الصعوبة الكبيرة التي يعاني منها الإنسان، تكمن في قضية الصراع والتصادم المستمر بين قناعات الشخص وشهواته، فيوجد صراع لا هوادة فيه بين الطاقتين، وكل المؤشرات والنتائج والتجارب، تؤكد بأن الإنسان الذي تتفوق فيه قناعاته وعقله على شهواته هو الذي يتربع على قمة هرم النجاح دائما والعكس صحيح...
يُقصَد بالقناعات، مجموعة المبادئ والأسس التربوية التي نشأ عليها الإنسان في الحاضنة الاجتماعية الأولى، ونعني بها الأسرة، ومن ثم المحيط الاجتماعي الأوسع، كمحيط المدرسة أو العمل وسواهما، وهذه القناعات تتراكم لدى الإنسان منذ نشأته الأولى صعودا، وتساعده على أن يكون إنسانا صالحا.
الشهوات هي طاقات غريزية رافقت المنحى التكويني للإنسان، وهي ممتزجة بالتكوين البايولوجي والنفسي للبشر، وقد رافقها العقل في جسد الإنسان، وصار رقيبا عليها، فنشأت قضية الصراع بينهما، بين العقل والشهوات، فمن يتغلّب عقله على شهواته صحَّت قناعاته ونجح في حياته، واصطفَّ إلى جانب الأخيار الصالحين في هذا العالم القائم على الصراع بين عقل الإنسان وشهواته.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، قال في إحدى كلماته التوجيهية القيمة عن التعارض الشديد بين القناعات والشهوات:
(أمران مهمّان جدّاً، جعلهما الله تبارك وتعالى في داخل كل شخص، ومنهم نحن جميعاً، وهما طاقتان متعارضتان ومتنازعتان أغلب الأحيان، الأولى: الطاقة التي يسمّيها القرآن الكريم والأحاديث الشريفة بالعقل، ويعني القناعات، وهي ما يقتنع به الإنسان بأنّه جيّد. الثانية: طاقة الشهوات. أي النفس الأمّارة بالسوء وما تشتهيه).
الصعوبة الكبيرة التي يعاني منها الإنسان، تكمن في قضية الصراع والتصادم المستمر بين قناعات الشخص وشهواته، فيوجد صراع لا هوادة فيه بين الطاقتين، وكل المؤشرات والنتائج والتجارب، تؤكد بأن الإنسان الذي تتفوق فيه قناعاته وعقله على شهواته هو الذي يتربع على قمة هرم النجاح دائما والعكس صحيح.
تنتج عملية الصراع بين الطاقتين لتعارضهما مع بعضهما بشدة، فالقناعات ترفض صاحبها من ارتكاب الخطأ بكل أنواعه، وتسعى كي يكون الإنسان القانع مكتفيا معتدلا متوازنا متحكما بنفسه حتى لو أصبحت مغريات الدنيا كلها طوع بنانه ويديه، كأن يكون صاحب سلطة وجاه وثروات، فهو في هذه الحالة عرضةً لضغط الشهوات، كالظلم والاختلاس والتجاوز على حقوق الناس، فإذا تسيَّدَ عقله وقناعاته على مغريات السلطة، أصبح صالحا بل نموذجا للصالحين.
نتائج خطيرة للعصبية والتسرّع
منْ يستطيع ردع شهواته، وما تدفعه إليه نفسه، سوف يميل إلى رجاحة العقل، ويرفض الانصياع لنفسه المسيئة المتعصبة، وفي هذه الحالة تكون نتائج تفكيره وسلوكه وأقواله في صالحهِ، على العكس ممن يتسرّع ويضعف وينصاع لأوامر نفسه التي تسعى للإطاحة به.
العصيبة والتسرّع قد يقود الإنسان إلى نتائج خطيرة، لاسيما إذا كان مرتهنا لنفسه، تأخذه إلى ما تشاء، وتقوده نحو ما ترى وترغب، النفس الأمارة تدفع صاحبها بالتسرع إلى سلوكيات متسرعة خطيرة، نتائجها ستكون وبالا عليه، هذا النوع من البشر ضعيف أمام نفسه، وغير واثق بقناعاته وعقله، أي أنه لا يمشي وراء عقله بل يمضي ذليلا وراء رغبات نفسه.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(غالباً تتعارض القناعات والشهوات. فإذا، لا سمح الله، سبّك شخص ما أو اتهمك أو اغتابك، فإن الشهوات تملي عليك بأن تردّ عليه بفعل أي شيء يمكنك فعله، حتى إلى درجة القتل، وأما القناعات، أي العقل، فيقول لك كلا، لا تقتل الشخص لأنّه سبّك. فالإنسانية تملي عليك في تعاملك مع الذي سبّك، أن تردّه بالجميل، كما هو مذكور في القرآن الكريم، في قوله عزّ من قائل: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) سورة الفرقان: الآية63.
ويضرب سماحته مثالا تقريبيّا عن شخصين يعانيان من مرض السكري في الدم، فعُرض عليهما صحنا من الحلوى، فمن يتمكن من السيطرة على نفسه سوف ينأى بها عن تناول الحلوى حتى لا يناله الأذى وربما خطر الموت، ومن يرضخ لأوامر نفسه ويضعف ويأكل من الحلوى فإنه سوف يكون عرضة للعواقب الوخيمة.
هذا المثال ينطبق على جميع جوانب الصراع بين القناعات والشهوات، فصاحب السلطة سوف يكون بين يديه وأما2مه الكثير من الأموال التي قد تبلغ المليارات، وهي نوع من الحلوى التي تطيح به في حال مدَّ يديه إليها لأنها في نهاية المطاف سوف تؤذيه وتجعله يتدحرج إلى هاوية السوء والحرام.
حلوى الحرام زائلة ومزيَّفة
وهكذا الحال في جميع حالات الصراع بين العقل والشهوات، فالمسؤول أو الشخص القادر على ضبط نفسه وكبح رغباتها، ولا تدنو نفسه من (الحلوى) الحرام، فإنه سوف ينتصر على نفسه، ويربأ بها عن الانحلال والانزلاق في منزلق السحت، وعلى العكس منه ذلك الذي يكون لعبةً طيّعة بين يدي رغباته وشهواته، فالحلوى التي تقدمها الدنيا للإنسان كثيرة ومتنوعة وغالبا ما تكون ضارة له إذا كان مصدرها ليس مشروعا، في هذه الحالة ستكون النتائج وبالا عليه!!.
في واقع المسلمين هناك قادة ومسؤولون ربما يتوزعون على كفّتي الصراع بين القناعات والشهوات، فهناك من يقاوم نفسه ويصدّها بقوة ويحتمي بعقله وقناعاته ويحفظ نفسه ومكانته من السقوط في براثن الحرام، وهناك من يتهاوى أمام المغريات ويسقط تحت هيمنتها المرعبة، النوع الأخير هو الذي يكتشف متأخرا بأنه سقط صريعا أمام شهواته فتملأ الحسرات صدره على ما اقترف.
ليس المسؤولون وحدهم عرضة لهذا الاختبار العسير في الصراع بين القناعات والشهوات، جميع الناس من كل الأصناف والمستويات والمراتب معرَّضون لهذا الصراع المحتدم، إذ قلّما يمر يوم أو حتى ساعة من عمر الإنسان دون أن يتعرض إلى هذا النوع من الاختبار، لهذا علينا أن نرفض تناول الحلوى إذا كانت سببا في إلحاق الأذى بنا، أو تهديدنا بالخطر.
(شخصان مصابان بمرض السكّر، جلسا على مائدة فيها صحن من الحلوى. فهنا تبدأ الشهوات والقناعات بالتعارض والتنازع. فالشهوات تضغط على الشخصين المذكورين بتناول الحلوى وأكلها، والقناعات، أي العقل، يقول لهما اجتنبا الحلوى ولا تأكلا منها حتى بمقدار ملعقة شاي صغيرة، بل لا تأكلاها أصلاً. فترى الأول يعمل بقناعاته ويمتنع عن الحلوى، فينام ليلته مرتاح البال. وأما الثاني فيرضخ لشهواته ويأكل من الحلوى أو يأكلها كلها، فيصاب بارتفاع مستوى السكر في ليلته ويتأذى، وربما يؤدّي به إلى الموت. فهل يليق بالإنسان أو هل هو أمر حسن أن يموت الإنسان بسبب صحن حلوى؟!).
تتضح لنا طبيعة الصراع بين القناعات والشهوات، وينصح سماحة المرجع الشيرازي باعتماد قناعاتنا في كل شيء، والنأي عن فخاخ الرغبات والمغريات التي دائما مخرجها الشهوات.
فمن يخطط كي يكون عظيما، ويُحفَر اسمه في جداران التاريخ، ما عليه إلا مقارعة شهواته، والتمسك الشديد بعقله وقناعاته، هذا هو الطريق المضمون لكي تكون إنسانا عظيما خالدا في ذاكرة الناس والتاريخ معا.
مجال الصراع بين الطاقتين (القناعات / الشهوات)، يشمل جميع مجالات الحياة، فيمكن تطبيقه داخل الأسرة، أو في معالجة القضايا الاقتصادية والسياسية والعلمية وكل حقول المعرفة والسلوك، يمكنك أن تعتمد عقلك وقناعاتك وتهمل أو تصد شهواتك في أي نوع من الصراع بين الطاقتين حتى تكون عظيماً.
سماحة المرجع الشيرازي يؤكد: (على الإنسان أن يعمل بالقناعات في كل شيء، في المشاكل العائلية والسياسية والاقتصادية والصحيّة، وغيرها. فإذا أردتم أن توفّقوا التوفيق العظيم في الدنيا، وتكونوا من العظماء في مستقبل التاريخ، ويذكر اسمكم بالخير ويكون موجوداً بعد ألف سنة أو ألفين، فصمّموا على أن تقولوا: نعم للقناعات، وكلا للشهوات).
الحصيلة إذن، أما فوز في حياة الإنسان وبعد رحيله، وخلود وبلوغ درجة العظماء، أو الانحدار إلى مستنقع الشهوات والسقوط في براثنها، وخسارة دنيوية أخروية ملؤها الحسرات والندم، الاختيار متاح لجميع البشر، يمكنك أن تكون عظيما خالدا، ويمكنك أن تكون عبدا ذليلا لنفسك وشهواتك، وشتّان ما بين الثرى والثريّا.
اضف تعليق