يستمد يوم عاشوراء خلوده من خلود الإمام الحسين (ع)، وخلود موقفه الذي فضّل فيه مرضاة الله وحقوق الناس، على المنافع والملذات المؤقتة ووهج السلطة الكاذب، لذلك فإن يوم عاشوراء استحق الخلود كونه ملحمة أخلاقية مبدئية نجح فيها الحسين (ع)، في الاختبار الإلهي على الرغم من أن الثمن كان أغلى ما يملكه...
(أصحاب الإمام الحسين (ع) بلغوا القمة لأنهم اتبعوا مصباح الهداية)
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)
مكانة يوم عاشوراء التاريخية، تتأتى من مكانة الحسين (ع) عند الله ورسوله، فهذا اليوم لا يشبهه يوم آخر، لا في الماضي ولا الحاضر ولا حتى المستقبل، إنه اليوم الذي اهتزّ فيه جبروت الظلم الأموي، واندحر فيه الطغيان، وتهاوى فيه الاستبداد نحو الحضيض، لتبدأ ملحمة الانتصار الأبدي للحق على الباطل.
انطلاقا من التوصيف أعلاه، تخلّد يوم عاشوراء، وأصبح نبع القيم العظيمة، نبع لا ينضب أبدا، وسوف تبقى البشرية كلها تنهل منه دحرا للشر إلى يوم يُبعثون، لقد جسَّد الإمام الحسين في يوم عاشوراء مشيئة الله، ونجح في الاختبار الإلهي، لذلك يستحق هذا اليوم (عاشوراء) مكافأة الخلود، وكان يمكن للحسين أن يختار الدنيا، ويتجنب الموت بكلمة واحدة، لكنه وهو يواجه هذا الاختبار الإلهي نال درجة النجاح الأعظم، ودحر بموقفه هذا أرباب الشر، وصار رمزا للحق المنتصر.
هكذا حصل الحسين (ع) على مكانته الأعظم، ففي ذلك اليوم المشهود، يوم عاشوراء، نهض الحق كله ليهزم الاستهتار الأموي ممثلا بيزيد البليد، ونُقشت وقفة الحسين بحروف النور في صفحات التاريخ، ونال المكانة الربّانية التي يستحقها، فصار شفيعا عند الله لمن يستحق الشفاعة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في إحدى كلماته القيّمة:
(يُنقل أن الإمام الهادي (ع) كان في سامراء وقد أصابته وعكة فأعطى مبلغاً من المال لأحد أصحابه لكي يسافر إلى كربلاء ويدعو له عند قبر جدّه الإمام الحسين (ع) بالشفاء، فيقول له صاحبه: ألست بإمام معصوم مثل الإمام الحسين (ع) وتستطيع الدعاء لكي تشفى من المرض؟!، فيجيبه الإمام الهادي (ع): نعم، ولكن الله سبحانه جعل استجابة الدعاء عند قبر جدّي الإمام الحسين (ع) والله سبحانه هو الذي خلق الأسباب أسباباً والمسببات مسببات تكويناً وتشريعاً).
لقد تخلّد يوم عاشوراء بالحسين (ع)، وصار مرجعا للقيم العظيمة التي يحتاجها الإنسان أينما كان، بل صار منهلا ثرّا مدرارا لمن يحتاج الهداية والصلاح، وقد نجح أصحاب الحسين في اختبار هذا اليوم الذي لا يشبه الأيام، نجحوا باصطفافهم إلى جانب الحق ودعمه، ورفضهم القاطع لظلم يزيد وجبروته وفسقه، فاستحقوا المكانة التي تليق بمناصري موقف الحق وفعله.
الموقف المبدئي والنجاح في الاختبار
عندما يوضع الناس أمام موقف حاسم، واختيار بين موقفين لا ثالث لهما، بين (الحق أو الباطل) بين (الخير أو الشر) بين (الشهادة أو الخنوع)، يبقى الأمر مرتبطا بدرجة إيمانهم بالقيم العظيمة، ونجاحهم يتوقف على درجة التضحية والاستعداد لها نفسيا وعمليا، وهو ما أبداه صحابة الحسين (ع)، حين تمسكوا بموقفهم الرافض ليزيد على الرغم من معرفتهم بالنتيجة الحتمية (الموت).
لكن عظماء التاريخ لا يرهبهم الموت، ولا يهزهم الظلم، ولا يتنازلوا عن دعم الحق، هذا ما فعله أصحاب الحسين (ع)، رغم كل الأهوال التي تحيط بهم، ورغم كل فرص الارتداد المتوفرة لهم، لكنهم أبوا إلا أن يتمسكوا بموقفهم ويصدقوا الحسين بما عاهدوه عليه، فنالوا المكانة الخالدة باستحقاق الشهداء الخالدين.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(لقد بلغ زهير بن القين وحبيب بن مظاهر ووهب بن حباب الكلبي وغيرهم من أصحاب الإمام الحسين (ع) القمة لأنهم اتبعوا مصباح الهداية، ولو لم يتبعوه لما كانوا بهذه الدرجة والمنزلة والقمة الشامخة، فكان موقف الإمام الحسين (ع) امتحاناً واختباراً للناس نجح فيه من رأى الطريق وخسر فيه من عمي عليه الطريق).
في يوم عاشوراء بدأ الاختبار الإلهي على رؤوس الأشهاد، فكان الإمام الحسين وأصحابه (ع) في موقع الأخلاق وموقف الحق، وكان يزيد ومعاونوه في موقع الانحطاط وموقف الباطل، وشتان بين من يكدح كي يضمن آخرته، وبين من تأخذه ملذات الدنيا بأحضانه، وتتزين له، فتسحبه إلى الدرك الأسفل من الرذيلة، ثم تلقي به في مزابل التاريخ كعلامة فارقة للفسق والتنمر الورقي والتبجح بقوة السلاح والمال، فيما فقد القيم والأخلاق وذابت معنوياته في صخب الدنيا.
موقفان وخياران متناقضان، أحدهما كان موقف الحسين (ع) المبدئي واختياره المحسوم، وهو الذي خلّد واقعة عاشوراء إلى الأبد، والخيار الثاني هو اللهاث وراء ملذات الدنيا، والركض وراء الرغبات المادية الخادعة وهو موقف يزيد وبطانته التي جمّلت له أفعاله الخارجة على الإسلام، طمعا بمنفعة مادية زائلة، وهي زالت بالفعل ولم يبق منها سوى نتائج العار التي ألحقتها بيزيد ومن تبعه.
إلحاق الهزيمة بالظلم والاستبداد
إنه الفارق الكبير بين من يبحث عن السلطة والمنصب، وبين من يبحث عمّا يرضي الله ويحفظ حقوق الناس، ويحمي الإسلام من الانحراف، حتى تحول هذا المنهجان إلى مسارين متناقضين استمر امتدادهما إلى اليوم، خط الحسين المدعوم بالحق والعدالة، وخط يزيد المستند على الظلم والاستبداد.
إنهما مساران لا يزال الصراع بينهما موجودا في حياة المسلمين، بل في حياة البشرية حتى اليوم، فمن ذهب وراء الدنيا وملذاتها يتبع خط يزيد، ومن يروم مرضاة الله وحقوق الناس يتبع خط الإمام الحسين (ع)، وينجو من فخ السقوط في ظلم الآخرين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الله سبحانه اختبر الإمام الحسين (ع) في ذلك الموقف العظيم وهو في مقام العصمة، واختبر أعداءه أيضاً فكان الموقف اختباراً في اختبار من خلال موقف واحد، يميز فيه الظالم عن المظلوم، والطالب للمنصب أو المال، والناكص عن الوقوف إلى جانب الحق، والإيثار والقربة إلى الله سبحانه).
لذا يبقى يوم عاشوراء خالدا، بسبب خصوصية هذا اليوم الكبيرة، نعم يوجد صراع بين الظالم والمظلوم على مر التاريخ، ولكن ما حدث في يوم عاشوراء ليس له مثيل، وهو يوم مختلف له مزاياه التي لن تتكرر، لذلك شهقت مكانة الحسين عاليا، ودونها التاريخ في حروف خالدة، واستعصت على المحو أو النسيان، على الرغم من أن النسيان حالة بشرية لا يمكن الإفلات منها.
واقعة الطف ويوم عاشوراء الخالد، شعلة من ضياء الحق، أوقدها الحسين (ع)، وظلت عصيّة على الانطفاء، وستبقى كذلك إلى الأبد، على الرغم من محاولات وسعي الطغاة على مدى مئات السنين لإطفاء الشعلة الحسينية، لكنهم فشلوا جميعا، قديما وحديثا، بل تحولت معاداتهم لعاشوراء إلى وبال عليهم، وهزت عروشهم وأسقطتهم جميعا، وألقت بهم في مزبلة التاريخ، فيما بقي الحسين (ع) شعلة الحق والعدل والسلام غير القابلة للإزالة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(على مرّ التاريخ كان هناك ظلمة ومظلومون، لكن في مظلومية الحسين (ع) خصوصية كبيرة؛ لذلك يقول المعصوم…: (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله)، فلا يكون هناك يوم كيوم عاشوراء، ولم يكن هناك يوم سبقه (لا يوم كعاشوراء)، رغم أن يوم استشهاد رسول الله (ص) يوم عظيم، ويوم استشهاد أمير المؤمنين (ع) يوم عظيم، ويوم استشهاد فاطمة الزهراء (ع) يوم عظيم، ويوم استشهاد الإمام الحسن (ع) يوم عظيم، وكل واحد من هؤلاء الأربعة - حسب معتقدنا وحسب تصريح الإمام الحسين (ع)- أفضل من الحسين (ع) ولكنّ يومهم ليس كيوم عاشوراء، فهو يوم فريد من التاريخ، وهو كما أراده الله سبحانه يوم خالد).
نعم يبقى يوم عاشوراء خالدا لأن الله تعالى أراده هكذا، ولأن بقاء وخلود هذا اليوم هو الشيء الوحيد الذي يضاهي إيثار الحسين (ع)، ولأن الرسالة الأخلاقية التي تركها للبشر، يُراد لها أن تبقى أبداً، كخارطة طريق لمن يسعى للعيش وفق معايير الحق والعدل والإنصاف، بعيدا عن الظلم والإجحاف والقمع بأشكاله كافة.
لذا يستمد يوم عاشوراء خلوده من خلود الإمام الحسين (ع)، وخلود موقفه الذي فضّل فيه مرضاة الله وحقوق الناس، على المنافع والملذات المؤقتة ووهج السلطة الكاذب، لذلك فإن يوم عاشوراء استحق الخلود كونه ملحمة أخلاقية مبدئية نجح فيها الحسين (ع)، في الاختبار الإلهي على الرغم من أن الثمن كان أغلى ما يملكه، حين قدّم نفسه وذويه وأصحابه، قربانا لحرية البشر وحقوقهم وكرامتهم.
اضف تعليق