حدد الامام الشيرازي معالم النظام السياسي الإسلامي باعتباره نظاما قائما على مبدأ "الشورى" وليس حكرا على جهة او حزب او تيار، لان الفردية غالبا ما تقود الامة نحو الدكتاتورية حتى وان كانت بواجهة إسلامية، في حين أكد ان الافراد في ظل النظام الإسلامي احرار في اختيار من يمثلهم...

كثيراً ما يدور الحديث حول الحريات التي منحها الإسلام في تشريعاته وقوانينه للأفراد وللمؤسسات بمختلف عناوينها، ومن ضمنها، وربما هي الأهم، الحريات السياسية باعتبارها الضامن لقيام نظام سياسي يحمي الحقوق ويكفل الحريات العامة ويطبق نظام الحكم من وجهة نظر اسلامية بصورة عملية على ارض الواقع.

وغالبا ما يثار النقاش حول نظام الحكم الإسلامي وحزمة الحريات السياسية الأساسية التي طرحها المشرع الإسلامي، بين مؤيد ومعارض، نتيجة لسببين رئيسين:

1. التشويه المتعمد من قبل جهات لا تريد ان تأخذ النظرية الإسلامية طريقها الى التطبيق لأنه سيتعارض مع مصالحها الشخصية، وسيطرتها على مقدرات الشعوب الأضعف وسيسلب منها القوة التي تتمتع بها في السيطرة على الاخرين، وكما عبر عنها المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي بقوله: "إنهم يرمون الإسلام بما فيهم، ويعزون إلى أنفسهم ما في الإسلام، عادة الذين لا يعلمون، ويقصدون من وراء هذا وذاك تشويه معالم الإسلام، وطمس مثله السامية، ومسخ قيمه الرفيعة، كي يتسنى لهم تقويض قيادته الحكيمة، وبعد ذاك يخلو لهم الجو، فيأخذون أزمّة العالم، ويستبدون بسلطانه، فتصبح لمة ممن لا يصلحون، سادة البحار، وجماعة من المرابين، كبراء التجار، وزمرة من الذين لا يؤمنون بالآخرة زعماء الجو والأقمار، وحفنة من كابتي الحريات حملة مشاعل الحرية".

"وقد جند الغرب والشرق، توصلا إلى مطالبهم المنحرفة، وتعزيزا لمكانتهم المسروقة، أقلاما مأجورة، وألسنة مزيفة لتشويه معالم الإسلام، ونسبته إلى الرجعية والجمود، وتوصيمه بأنه ليس إلا عبادة وطقوسا ومسجدا ومنارة، وبذلك أضلوا البشرية، وفيهم بعض المسلمين عن سواء الطريق، فأمسوا يتخبطون خبط عشواء، في متاهات الحياة المظلمة، وينسابون زحفا على البطون في ادغال الجور والعبودية".

2. بسبب التطبيق السيء لأنظمة وأحزاب وحركات تدعي اتباعها للنهج الإسلامي وهي في واقع الامر بعيده كل البعد عنه، "إن الجماعة التي تريد إرجاع الحرية إلى بلاد الإسلام -بما يرجع إليها من قوانين الإسلام- هم سبب فشل أنفسهم، قبل أن يكون السبب غيرهم من المستعمرين والحكام المرتبطين بهم، انهم يأخذون في التنظيم، والتأسيس، وجمع الناس حول أنفسهم، وإيجاد الحماس في الناس للعمل حتى يصلوا إلى شاطئ الإسلام بإقامة الدولة الإسلامية، ثم يأخذون في نقض كل ذلك (كالتي نقضت غزلها بعد قوة أنكاثا) فتراهم يبدلون النشاط بالكسل، وجمع الكلمة بالتفريق، والشورى بالفردية، وضرب الناس حتى يتحول حماس الناس إلى فتور، ثم الحماس المضاد ضدهم، وبذلك يصبحون جماعة من المغرورين الطعانين على الناس المهاجمين لغيرهم، ويرون أنفسهم فوق الآخرين علما وعملا وخدمة وفهما".

وقد حذر الامام الشيرازي (رحمه الله) من هؤلاء باعتبارهم السبب في تأخر بلاد الإسلام وجنوحها نحو الاستبداد والفردية فضلا عن ابتعاد الافراد وعدم رغبتهم في الأنظمة او الأحزاب الإسلامية بقوله: "ومن طبيعة الناس الفرار من امثال هؤلاء، فبينما كانوا في أول الأمر شجعانا يصبحون جبناء لأنهم يخافون على مكتسباتهم التي حصلوها، وبينما كانوا في أول الأمر يخدمون يصبحون يستخدمون وبينما كانوا في أول الأمر متواضعين، يصبحون متكبرين مغرورين، وبينما كانوا في أول الأمر اجتماعيين يصبحون انعزاليين إلى آخر القائمة، وهذا هو سر تأخر بلاد الإسلام يوما بعد يوم بينما تتقدم بلاد الغرب يوما بعد يوم، إن الجمود والكبر والتفرقة والاستبداد تجد سبيلها إلى العاملين منا، بينما نجد العكس في البلاد الغربية، لأنهم دائما في تنافس واستباق، ونحن -حيث الديكتاتورية والاستبداد- دائما في الفردية والتأخر".

لقد حدد الامام الشيرازي معالم النظام السياسي الإسلامي باعتباره نظاما قائما على مبدأ "الشورى" وليس حكرا على جهة او حزب او تيار، لان الفردية غالبا ما تقود الامة نحو الدكتاتورية حتى وان كانت بواجهة إسلامية، في حين أكد ان الافراد في ظل النظام الإسلامي احرار في اختيار من يمثلهم سواء على المستوى الديني او السياسي ولا اكراه او اجبار في هذا الامر، وعلى هذا الأساس قامت الحكومة الإسلامية في عهد الرسول محمد (صلى الله عليه واله وسلم) والامام علي بن ابي طالب (عليه السلام).

اما في الحديث عن الحريات الإسلامية اعتبر الشيرازي ان شأن القيادة الصحيحة للفرد والجماعة يتحدد في ناحيتين أساسيتين:

الأولى: من اللازم إطلاق الحريات وتوفير شرائطها.

الثانية: تحديدها بحدود الصلاح والحكمة.

وعلى هذا الأساس: "لاحظ الإسلام الناحيتين، ووضع الخطط العامة، للسير بالبشرية نحو التقدم والرقي، بدقة وإتقان، ليس هذا فحسب، بل وقف من الحريات موقف المدافع المحامي، حتى أن كل جمود وقصور-في نظر الإسلام- محظور، وكل تعدي وتجاوز حرام، ومن أراد الزيغ والتحوير، فالإسلام له بالمرصاد".

الحرية المسؤولة

من المهم ان يعرف الانسان ان قيمة الحرية عالية بمضمونها وتطبيقها، وان الحرية الحقيقية هي الحرية المسؤولة وليست المطلقة او الفوضى التي غالبا ما ترافق الانقلابات وتغيير الأنظمة السياسية والأنظمة الضعيفة والفاسدة وغيرها، ومن أقرب الأمثلة عليها ما رافق الإطاحة بنظام الاستبداد البعثي في العراق بعد عام (2003) من احداث، واحداث ما عرفت بـ"الربيع العربي" عام (2011) وما تلاها من فوضى شملت الشرق والمغرب العربي.

وكأن التاريخ يعيد كتابة نفسه بمحاكاة غريبة للأحداث خلاصتها ان السبب يؤدي الى ذات النتيجة، حيث أشار السيد الشيرازي الى الفوضى التي حدثت في وقته بعد الانقلابات وكيف يمكن تحديدها في إطار المعقول بعيدا عن الكبت على حد تعبيره: "ليس معنى الحرية الفوضى في النظام أو في القائمين بالنظام، كما وجدناها في أول الانقلابات التي حدثت في مصر والعراق وباقي البلدان، فان الناس اخذوا يعملون ما يشاءون حتى الأمور الفوضوية، كما أن الحكومات الانقلابية جاءت بأناس لا خبرة لهم إطلاق، بل ولا علم لهم أحيانا إلى المراكز الحساسة في الدولة، مما سبب تبعثر الأمور والخبال والفساد غير المتصور، بل الحرية معناها إطلاق تصرف الناس في إطار المعقول فاللازم جعل إطار للحريات، وليس ذلك بمعنى الكبت بل بمعنى أن لا يضر الإنسان نفسه ولا غيره، فمثلا الزراعة والتجارة والحيازة والصناعة حرة، لكن اللازم أن لا يزرع الزارع الحشيش الضار، ولا يتاجر التاجر بما يوجب الغش والاحتكار والربا، الأمور الضارة، ولا يحوز الحائز حق الآخرين".

معتبرا ان "الخط الفاصل بين الكبت والمسؤولية دقيق يجب أن تتضافر جهود المخلصين من علماء الإسلام الوعاة أهل الاختصاص من الدكاترة والمهندسين ونحوهم في صب الصيغة الملائمة المحددة بين (يضع عنهم اصرهم) وبين لا ضرر ولا ضرار".

حرية تشكيل الاحزاب

في تفصيل دقيق يقسم الامام الشيرازي تشكيل الأحزاب في الإسلام الى ثلاثة اشكال:

الأول: الأحزاب الإسلامية.

الثاني: الأحزاب الوطنية التي تتكون من اجل بناء البلاد على شرط ألا يخالف قانون الإسلام لا في برنامج عمله ولا في هدفه.

الثالث: الأحزاب للأقليات كالمسيحية واليهودية ونحوهما، فانهم لهم الحق في أن يعيشوا تحت ظل الإسلام في كمال الحرية والرفاه بشرط أن لا يخرجوا عن قوانين البلاد، كما أن كل فئة في الحكومات الديمقراطية كذلك فان الديمقراطية تعطي لهم الحق في أن يعيشوا بسلام بشرط أن لا يخرقوا قوانين البلاد".

القانون الاسلامي

يفرق الامام الشيرازي بين القانون الحقيقي النابع من روح الناس وحاجاتهم الحقيقية وبين القانون المزيف او الشكلي معتبرا: "إن القانون إذا لم يكن نابعا عن روح الناس واحترامهم العميق من جهة كونه نابعا عن دينهم ومعتقدهم، أو من جهة انهم وضعوه بملء إرادتهم واختيارهم الحر يهرب الناس منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وسياسة التجهيل والخداع والتضليل والدعاية لا تتمكن إقناع الناس باحترام القانون المزيف".

"ولذا نجد في بلاد الإسلام أن القانون أهون من النفايات، لا لان الناس لا يلتزمون بالقانون فحسب، بل نفس الموظفين يسحقون القانون لارتشاء أو واسطة، وبذلك لا تتمكن الحكومة من السير بالأمة إلى الأمام وليست لها محبوبيه حتى بقدر أنملة، وها هي في هذه الأيام تملأ وسائل الإعلام باسم (الزعيم المحبوب) لكن لا قيمة له في النفوس حتى بمقدار شعرة، ويضطر أن يركب السيارة ضد الرصاص إذا أراد السير في الشوارع، مع حماية مسلحة، فاللازم أن يكون القانون في بلاد الإسلام طبق الإسلام، وفي القانون الإسلامي حريات كثيرة لم يحلم بها حتى الغرب في أوج عظمته".

حرية المعارضة

في أي نظام سياسي ناجح لا بد من وجود معارضة قوية ومؤثرة وليست معارضة صورية لا وزن لها، وهي دليل على تعافي النظام السياسي ووجود الحريات العامة، لذلك يرى الامام الشيرازي ان المعارضة مسموح بها في ظل النظام السياسي الإسلامي ولم يتم كبتها او المساس بها: "لقد سمح النبي والوصي صلوات الله عليهما للمعارضة سواء كانوا أفرادا أو جماعات أن يقوموا بدورهم تعليما للامة في السماح للمعارضة، وان كانا هما معصومين، وعليه فلا يحق للحاكم مهما كان أن يكبت المعارضة بل أن يسجنها أو يفرق المظاهرة بالرصاص كما هي عادة حكام بلاد الإسلام اليوم فان ذلك بالإضافة إلى كونه خلاف السيرة -على ما عرفت- وخلاف العقل والمنطق ويوجب كراهة الناس للحاكم مما ينتهي إلى سقوطه وان تسوّد صفحته في التاريخ كما اسودت تواريخ بني أمية وبني العباس والعثمانيين ومن إليهم من الحكام المستبدين".

الخلاصة

ان المسلمين في الوقت الحالي يعيشون أضعف حالاتهم، خصوصا مع سلب معظم حقوقهم وحرياتهم الأساسية من قبل من يدعي تمثيلهم او من قبل اعدائهم، ومن اجل ان يتمكن المسلمون من العودة الى جوهرهم وحضارتهم وقيمهم الحقيقية يحدد الشيرازي عاملين مهمين لذلك هما "الوعي" و "التنظيم" بقوله: أن من أهم ما يوجب رجوع الحريات إلى البلاد الإسلامية، الوعي، والتنظيم، فالأول نور يسبب رؤية المسلمين دائهم ودوائهم، والثاني يوجب أن يكون لهذا النور حملة يحملونها إلى أقاصي بلاد الإسلام، وقد أكد الإسلام على كليهما".

ويشير الى معالم التنظيم باعتباره: "بالاختيار لا بالإجبار، فمن شاء مميزات التنظيم المادية والمعنوية دخل فيه ومن لم يشأ لم يدخل، أما القسر فأنه لا يدوم، وليس معنى التنظيم مجرد شيء، لا أول له ولا آخر، بل معناه الاستيعاب، من الأول إلى الأخير".

فيما يتحدث عن الوعي وكيفية نشره داخل المجتمع: "أما من جهة الوعي، فهل يمكن بدون ملايين الكتب وعشرات الألوف من المكتبات للمطالعة ودور النشر، والجرائد والمجلات والندوات، والمدارس، والمعاهد، والاذاعات والتلفزيونات، في عالم يعج بالثقافة المنحرفة بما لو قيس الوعي الإسلامي بين الشباب بالوعي الشرقي والغربي بالنسبة إليهم، كان شيئا ضئيلا جدا، ولذا نشاهد أن الإسلام اهتم أول ما اهتم بالوعي، وقد تخرج عن مدرسة الرسول (ص) الشيء المدهش من حملة الوعي من الرجال والنساء".

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2021
http://shrsc.com

اضف تعليق