نعيش هذه الأيام عيد الأضحى المبارك، حيث يتزاور الناس فيما بينهم، الأخوة والأقارب والأصدقاء، وعادة ما تُطلَقُ في مثل هذه المناسبة المباركة مساعِ لحلّ الخلافات بين الناس، أيّا كان حجمها أو أضرارها، فالفرقة والتناحر لا ينبغي لها أن تهيمن على حياتنا، لاسيما أننا نسعى لتحقيق مصالح (العيش الكريم)،...
نعيش هذه الأيام عيد الأضحى المبارك، حيث يتزاور الناس فيما بينهم، الأخوة والأقارب والأصدقاء، وعادة ما تُطلَقُ في مثل هذه المناسبة المباركة مساعِ لحلّ الخلافات بين الناس، أيّا كان حجمها أو أضرارها، فالفرقة والتناحر لا ينبغي لها أن تهيمن على حياتنا، لاسيما أننا نسعى لتحقيق مصالح (العيش الكريم)، وهذا يؤدي إلى نوع من التضارب في حركة السوق والتعاملات وسواها.
لكن الأمر المهم هنا ليس الكف عن الحركة خشية من ضرب مصلحة الآخر، وإنما التأكيد على النشاط والحركة والسعي للرزق مع الحفاظ على الحقوق بشكل متبادَل، وجعل الاحترام والشعور بالآخرين معيار العلاقات القائمة بين الناس، أقارب أو أخوة أو أصدقاء أو جيران، وهذا لا يتعارض مع حرية السعي لكسب الرزق في إطار المتعارف والمتَّفق عليه.
يحدث الخصام والظلم بين من يتحرك وينشط ويسعى، لا بين من يبقون جلساء البيوت، لذلك قد يحدث الظلم والتجاوز منك أو عليك، لكن المطلوب دائما، هو مراعاة حق الآخر وشعوره وإبداء الاحترام له، والحرص على رزقه ومصالحه وكرامته، لذلك حاول أن تتجنب الظلم منك أو عليك، وتتجنب أيضا كل إنسان يسعى لجرّك نحو المشادات اللسانية غير المجدية.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يتطرق في كتابه القيّم الموسوم بـ (حلية الصالحين)، إلى هذه النقطة المهمة:
(يقول الإمام السجّاد سلام الله عليه: اللهُمَّ صَلّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْ لي يَداً عَلى مَنْ ظَلَمَني، وَ لِسَاناً عَلى مَنْ خَاصَمَني).
يحتاج الناس إلى مراعاة بعضهم بعضا بالاستناد إلى القيم التي تحميهم من ظلم بعضهم، وتبعد عنهم لغة الخصام وأسبابه، لأن المخاصمة قد تقود إلى المواجهة بين الأطراف المتخاصمة، وقد يؤدي هذا إلى حدوث الفرقة بينهم، وقد تُخلق مشكلات تنمو وتكبر وتزداد تعقيدا مع مرور الوقت فيصعب حلّها، لاسيما إذا حدثت حالة من العزلة بين الأطراف المتخاصمة، يجب في هذه الحالة أن تتسلح بالإيمان وعدالة الضمير.
لذلك يحاول أهل التقوى التقريب بين وجهات نظر المتخالفين، واحتواء عوامل الصراع باستخدام الحوار والتفاهم كوسيلة ناجعة لمواجهة المعضلات الخلافية من خلال إبداء التنازلات المتبادلة بين الطرفين، مع تضييق فرص الانفصال والتباعد عن بعض بسبب اختلاف الآراء أو الأفكار أو المصالح، والسعي لتضييق فجوة الخلاف بين المتخالفين إلى أقل حد ممكن، لأن المتقاربين خير من المفترقين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الفرقة تعني الانفصال، فالناس إذا كانوا مجتمعين على أمر فلا توجد فرقة فيما بينهم، أمّا إذا اعتزل بعضهم بعضاً وصار بعضهم منفصلاً عن بعض فهذا يعني حدوث فرقة بينهم، ويطلق أهل الفرقة على من ديدنه الافتراق، أمّا من حليته الصلاح وزينته التقوى فإنّه يحاول أن يجمع ويضمّ إليه جميع أهل الفرقة).
كيف نقلل دوافع الاختلاف ومسبباته؟
الخصومة أمر طبيعي لا يمكن التخلص منها، وهو فعل متوقع طالما هناك حركة وسعي نحو الرزق حتى المشروع منه، لذلك هنا يبرز الدور الحيوي للمصلحين والحكماء في تقليص الفجوة الفاصلة بين المتخاصمين، وكلما تم تقليص هذه الفجوة، أصبحت البنية الاجتماعية أقوة تلاصقاً، لذا من الاشتراطات التي يجب ترصينها في المجتمع، معالجة المسببات التي تؤدي إلى الفرقة بين الأفراد مع بعضهم أو بين الجماعات، وهي أهداف ليست صعبة التحقيق، فما نحتاجه هو عملية إقناع متبادَلة بين الأطراف.
وطالما أننا نسعى نحو مصالحنا وأرزاقنا، فإن هناك احتمالات كبيرة لحدوث تصادمات في المصالح وهذا أمر يحدث كثيرا لأنه متوقَّع، هنا يتميز دور المصلحين من أصحاب التقوى والأخلاق الرصينة، حيث يسعى هؤلاء دائما إلى إصلاح ذات البين، ورأب الصدع بين المتخاصمين وتقريب وجهات النظر عبر الإصلاح الاجتماعي الذي يستند إلى قيم عظيمة هي المرتكَز الأقوى لحماية واستقرار المجتمع.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظلّه) يقول:
(ممّا يعنيه البيْن هو الصلة والحال التي عليها أفراد المجتمع، وهو نقيض الفرقة، فإصلاح ذات البين يعني: صيانة الألفة والمحبّة من خلال إدامتهما ومعالجة أيّ شرخ ممكن حدوثه قبل اتّساعه مهما كان حجمه سواء بين الإخوة، أو الزوج والزوجة، أو الأصدقاء، أو بين الأُستاذ وتلميذه، أو الأب وابنه أو غير ذلك).
إذاً فإن القيم التي تسهم في إصلاح الناس يجب أن تشمل المجتمع بكل شرائحه، ولابد من أن تكون ملتزمة بها، لأن منهج الإصلاح والتقريب بين وجهات النظر، واحتواء حالات الصراع، كما أن حل النزاعات الصغيرة أو الكبيرة، لابد أن يتم بطريقة متحضرة، وهي طريقة الحوار والنقاش مهما كانت صعوبة المشكلات أو اختلاف الآراء حولها، ففي النهاية سوف يتوصل الجميع إلى حل يرضي جميع الأطراف بالحوار وليس التصادم والانقسام والأنانية.
مسؤولية الإنسان المؤمن تتركز على نشر وترويج منهج معالجة المشكلات بالحوار، وامتصاص وتذويب عناصر الفرقة والتناحر، صحيح أن الحوار يحتاج إلى صبر لكن النتائج ستكون باهرة في فائدتها للمجتمع، ولذلك شاهدنا في مناسبات جماهيرية كثيرة رفع شعار مهم هو (حوار لسنوات ولا قتال لساعة واحدة)، فالأفضل للمتناحرين الاستمرار في الحوار سنوات طويلة ولا يتقاتلوا لمدة ساعة فقط.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ الأُمور التي ينبغي للإنسان المؤمن أن يعنى بها في المجتمع، أي على الصعيد العامّ والواسع، أن يكون ديدنه الحيلولة دون حدوث الفرقة والاختلاف، كما عليه أن يسعى من أجل الإصلاح على صعيد العلاقات الاجتماعية الصغرى كالعلاقات بين الإخوة والأقارب والزملاء).
لا مجاملة على حساب الحق
هناك من يعتقد أن الحصول على بعض المكاسب يستحق التضحية بالحق، وهو تصوّر غير سليم البتة، فقد يظن بعضهم أن الدعوة للإصلاح الاجتماعي، وسعي المتقين الحكماء إلى التقريب بين شرائح ومكونات المجتمع، هو غض الطرف عن الباطل، وهنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(قد يتبادر إلى الذهن سؤال، وهو: هل الإمام السجّاد سلام الله عليه يدعو للاجتماع وعدم الفرقة دائماً من دون نظر إلى الحقّ والباطل؟ حاشا أن يكون الإمام يريد ذلك؛ لأنّ الإمام السجّاد عدل القرآن، والقرآن يقول: *كَانَ النَّاسُ اُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ* أجل، الوحدة من الفضائل ولكن إذا كانت في إطار الحقّ والفضيلة لا في إطار الباطل والرذيلة).
توجد بلاغة واضحة في المطروح أعلاه، فالتقريب بين أفراد وشرائح لا يجب أن يقوم على مهادنة الباطل، لأنه من الواضح هنا أن الدعوة إلى وحدة المجموع، لا تعني الوحدة على المخالفة أو العصيان، أو على المنهج الخاطئ، إنما الوحدة هنا تعني اتفاق الجميع على الحق، وتقارب آرائهم وتمحورها في جانب الحق حصرا، ولا يصح أن يتوحد الناس على الإساءة والمنهج غير السليم، فلا مجاملة للباطل على حساب الحق حتى لو كانت الغايات صحيحة.
هنا تبرز نقطة مهمة عند الإنسان، ألا وهي قضية السيطرة على شهواته ونوازعه غير المشروعة، وهذا يتطلب تذكّرا مستمرا للموت، فعلى الفرد أن يضع الموت نصب عينيه ليلا نهارا، وهذا الهاجس يجب أو لا يفارقه، لأنه بالفعل قاب قوسين أو أدنى من الموت، صحيح لا ينبغي أن يكون هذا الهاجس عائقا أم حركة الإنسان ونشاطه وتفكيره، لكنه يجب أن يتذكر بأنه عرضة للموت دائما، حتى يكبح نوازع الشر لديه.
يرى سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إنّ على الإنسان أن يضع الموت نصب عينيه دائماً، فإذا فعل ذلك خفّت حدّة شهواته واستطاع أن يعمل على ضمّ أهل الفرقة وإصلاح ذات البين بنحو أحسن، ولا يكترث للأعذار غير الصحيحة).
ولكي نتجنب الفرقة والتناحر يمكن أن نتبع الخطوات التالية:
- عدم المجاملة في قضية الصراع بين الحق والباطل.
- محاولة إقناع الطرف الآخر وإبداء الصبر معه.
- توسيط جهات وأفراد لهم تأثير على الفرد أو الجماعة المضادّة.
- إظهار الحجج الصحيحة الدائمة للمواقف السليمة بالبراهين.
- عدم التسرع في الأحكام.
- التخلص من القرارات العاطفية غير القائمة على التفكير المنطقي.
- نبذ التعصب والتطرف والإكراه بصورة تامة.
- إبداء المرونة في الحوار مع الآخر بقدر الإمكان.
- الابتعاد التام عن الأحكام القاطعة المسبقة.
اضف تعليق