من أهم العوامل التي تنهض بالدول وتجعلها في المقدمة، هي إحداث القفزات التنموية في مجالات شتى بدءاً من الاقتصاد، وهذا لا يمكن أن يتم من دون توفير القدرات الفكرية التخطيطية للتنمية، وتطوير العلم في المجالات المختلفة وصناعة الخبراء وتوظيف خبراتهم لإنجاز هذا الهدف التنموي الكبير...
من أهم العوامل التي تنهض بالدول وتجعلها في المقدمة، هي إحداث القفزات التنموية في مجالات شتى بدءاً من الاقتصاد، وهذا لا يمكن أن يتم من دون توفير القدرات الفكرية التخطيطية للتنمية، وتطوير العلم في المجالات المختلفة وصناعة الخبراء وتوظيف خبراتهم لإنجاز هذا الهدف التنموي الكبير.
وإذا كان العلم هو الطريق الحتمي للتنمية، هل يقبل الحاكم المستبد بتطوير العقول وتحسين الخبرات، لاسيما ما يتعلق بمصالح الشعب وليس مصالح الحكم، فمن ينفرد بالحكم سوف يهتم بالعلوم التي تساعده على حماية عرشه، كصناعة الأسلحة وبناء الخبراء العسكريين، أما تطوير العلم في المجالات التي تخدم المجتمع وترتقي به، فالطاغية لا يشجع عليها، بل يسن القوانين والقرارات التي تمنعها.
لهذا يقوم الحاكم المنفرد بالحكم بتشغيل آليات التجهيل وإلهاء الناس، ويصنع الأزمات التي تمنع العقول من تطوير قدراتها، فمن المعروف أن التنمية تحتاج إلى قواعد علمية رصينة، والأخيرة لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل انتعاش البحث والنقاش عبر مراكز بحوث علمية أو سواها، وهذا لا يشجع عليه من يستبد بالحكم طالما أنه يرسم الطريق السليم نحو التنمية.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (تأمّلات):
(النقاش المثمر طريق تنمية القوة العلمية).
وحين يتم إزاحة حاكم متفرد، فهذا لا يكفي لإدارة البلاد بصورة صحيحة، وهذا ما حدث في العراق، فالإطاحة بالطاغية صدام في 2003 لم تأتِ بالبديل الناجح، بل هناك من راح يردّد علنا إنه يريد النظام الرئاسي على الرغم من الاكتواء بنار الطغيان، السبب هنا لا يكمن في أفضلية الاستبداد بالحكم، وإنما بسبب الصراعات التي حدثت بين الثوار أو المعارضين، وغياب الثقة فيما بينهم.
كذلك استخدم هؤلاء السياسيون الذين حلّوا محل نظام الحكم المتفرّد، أساليب التمويه والتضليل فيما بينهم، كلّ هذا حدث بسبب المطامع المادية والفوز بالمناصب والنفوذ على حساب المبادئ، وقد أدى ذلك إلى ازدياد موجة الصراعات بين هؤلاء على الرغم من أنهم دخلوا الميدان السياسي بعنوان المعارضين أو الثوار، ولكن فقدان الثقة والتمويه خلق صراعات كثيرة فيما بينهم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(التمويه هو منشأ لكثير من البدع الموجودة, وهو سبب ما نشهده من صراعات بين المؤمنين).
الحاكم وخطورة حاشية المتملقين
ولم يتوقف الأمر عند التمويه والصراعات فقط، بل تطوّر إلى نوع من التبرير لأعمالهم الشائنة، فهناك من عمل في السياسة، واستحوذ على مناصب حساسة، أخذ يغوص في الجهل والتعامي، ويزيّن لنفسه كل الأعمال الخاطئة التي يقوم به، بالإضافة إلى حاشية المتملقين من حوله، وهكذا يمكن أن يتحول المسؤول المؤمن إلى التغافل عن أخطائه، والشعور بأنها صحيحة جهلا منه، فهو يتصوّر أن ما يقوم به وما يقرره هو عين الصواب وهو الحق بعينه، لكن الأمر ليس كذلك كما تدل النتائج.
وهنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(هل تظنّ أن أطراف الصراع من المؤمنين، كلهم يعلمون ما يعملون؟ ويعلمون أنه عصيان؟! كلا، بل كل يزيّن له أسلوبه ويتصوّر أنه على حقّ).
ولعل هذا الإصرار على تضييع فرصة إقامة نظام سياسي تعددي ناجح كبديل للنظام الفردي القامع، يرجع في معظم أسبابه إلى (المصلحة الذاتية)، والنظر إليها على أنها الهدف الأول لمن يتصدى للمسؤولية الخاصة بإدارة الدولة، وإلا ماذا يعني بقاء الفشل قائما، وتردي حياة الناس مستمرا، ونسب الفقر في ارتفاع مستمر، والأزمات تتناسل كأنها غير قابلة للتوقّف.
السياسي الذي لا يرى في عمله إلا مصالحه، ومصالح حزبه وخلق الاحترام المزيّف لنفسه، هو سياسي فاشل ومغرور وخاطئ، وهو مصاب بالتضخّم الذاتي لدرجة أن بعضهم يرى نفسه أكبر من الجميع، وأن رأيه فوق آراء الجميع، وهو بذلك لا يختلف عن الطاغية والحاكم المستبد بشيء، فالطاغية هو المصاب بالتضخم الذاتي والغرور الأعمى، وهو الذي يرى نفسه إلهاً فوق الجميع ويسعى لصنع الاحترام الكاذب لنفسه، فما الفرق بينه وبين السياسي الذي يفضّل نفسه ومصالحه على شعبه اليوم؟
سماحة المرجع الشيرازي يقول بوضوح:
إن (الذي يتّخذ هواه إلهاً فإنه يهتمّ لذاته قبل كل شيء, ولا يكترث إن عصى الله في هذا السبيل، فالمهم عنده توفير ذاته وتلبية رغباتها وتحقيق احترامها!).
ولذلك تم التنبيه على مثل هذه الحالات والسياسات الخاطئة لبعض المسؤولين الذين تبوّأوا مناصب حساسة وكبيرة، لاسيما المرجعية الدينة التي طالبتهم مرارا وتكرارا بوجوب إعادة حساباتهم، وتغيير سياساتهم، ووضع مصالح الناس فوق مصالحهم الشخصية أو الحزبية.
كما تمّ التأكيد على أهمية المحاسبة والمراجعة الذاتية اليومية، فالمسؤول عليه أن يعيد يوميا محاسبة نفسه، ويحاول بأقصى ما يمكن معرفة أخطائه بنفسه أو باستشارة الآخرين من المخلصين وليس المتملقين، وبعد معرفة مكامن الأخطاء وأنواعها وأسبابها، يمكن للإنسان أن يعالجها فيما لو توفّرت الإرادة الصالحة والصحيحة لتحقيق ذلك.
لهذا فإن من يؤمن بأسلوب المراجعة اليومية لقراراته، والمحاسبة اليومية لنفسه، والتركيز على الأخطاء التي وقع فيها، فإنه مع مرور الوقت لا يمكن أن يخطئ فيها مرة أخرى، بل سوف يتعلّم يوما بعد آخر اتخاذ القرارات الصحيحة، والابتعاد عن الوقوع في المغريات والانحرافات، وبهذا يكون قد قوَّم ذاته بنفسه، وتفوّق على دوافعه الشخصية أيّاً كان نوعها.
لا للإنفراد بحكم البلاد
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لا شكّ أن من يفكّر في عواقب أموره عدّة مرّات يتمكّن من إتقانها، ولا يخطئ فيها غالباً، كما أن من يكرّر مطلباً يتقنه ويتفوّق فيه).
يمكن للإنسان المسؤول على نحو الخصوص أن يخوض غمار الحرب ضد نفسه، لاسيما أن تركيبة النفس التكوينية للإنسان قائمة على الغرور بالنفس، ونهوض النزعة الطاغية في ذاته، فإن لم يكبحها ويطفئ شرارته في أول لحظة اشتعالها، فإنه سيكون عرضة لنزعة الطغيان، وسوف يتحول إلى مستبد يقبل بنفسه وعقله ويرفض الجميع.
هذا النوع من الناس لا يصلح ولا يصح أن يكون حاكما للبلاد، لأنه يقع فريسة لنفسه النازعة للطغيان، وبالتالي فإن حاكما من هذا النوع سوف تكون البلاد كلها تحت رحمته وضحية له، كما لاحظنا ذلك فيما حدث بالعراق أبان في حقبة الحكومات العسكرية الانقلابية، أما ما يجري اليوم في الشؤون السياسية، فإنه لا يمكن السكوت عليه، ولابد من إنقاذ البلاد من حكم الأفراد إلى حكم التعددية، ورفض القائد الأوحد.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد على أن:
(الإنسان كائناً من كان يطغى، أو في معرض الطغيان، فيجب ألاّ يستبد أيّ شخص بإدارة البلاد، ويجب ألاّ ينفرد أي إنسان بالحكم).
العراقيون بعد أن عانوا ما عانوه من ظلم من الحكومات القمعية، يستحقون نظاما تعدديا لا فرديا ولا مستبدا، وهذا يتطلّب من القادة والمسؤولين من الطبقة السياسية إعادة النظر في (أنفسهم)، لأن النفس إذا ساءت أمرت بالسوء، ولابد أن يفكر كل مسؤول بأنه بالنتيجة سوف ينتهي إلى الزوال، ولا يبقى منه سوى ذكرهِ وسمعتهِ والأعمال التي تدلّ عليه، فالروح تسمو، لكن البدن ماضٍ نحو الفناء.
ينصح سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بأنَّ: (عمر الإنسان وكيانه الظاهري، أي بدنه، سائر إلى الفناء والزوال، ولكن جنبته المعنوية وروحه، على العكس من ذلك، تسير نحو العروج والتعالي بدل الأفول والنقصان).
ولكن طالما أن الفرد مجبول على أن يطغى بالسليقة، فإنه من الأفضل عدم تسليم زمام أمور البلاد للفرد الحاكم، والسعي إلى إقامة نظام تعددي يضع الخطط اللازمة لإطلاق خطط تنموية جبارة تنهض بالعراق، وتجعله في المقدمة بين الدول، لاسيما أن مستلزمات النهوض التنموي متوافرة، والأمر يتوقف على بناء نظام سياسي ديمقراطي محصّن ضد الفردية والاستبداد.
اضف تعليق