رسالة في غاية الأهمية، وجّهها إلى شيعته، وضمّن فيها الكثير من القيم والأخلاقيات العالية التي تساعد الإنسان على بناء شخصيته بطريقة متقنة، تسهم بدورها في بناء المجتمع أفضل البناء وأرقاه وأكمله، فالمجتمع حاصل جمع الأفراد، وإن صلح الفرد، فإن جمعه يعني صلاح المجتمع، من هنا تأتي أهمية أن يربي الفرد نفسه على الوقار والسكينة والدَّعة كما ورد ذلك في رسالة الإمام الصادق عليه السلام لشيعته.
الدعة لها معان متعدّدة لكن أشملها وأوضحها تعني ابتعاد الإنسان عمّا يحتمل الأذى منه، وبذلك فإنه يغلق الأبواب بوجه الشرور ومصدرها.
في كتاب نهج الشيعة، تدبرات في رسالة الإمام الصادق عليه السلام إلى الشيعة، وهو من الكتب القيّمة لسماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، نلاحظ قولا للإمام الصادق عليه السلام في رسالته إلى أصحابه: (وعليكم بالدَّعة والوقار والسكينة).
ويشير المرجع الشيرازي (دام ظله) إلى أن الدَّعة: قيل: إنها الخفض والطمأنينة، ولكن لها معنى أشمل وهو الابتعاد عمّا يُحتمَل منه الضرر).
إذا تجنّب الإنسان ما يُحتمَل منه الأذى، فإنه مطالَب بالسكينة والوقار أيضا، وهذه صفات تبني شخصية الإنسان، وتصونها، وتجعلها أقرب إلى الله، فضلا عن كونها بعيدة عن الأخطاء، بسبب تحلّيها بالسكينة والوقار، وهما صفتان متلازمتان في الإنسان، بمعنى إذا تمكن الإنسان من إضفاء السكينة على قلبه، فإنه قادر على أن يُظهر الوقار في شخصيته، بسبب التلازم الحتمي بين السكينة والوقار.
وهذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في ضوء رسالة الإمام الصادق، قائلا:
(أما السكينة والوقار: فأحدهما متعلّق بالقلب وهي السّكينة، والآخر بظاهر الإنسان وهو الوَقار، فيقال لمن يحافظ على هدوئه لدى تناول طعامه أو عند حديثه أو مشيه أو استماعه أو نظره: إنه وقور).
ويضيف سماحته أيضا: (لا يُخفى أن السكينة متمّمة للوقار، ولا بدّ أن يكونا معا، فمن عادة الإنسان أنه لكي يحفظ كرامته، يسعى إلى حفظ وقاره، فإذا تحلى بالوقار، عليه أن يحكم الطمأنينة على قلبه، وهذا هو معنى السكينة، وإلا لو عجز الإنسان عن التحكم بقلبه، فلت منه زمام التحكّم بظاهره أيضا، وكذا هو العكس...).
عدم السيطرة على القلب من خلال إضفاء السكينة عليه، سوف يُظهر الاضطراب والقلق على هيأة الإنسان وسلوكه، لهذا يتلازم الوقار مع السكينة، لأن استقرار القلب يعني استقرار الإنسان حتى في مظهره وملامحه الخارجية، وهذه من الصفات التي يتحلى بها الإنسان المؤمن المطمئن الوقور.
الإنسان بين باطنه وظاهره
في أحيان معينة قد لا يتمكن الإنسان من السيطرة على (باطنه)، ونعني بذلك مشاعره وأحاسيسه وأفكاره غير المرئية، فإن فلت الزمام منه، وفقد السيطرة على قلبه ومكنوناته الباطنة، سوف يكون عرضة لمعرفة الجميع بحقيقته، أو بما يبطنه من مشاعر وأفكار ليست ظاهرة، لكنها يمكن أن تظهر عبر فقدان السكينة ومن ثم غياب الوقار.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إذا لم يستطع الإنسان كبح جماح باطنه ولم يسيطر على قلبه، ظهرت تأثيرات ذلك على ظاهره وعلم الجميع بحقيقته، ولا ينبغي أن يغترّ أحد بقوة إرادته، لأن هذه القاعدة تشمل الجميع).
لماذا يحثنا الإمام الصادق على بناء الشخصية المطمئنة الوقورة؟، لا بدّ من وجود أسباب مهمة تقف وراء ذلك، إن الإنسان المطمئن يحصل على الاطمئنان بسبب ثبات الإيمان في قلبه، وأن هذا يقوده إلى الظهور الحقيقي بمظهر الإنسان المتحلّي بالوقار، وبذلك سوف يكون نموذجا للآخر، كونه شخصية مستقرة ثابتة الجنان والإيمان والاطمئنان.
ومثل هذه الشخصيات الوقورة تكون محببة للناس، وتكون مثالا للجميع، فضلا عن كونها شخصية ملتزمة نموذجية صادقة، ينعكس سلوكها على الآخرين، وينغرس فكرها وأقوالها وأفكارها في أذهان القريبين منها لاسيما الشباب، لذلك يحث الإمام الصادق عليه السلام شيعته على التزام الهدوء والطمأنينة في ظاهرهم وباطنهم، لأن الباطن ينعكس على المظهر الخارجي، وطالما أن الإنسان المطمئن الوقور يؤثر بقوة في الآخرين، فمن الأهمية بمكان أن يكون الشيعة مطمئنين هادئين في داخلهم وظاهرهم أيضا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(في هذه الوصية يأمر الإمام الصادق عليه السلام شيعته بالسعي إلى التزام الهدوء والطمأنينة في ظاهرهم وباطنهم، ولا ريب أنَّ تحقّق هذا الأمر بحاجة إلى المراس والجدية، لأن التمرين لازم لكل أمر).
بعد أن فهمنا لماذا نحتاج إلى الهدوء والاطمئنان في شخصيتنا، علينا أن نعرف كيف نصل إلى هذا الهدف، وهو هدف مهم جدا في بناء الفرد أولا، ومن ثم بناء الأمة، فالإنسان الوقور يشي بسلوك وقور وفكر متنور وتعامل صادق، وشخصية يحتاج إليها الآخرون كي يتعلموا منها القيم والأخلاقيات التي تحمي حقوق الناس وتعمق العلاقات الاجتماعية وتزيد من متانة السلم الأهلي، وتنشر العادات الحسنة بين الناس.
حاجتنا للشخصية الوقورة المستقرة
وهو ما نحتاج له سواء في العراق، أو في المجتمعات والدول الإسلامية الأخرى، حيث العالم كلّه يمر في أزمة أخلاقية معقدّة، نحتاج فيها إلى الشخصية المستقرة الوقورة الملتزمة النموذجية، ويتم ذلك من خلال المراس والمران والتدريب المستمر لبلوغ هذه الشخصية، فكل الأمور التي يسعى الإنسان إلى بلوغها أو الوصول عليها، تحتاج إلى أن يتدرب عليها، ويصرّ عليها باستمرار وتكرار مستمر.
الوقار والسكينة صفتان مكتسبتان، ولا يكتسب أحدهما أو كلاهما من يتقاعس عن التدريب عليهما، وقد يقول قائل وهل أتدرب على أن أكون وقورا؟؟، وماذا في ذلك، نعم عليك أن تتدرب على أن تصبح شخصية وقورة، وتزرع الإيمان في قلبك لكي تبلغ درجة الاستقرار الباطني الذي ينعكس على مظهرك الخارجي، ويبقى الهدف حاجة الأمة إلى هذه الشخصية المبنية بالمراس والتدريب والإصرار على بلوغ الهدف.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(ينبغي لمن أراد التحلي بالوقار والسكينة أن يمعن في المراس والرياضة، ويبذل المزيد من السعي للاستقامة، فمن الأمثلة المعروفة التي عادة ما تذكر لطالب العلم لحثّه على طلب العلم في بداية التحاقه بهذا الطريق هي: أما ترى حبل الدّلو كيف أثّر في الصخرة الصمّاء؟، فمع أن حبل الدلو الذي يُستخرج به الماء من البئر منسوج من خيوط ناعم، وحافة البئر من الصخر الصلد، ولكن الحبل يترك أثره فيها، لكثرة مروره عليها والمماسّة بها.
والمراد من المثال: أن العلم ليس أكثر نعومة من خيوط الحبل، ولا ذهن طالب العلم أشد خشونة من صخرة البئر، ولذا بالتكرار والممارسة يستطيع الجميع أن يصبحوا علماء، والطلاب ملزمون بتكرار مطالعة الدروس ليصبح ذلك ملَكة لهم).
يتضح مما تقدَّم، أن التدريب يشمل كل شيء يريد أن يحصل عليه الإنسان، ولا يُستثنى من ذلك أحد، فمثلما يتدرب لكي يجعل من جسمه مفتول العضلات قويا، يمكنه أن يتدرب على الوقار وعلى السكينة وعلى الدَّعة، وهي صفات أكد عليها الإمام الصادق عليه السلام في رسالته إلى الشيعة.
كذلك فصَّل هذا الأمر وكيفية اكتساب هذه الصفات سماحة المرجع الشيرازي دام ظله، في كتابه القيّم (نهج الشيعة)، حيث تم تفصيل ما ورد في رسالة الإمام الصادق عليه السلام، والتدبّر في مضامينها، وفي جميع القيم والأخلاقيات التي تبني الفرد والأمة أفضل البناء.
اضف تعليق