إنها رحلة محسوبة ومؤقتة، تلك التي يقطعها الإنسان، بدءاً من محطة الولادة وانتهاءً عند محطة الموت، ولكن هناك من لا ينظر إليها بمنظار الزوال الحتمي، فيظن ويُخدَع بعدم زوال هذه الرِحلة مع علمه ومعرفته بحتمية زوالها، فلماذا هذا الإصرار على خلودها وهي فانية، ولماذا لا نعمل...
(حين يفكر الإنسان بالطريقة المتعقّلة، سيهجر أمانيه)
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)
إنها رحلة محسوبة ومؤقتة، تلك التي يقطعها الإنسان، بدءاً من محطة الولادة وانتهاءً عند محطة الموت، ولكن هناك من لا ينظر إليها بمنظار الزوال الحتمي، فيظن ويُخدَع بعدم زوال هذه الرِحلة مع علمه ومعرفته بحتمية زوالها، فلماذا هذا الإصرار على خلودها وهي فانية، ولماذا لا نعمل لرحلة الخلود بدلا من العمل لرحلة الزوال؟
الإنسان له أجل مسمى وهو يعرف ذلك، لكن هناك ما يمنعه من اتخاذ (رحلة الدنيا) طريقا له كي يصل إلى محطة الخلود عبر أعماله وأفعاله وأقواله، سيرته الحياتية قبل بلوغه الأجل هي التي تقوده باتجاهين، أما إلى الخلود في جنان الله ثوابا عمّا قدّمه في دنياه، أو أنه سيخلُدُ في النار إذا لم يغتنم رحلته الدنيوية في تقديم صالح الأعمال والأقوال والمواقف.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (يا أباذر):
(إنّ الأجل هو اللحظة التي يغادر فيها الإنسان دنياه. فهو بعدَ طيِّ مسيره الدنيوي يصل إلى مصيره الأخروي، وهذه خاصيّة الإنسان، إذ الحيوانات لا (مصير) لها).
إذا الإنسان أمام لحظة فاصلة بين رحلتين، وهذه اللحظة هي أجله المحتوم الذي لا مجال لتجنّبه أو تحاشيه، فالأجل وبلوغ الإنسان لحظة الموت ومغادرة الدنيا، أمر غير قابل للتأجيل أو الإلغاء، لهذا قيل أن الموت حق، والحق يعلو ولا يُعلى عليه، وإن الناس عليها أن تحسم هذا الأمر منذ أن تعي وجودها الدنيوي، لكن ازدواجية يعيشها الإنسان، تتمثل بمعرفته لقدوم الأجل ومغادرته للدنيا، لكنه مع ذلك لا يعمل على ضمان الخلود الأخروي بسبب سوء الأعمال والأقوال.
لحظة محاسبة الإنسان على ما قدّمه في دنياه، صالحا كان أم طالحا، تبدأ من لحظة دخوله القبر، حيث يبدأ الحساب دونما تأجيل، لذلك فإن القبر هو مصير الإنسان الأول، يليه يوم القيامة، فأما أن يكون مصيرا جميلا، أو العكس، وهذا يتبع ما يقوم به في دنياه، ولابد أن يُحسَب حساب المصير النهائي، فحساب القبر ونتيجته تمثل المصير الأول، ولكن هناك المصير النهائي الذي يُحسَم بوصول الإنسان أما إلى الجنة حين يستحقها، أو إلى النار حين يفشل في اختبار الدنيا.
يجب الكفّ عن ظلم الناس
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الأجل هو أوّل الآخرة وخاتمة الدنيا، وتبدأ عمليّة الحساب بعد الممات مباشرة، والقبر هو المصير الأوّل: «القبر إمّا روضةٌ من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران». والمصير الذي يلي القبر هو يوم القيامة. أما المصير النهائي فهو إمّا الجنّة أو النار).
مشكلة الإنسان إنه يعرف هذه المصائر كلّها، وهناك من يخبره بها، حيث يقوم رجال الدين والعلماء والخطباء والمراجع الأجّلاء، بتنبيه الإنسان على كل ما يتعلّق بالرحلتين (الدنيا و الآخرة)، وكل التفاصيل التي تقود الإنسان إما إلى النجاة والنجاح، أو إلى الفشل في كلا الدارين، إنه يعرف هذه التفاصيل جيدا، لكنه قد يهملها، ولا يعطيها ما تستحقه من اهتمام.
هناك ناس يبذلون كلّ شيء في شبابهم خدمة لحياتهم الدنيا، متناسين الآخرة واستحقاقاتها، فتراهم يكدحون ليل نهار من أجل المكاسب المادية والمغانم الدنيوية، كالسلطة والمال والجاه والقوة، لكن كل هذه الأمور زائلة ولا ديمومة لها، فالذي يبقى ويدوم هو العمل للدار الأخرى من خلال استثمار الدار الأولى، ومع ذلك يوجد من يجعل دنياه مطية لرغباته وأهوائه، ضاربا ما ينتظره من مصير عرض الحائط، ليس لأنه لا يؤمن بذلك، كلا، بل لأنه لا يبالي ولا يعبأ.
يلهو الإنسان كثيرا في دنياه، ويداوم باللغو ويسهو ويهمل، ليس هذا فحسب، إنه يطغي، يظلم، يتجاوز على حقوق الآخرين، حتى تزداد ثروته، ولكي تتحاشاه الناس وتخافه، يستميت حتى يحتفظ بالسلطة، يسحق الجميع لكي يبلغ مراده، لا رحمة في قلبه، ولا يتذكّر لحظة بلوغ القبر، لحظة انتهاء الرحلة، بل هو ينغمس في عالمه الذي ينسيه لحظة الموت، ولا يمنحه مجالا للتفكير بالحساب في القبر أو القيامة.
والغريب أن البشر يعرف كل شيء، يعرف النتائج التي سيصل إليها، يعرف الجنة والنار، وسمع أو قرأ عن حساب القبر وعذابه، يعرف أن ما اقترفته يداه وعقله وإرادته وقراراته يوم كانت السلطة طوع بنانه، إنما هي أفعال وقرارات ظالمة سوف يُحاسَب عليها لحظة يحين الحساب، ومع ذلك ينسيه اللهو ونشوة السلطة والقوة والمال ورغبة الظلم التي تعمي بصيرته، وكثيرا ما يقول لنفسه، نحن أبناء اليوم وليكن في الغد ما يكون.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(هناك كثير من الناس يبذلون ما يستطيعون من الجهد خلال فترة شبابهم وقوّتهم، ولا يريحون أنفسهم إلا قليلاً، ولكنّهم يضحّون بـ (مسيرهم) لحساب (مصيرهم)، كما أنّ كثيراً من الناس يقضون (مسيرهم) باللهو واللغو ويقولون: ليكن (المصير) ما يكون!!)
كيف تفوز بالجائزة الإلهية؟
غريب حقا هذا التغابي، أو اللامبالاة التي يبديها الإنسان حيال نهاية الرحلة (القصيرة)، وبلوغ القبر، كيف يمكن أن يضع الإنسان كل الشواهد خلف ظهره ويوغل بالعصيان؟، مع أن الله تعالى وضع جوائز لا تُقدَّر بثمن لمن يلتزم ويأخذ بالحسبان لحظة بلوغ القبر، والحساب القادم يوم القيامة، والنتيجة التي تتوزع على مصيرين، أما الجنة أو النار!!
حتى الأطفال حين تأمّلهم بجوائز قادمة نتيجة لالتزامهم، فإنهم يقبلون التحدي والمصاعب ويلتزمون، أملا بالحصول على الجائزة، لكن الكبار رغم معرفتهم بالجائزة الكبرى التي تنتظرهم يهملون كل شيء، ويركزون على مطامحهم الدنيوية الممقوتة، فإذا كان صاحب سلطة يقهر من هو أقل منه، وإن كان قويا يبطش بالضعيف، وإن كان ذا نفوذ يأكل حلال الناس تحت ألف تبرير وحجة واهية.
بالنتيجة ويا للأسف هناك من يضحي بالمصير الحاسم في مقابل مغانم الرحلة الدنيوية الخاطفة، هذه الرحلة التي لا تشكل شيئا يُذكَر من عمر الزمن الكوني اللانهائي، فتراهم يفضلون السلطة والمال والجاه الظالم في الدنيا على حساب المصير الحاسم والأبدي، وهذه مشكلة كؤود على الناس أن تفكر بها مليّا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(إنّ الطفل الذي يعِدُه أبوه بالجائزة إن استحمّ وتنظّف، يدرك على مستواه معنى وضرورة التضحية بالمسير لصالح المصير، أي أنّه يتحمّل إزعاج الاستحمام من أجل الوصول إلى الجائزة الموعودة، إلا أنّ كثيراً من الكبار ـ مع الأسف ـ يضحّي بالمصير من أجل المسير).
يحتاج الإنسان طالما كان على قيد الحياة الدنيا، إلى التفكير العميق السديد، فإذا بلغ القبر لا توجد لديه فرصة لكي يصحح أعماله الظالمة، فطالما هو في الدنيا ولم يبلغ القبر بعد، يجب أن يفكر عميقا، ويلتزم ويصحح، ويتجنب ظلم الناس، أو هدر حقوقهم، أو التمسك بالسلطة والجاه ومغريات الدنيا الأخرى، عليه بصريح العبارة أن يسارع بأقصى ما يستطيع إلى ضمان المصير الذي يجنّبه النار، وطالما هو على قيد الحياة الفرصة متاحة له وعليه اغتنامها لأن لحظة الممات غير معلومة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ينبّه قائلاً:
(إذا فكّر ابن آدم في عاقبة الأمر وتساءل مع نفسه عمّا سيكون مصيره؛ الجنّة أو النار، حيث مطلق النعيم أو مطلق العذاب والسخط، فإنّه لن يغفل بعد ذلك عن ذكر الله تعالى، ولن تخدعه أمانيه، وسيقول لنفسه: إنّ أولئك الذين قضوا نحبهم كانت لهم آمالهم، الصغير منهم والكبير، ولكنهم رحلوا جميعاً مع أمانيهم وآمالهم).
هكذا يبقى الإنسان مخيّرا بين أن يعي مصيره جيدا أو يهمل ذلك!، وعليه أن يفهم بأنه أمام عدة تحديات، تبدأ برحلة الحياة ونتائجها، ثم تصل به إلى لحظة الأجل (الموت والقبر)، ليلاقي حسابه ويواجه عذابه مباشرة إن كان يستحق العقاب، وبهذا علينا استثمار وجودنا في الدنيا واغتنام الدقائق واللحظات حتى نضمن زوال العذاب في القبر، وتجنب النار بأعمالنا وأفعالنا في الحياة الدنيا.
اضف تعليق