يقف العراقيون اليوم في مفترق طرق، هذا ما يراه مهتمون وباحثون ومحللون، فأما العودة إلى المربع الأول، أو القفز خارج دائرة التخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا لن يتحقق من دون خطوات تنموية شاملة، تبدأ بالشباب كموارد هائلة، ولا تقف عند الشرائح الأخرى، وهذا بالطبع، يقع في خانة الممكن...
التنمية هي العمود الفقري للتطور الشامل، والمجتمعات التي تدرَّجت في بلوغها القمم، وضعت التنمية في أعلى أولوياتها، على أن يستمر التركيز على التنمية البشرية التي عدّها تقرير متخصص للأمم المتحدة بأنها: (نموذج هام من نماذج التنمية والتي من خلالها يمكن لجميع الأشخاص من توسيع نطاق قدراتهم البشرية إلى أقصى حد ممكن وتوظيفها أفضل توظيف في جميع الميادين).
وهناك علامات أو مؤشرات تؤكد فاعلية التنمية أو تنفيها، حيث تُظهر التنمية بوضوح الفارق بين الدخل ورفاهية الإنسان، من خلال قياس معدل الإنجازات في مجالات الصحة والتعليم والدخل، ويعطي دليل التنمية في بلد ما صورة أكثر وضوحا لحالة مجتمع ورفاهيته من الصورة التي يعطيها الدخل وحده.
فالتنمية البشرية مبنية في المقام الأول على إتاحة الفرصة للمواطن، بأن يعيش نوع الحياة التي يختارها ومزاولة العمل المناسب له، وعلى تزويد المواطنين بالأدوات المناسبة والفرص المواتية للوصول إلى تلك الخيارات التي يجدون فيها أنفسهم ومواهبهم وتطلعاتهم.
من ناحية أخرى، يُطلق مصطلح الشباب (ويسمى الشاب فتى والشابة فتاة) على مرحلة عمرية هي ذروة القوة والحيوية والنشاط بين جميع مراحل العمر لدى البشر، وتختلف تلك المراحل العمرية لدى بقية الكائنات الأخرى، حيث أن معدل النضج عند الفرد قد لا يتوافق مع عمره الزمني, والأفراد غير الناضجين يمكن أن يتوفروا في جميع الفئات العمرية، ولكن بشكل عام تبقى مرحلة الشباب هي الأكثر حيوية في حياة الإنسان.
المجتمعات المتقدمة تركّز على التوأمة بين التنمية والشباب، وتستحدث كل الآليات لجعل مواهب وطاقات الشباب مدعمة بكل والوسائل التنموية التي تستخلص منها ذروة النتائج الجيدة لصالح وفد المجتمع بالجديد المتغير من الطاقات بمختلف أنواعها ومضامينها ومجالاتها، لذلك ليس من السهل التصدي لهذه المهمة، فالأمر يتطلّب تخطيط علمي جاد ونوعي، وتنفيذ لا يقبل التلكّؤ، وهذا مدعاة لاستنهاض جهود النخب كافة كي تشارك بجدية من دون تعب أو تذمّر تجاه الصعوبات الكثيرة التي قد يواجهها المعنيون وهم يسعون بقوة لتطوير مهارات الشباب.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:
(إصلاح المجتمع ورعاية الشباب بحاجة لتحمّل الصعوبات وترك السلبيات والسعي المتواصل والكثير).
المجتمع من حالة الجمود للانطلاق
ليس خفيّا على أحد، أن تطوير المجتمع، ونقله من حالة الجمود والمراوحة في ذات المكان إلى مرحلة متقدمة، يعدّ عملا في غاية الصعوبة، حيث يستدعي بداية جهود التخطيط الدقيقة، مع توافر العوامل المادية والمعنوية والفكرية لعملية الاستنهاض والانتقال والتجديد، هذه الأعمال ليس من السهل القيام بها، إلا إذا كانت هناك إرادة قوية وجادة، وعازمة على نقل المجتمع وتغييره من حال إلى حال أفضل، وفي الغالب يكون الشباب هم الوسط المستهدَف للتحريك والاستثمار.
هنا تبرز العزيمة لمن يخطط، ولمن هم معنيين بهذا التغيير، فالصعوبات وعقبات التغيير والتطوير ليست سهلة في أي مقياس، لذلك فإن عدم توافر الإرادة والتخطيط والإصرار على التنفيذ مع توفير عوامل التحقّق، كل هذه لا يمكن أن تكون سهلة المنال، فهي تتطلب جهودا مضنية لمن يتصدى للتطوير، وعزيمة لا تُقهر، في هذه الحالة فقط، يمكن للشباب أن يتطوروا في العمل والفكر والمهارات، ويمكن للمجتمع أن يتطور بعزيمة وإصرار قادة التغيير.
يستشهد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) بالنص القرآني الكريم: (يقول القرآن الكريم: (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) سورة الشورى: الآية43.
ثم يضيف سماحته: (إن علماء البلاغة يقولون: الإضافة إلى الجمع يعني هذا ظاهر في العموم. فالعزم من الإنسان، والعزائم من الله عزّ وجلّ، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم).
هذه دلالة قاطعة على أن تغيير الشباب لا يأتي دون جهود كبيرة وحثيثة ومستدامة، مع توفير الظروف الملائمة لإحداث التطوير اللازم أو المطلوب، وما أحوج العراق اليوم لشبابه، بل وما أحوج الشباب العراقي لمن يأخذ بأيديهم نحو ناصية التطوّر من خلال تمهيد الأرضية المناسبة لقدراتهم ومواهبهم.
بعد الإهمال الذي عاناه الشباب في عقود مضت، ونعني بها عقود الدكتاتورية وصناعة الحروب المجانية، وتحويل الشباب إلى حطب لمحرقة تلك الحروب، آن الأوان أن يتغير كل شيء في ظل أجواء الحرية النسبية المتوافرة اليوم، وإن لم تكن مكتملة، لكنها من الممكن أن تشكل حافزا لاستنهاض الشباب، ووضعهم في الصدارة وهي المكانة التي تليق بهم، حتى يسهم شباب العراق في بناء المرحلة التي تضمن تغييرا جذريا يلحق العراق في قطار الدول المتقدمة.
فطالما أن الظروف باتت مواتية، كما يُفترَض – في ظل نظام ديمقراطي- وفي ظل رؤية تدعم أولوية التغيير والتطوير، وفي مقدمة ذلك وضع الخطوات التنموية اللازمة للشباب، فقد آن الأوان للتطبيق التنموي الفعلي، وتحويله من مجرد أمنيات أو أفكار مدوَّنة على الورق أو شاشات الحواسيب، إلى واقع ينهض بواقع العراق، ويمنح العراقيين أملا كبيرا في حياة أكثر جدوى وإنصافاً.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لم يكن العمل على تربية الشباب ممكنا في السابق – في عقود البعثيين السود- إلاّ بقليل، ولكن اليوم هذا العمل ممكن مع وجود الحريّة، رغم كل السلبيات، ورغم كل المشاكل).
ما المطلوب لتطوير طاقات الشباب؟
لا يمكن النظر إلى تطوير مهارات الشباب على أنها ضرب من المستحيل، صحيح أن واقعنا السياسي يعاني من مشكلات صعبة، لكن تغيير واقع العراق أمر لا يمكن إهماله أو تجاهله أو حتى تأجيله، نعم يوجد لدينا شباب لم تكتمل عقليته بعد، ولم يصل إلى المستوى الفكري الثقافي المطلوب، وقد يكون مثل هؤلاء الشباب حجر عثرة أمام التقدم والتغيير، ولكن علينا أن نبحث عن الأسباب التي جعلت من هؤلاء الشباب متذمرين، أو متقاعسين!.
إننا على الأغلب لم نقم بما يجب تجاههم، وخاصة الجهات والمؤسسات والمنظمات المعنية بتطوير الشباب واحتضانهم، ولذلك يجب أن تتنبّه الجهات (الرسمية، والمدنية) المعنية بتطوير مهارات وطاقات الشباب في العراق إلى هذا الخلل التنموي الجسيم، وعليها أن تباشر بسد الثغرات في هذا المجال، لاسيما أن الشباب العراقي توجد فيه عقول وطاقات متميزة إلى درجة القدرة على التغيير والتطوير.
يؤكّد هذا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(إنّ السبب في وجود الشباب الطائشين، وكذلك غير الملتزمين من الشباب، هو أنّه لم تتمّ الحجّة عندهم، ويوجد بين هؤلاء قابليات كبيرة ومتميزة).
بالطبع في حالة وضع الآليات والخطوات الصحيحة لتنمية الموارد الشبابية الكثيرة في العراق، فإن المجتمع سوف يصبح قاب قوسين من التغيير الذي يلائم ما يجري اليوم في العالم، ولكن هذا المنجز الكبير والحاسم، لا يمكن تحقيقه عبر الأمنيات أو التطلعات وحدها، العمل الجاد هو من ينجز ذلك، حتى الموقف السياسي ضد القمع والتجهيل وحده لا يكفي، وإن أدى ذلك إلى القتل، المطلوب أيضا هو التضحية بالوقت والإصرار على إرشاد الشباب وفتح أذهانهم على ما يصب في صالح التطوير الحاسم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(العراق بحاجة إلى التضحيات، ولا أقصد التضحيات بالرقاب فقط، بل التضحية بالوقت، ومنها الجلوس مع الشباب والاستماع إليهم وإرشادهم).
يقف العراقيون اليوم في مفترق طرق، هذا ما يراه مهتمون وباحثون ومحللون، فأما العودة إلى المربع الأول، أو القفز خارج دائرة التخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهذا لن يتحقق من دون خطوات تنموية شاملة، تبدأ بالشباب كموارد هائلة، ولا تقف عند الشرائح الأخرى، وهذا بالطبع، يقع في خانة الممكن، لكن يحتاج إلى خطوات تنموية موضوعة بإرادة جادة واعية وحاسمة.
اضف تعليق