في رحلتنا الدنيوية هناك من لا يكترث بشيء، ولا يفكر إلا بما يمكنه الحصول عليه من مكاسب ومغانم مختلفة وهو على قيد الحياة، لكن في نهاية المطاف سوف يفوز ذلك الإنسان الذي عاش دنياه ولم ينسَ داره الأخرى، ولم ينس الحساب القادم، هؤلاء هم الورعون...
(لا يمكن للإنسان أن ينام ويستيقظ فيجد نفسه وقد تحوّل تحوّلاً كاملاً)
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)
تُفسَّر كلمة ورَع بأنها تعني أولا امتناع الكائن عن الشيء، وجاء في معجم المعاني الجامع، ورَع الشَّخْصُ عن الإثم، أي ابتعد عن الإثم وكفّ عن الشُّبُهات والمعاصي على سبيل التَّقوى، فهي في هذا الإطار تعني أن يكف الإنسان عن عبور حاجز الحلال إلى الحرام، وهذا الهدف ليس هيّنًا، بل هو من أصعب الأهداف الإيمانية الكبيرة، إن لم يكن أصعبها جميعا.
فأنْ يكفّ الإنسان عن الحرام بكل أشكاله ودرجاته وأنواعه، هذا يعني أنه بلغ من السيطرة على نفسه وأهواءها درجة كاملة، وهذا النوع من البشر هم (المتّقون)، أي الذين بلغوا درجة كاملة من اليقين والتقوى، وكم بنا حاجة أن نبلغ هذه الدرجة في عالم يضجّ بالمغريات، والمحرَّمات التي تحيط بالإنسان من جهاته الأربع!!
لماذا نحتاج أن نكون ورِعين، وكيف يمكننا بلوغ ذلك؟؟، الحاجة إلى الورَع معلومة، لكن الوصول إلى هذه الملَكة هو الأمر الصعب جدا، فأن يسعى الإنسان إلى ما يحميه ويجنبّه السقوط في الخطأ والحرام، ذلك ما يعدّ من أهم الأهداف وأكثرها أهمية، ولكن تكمن الصعوبة لدرجة الاستحالة أحيانا في كيفية تحصيل درجة كافية من الورع، تحمي الإنسان من الانزلاق في الانحراف بأشكاله لاسيما حين يتعلق الأمر بمسؤولية كبيرة...
إذاً لا يستطيع أي فرد أن يكتسب الورَع لمجرد أنه يريد ذلك، نعم هو مطالَب بأن يرغب بالورع والتقوى، ولك هل كل إنسان يتمنى هذا الهدف يبلغهُ؟؟
هناك حواجز عالية بل شاهقة بين الإنسان والورَع، وهناك عقبات هائلة عليه أن يجنبها، منها على سبيل المثال، الشيطان، والشهوات بمختلف أنواعها، فهل يمكن للإنسان أن يصرع شهواته، ويكبحها، ويلجمها لتكون في إطار الحلال فقط؟؟
هذا هو السؤال الأهم في رحلة الإنسان الدنيوية، لاسيما أولئك الذين تتوفر لهم فرص كثيرة وكبيرة للجنوح نحو الحرام، كالمسؤولين الكبار وأصحاب المناصب الحساسة، فهؤلاء يقعون أمام معضلة معقدة لبلوغ الورع، وإن كان الجميع مطالَبين بجعل الورع نصب أعينهم لبلوغه، وهذا يحتاج إلى تمارين مستمرة.
ورَع الإنسانِ درعهُ الحصين
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم (حلْيَة الصالحين):
(هل يحصل الورع عند الإنسان بمجرّد أن يرغب به؟، بالطبع لا، لأنّ هناك موانع كثيرة تقف في طريقه، كالشيطان والشهوات والنفس الأمّارة بالسوء، إذاً لابدّ من ترويض النفس وتمرينها للتغلّب على كلّ الصعوبات والموانع التي تصادفه في كلّ مجالات الحياة لعدم صمود استعدادات الإنسان من دون ممارسة وتمرين).
مواصلة التمرين على الورع، هو الذي يقرّب الإنسان من بلوغ هذا الهدف، وإن تطلّب ذلك كثيرا من الوقت، ومزيدا من الأداء، وكثيرا من كبح أحابيل الشيطان، وكلّما كانت فرص الحرام كثيرة وكبيرة أمام الإنسان، صار صراعه أشد وأصعب، وتعقّدت مسالك بلوغه الورع والتقوى.
ولكن لا مستحيل أمام إرادة إيمان الإنسان، فما أن يُخلِص في توجهاته، ويؤمن بقدراته وأهدافه، ويحدد السبل الكفيلة التي تقوده لكسب الورَع كمَلَة، فإن هذا الهدف الصعب، سوف يكون طوع بنانه، فهذا الأمر يتعلّق بسعي الإنسان، وإصراره على تجنّب الانحراف، سواءً كان مسؤولا، أم كان إنسانا بسيطا، لكن الأول تكون تجربته لبلوغ الورع أصعب من الجميع.
أما لماذا نحن بحاجة إلى الورع كمَلَكَة؟، فإن الأمر يرتبط بطبيعة حياتنا، ودرجة نجاحنا فيها، إذ لا يمكن لفرد أو لمجتمع أن يكون ناجحا في حياته، وهو يفتقرُ للورع، ولا يضع حواجز قوية بينه وبين الحرام، وكذلك الأمر بالنسبة لآخرة الإنسان، فإنها مرتبطة بالورع أيضا، كونه الطريق إلى سعادة الناس، وهذه لا يمكن بلوغها ما لم نسعى إليها بجدية وإصرار وتمرين مستمر.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ الورع هو الذي يبلغ بالإنسان إلى هذا المقام، ولكن هل يتحقّق هذا دون سعي وعمل؟ إنّ القرآن الكريم صريح في قوله تعالى: ﴿وَأنْ لَيْسَ للإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى﴾(4). إنّ الله تعالى هو الذي يفيض على الإنسان وهو الذي يعطيه ولكن ذلك لا يتمّ إلاّ مع السعي والتمرين من قِبل الإنسان نفسه فضلاً عن الدعاء).
كيف نكسب الورع والتقوى؟
لا يمكن لجميع الأهداف العظيمة، أن تكون رهن يديّ الإنسان في ليلة وضحاها، هذه هي طبيعة الحياة، وهذا هو قانون التدرّج والنمو، فالتسرّع في بناء الأشياء أو امتلاكها قد يجعل منها ناقصة أو مشوهة، وغير مكتملة، وكما يُقال في الأمثال والأقوال المأثورة: (من يصعد سريعا يسقط سريعا).
لذلك التمرين على اكتساب الورع هو أول خطوات الوصول إليه، ومن المحال بلوغ الدرجة المكتملة للورع، إلا بعد اكتمال درجة النضوج الإيماني والروحي والعقلي وحتى القلبي، التأني والصبر وتمرين القلب والروح والعاطفة والمشاعر على الحلم هو الطريق إلى الورع والتقوى.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(بالسعي والتمرين يمكن أن يصل الإنسان إلى مرتبة فهم الجنّة كمن قد رآها، لأنّ هذا الأمر لا يتحقّق دفعة واحدة بل يتطلّب الممارسة والمواظبة من أجل الصعود درجة درجة؛ فإنّ الله تعالى جعل عالم الدنيا عالم الأسباب، فلا يمكن أن ينام الشخص ليلاً ثمّ يستيقظ صباحاً وقد تحوّل تحوّلاً كاملاً دفعة واحدة من الصفر حتّى بلوغ تلك المرتبة).
جميع الناس يحتاجون إلى الورع والتقوى، لكي يبلغوا بإيمانهم درجة رؤية (الجنة) بيقينهم، وكلّما صارت فرص الإنسان كبيرة لارتكاب الحرام، صارت حاجته للورع أكثر وأكبر، وهؤلاء هم الحكام، وأصحاب السلطات، والموظفون في مراكز حساسة، هؤلاء حاجتهم كبيرة للورع، مع أن جميع الناس يحتاجون ذلك، لأنهم جميعا يتمنون رؤية الجنة بعد بلوغ الدرجة الكاملة من الورع.
هكذا نوع من البشر يعرف النار أيضا، وكأنه رآها، لذلك يسعى كي يتجنبها، وهذا لا يمكن أن يتحقق لكل من تمنى دون سعي وعمل، وإنما الإنسان الذي يقرر ويؤمن ويتمرن على عبور عقبات بلوغ الورع، هو الذي يصل بالنتيجة إلى ما يروم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله يقول):
(وهكذا تجد الإنسان الورع يحتاط في كلّ أعماله؛ لأنّه هو والجنّة كمن قد رآها فهو فيها منعّم، وهو والنار كمن قد رآها فهو فيها معذّب).
بعد معرفة الفوائد العظيمة للورع، صار واضحا كيف نبلغ القمة الشاهقة، وإن كانت متطلبات الوصول صعبة، أو في غاية الصعوبة، فليس هناك هدفا سهلا يحتاج إلى صبر وتعب وإصرار، الأهداف البسيطة تجدها على قارعة الطريق، أما الأهداف العظيمة، فهي تلك التي تُجْهِد صاحبها وتتعبه، وكلما اقترب منها تطالبه بالمزيد من الجد والمثابرة لبلوغها، لاسيما أن الله تعالى وفّر الفرص الكافية للوصول.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إنّ الورَع لا يأتي من فراغ وهكذا اعتباطاً، كما تقدّم، ولا يكفي الدعاء أيضاً في حصوله بل لابدّ من أن يسعى الإنسان لتحصيله عبر الممارسة والمواظبة والاستفادة من المناسبات التي وفّرها الله تعالى للإنسان).
في رحلتنا الدنيوية هناك من لا يكترث بشيء، ولا يفكر إلا بما يمكنه الحصول عليه من مكاسب ومغانم مختلفة وهو على قيد الحياة، لكن في نهاية المطاف سوف يفوز ذلك الإنسان الذي عاش دنياه ولم ينسَ داره الأخرى، ولم ينس الحساب القادم، هؤلاء هم الورعون الذي تمرّنوا جيدا على بلوغ الورع والتقوى، فعاشوا حياة صحيحة، واستعدوا جيدا ليومِ حسابٍ لا عمل فيه.
اضف تعليق