الخروج من الأزمة الكبرى التي يعيشها العراق والعراقيون اليوم ممكنة في حال توافرت الشروط اللازمة لذلك، وأهمها عدم التفريط بالحرية التي عاشها العراقيون لأول مرة منذ عقود طويلة، وعدم التفريط بما حصلوا عليه من فرصة تاريخية لبناء دولتهم القوية المتقدمة، ولكن ينبغي أن يتم ذلك بعيدا عن العنف...
هناك مقولة شائعة يرددها مفكرون وكتّاب وحتى من الناس العاديين، تقول (الفشل يصنع النجاح)، والمقصود هنا أن الإنسان الذي يفشل في إنجاز هدف معين، عليه أن يبحث عن أساليب ومسارات أخرى كي يصل من خلالها إلى الهدف الذي يروم بلوغهِ، وهذا ينطبق على الدول والمجتمعات، ومن بينها العراق.
لقد فشل العراقيون لاسيما الطبقة السياسية في الوصول بالعراق إلى النظام الديمقراطي ودولة الحريات التي يمكنها أن تحمي حقوقهم وحرياتهم، وهو أمر يعلنه حتى العاملون في الميدان السياسي، وهذا الفشل الذي استمر خلال قرابة عقد ونصف من الحكم، ينبغي أن يكون حافزا للتغيير والبحث عن خارطة طريق تصل بالعراقيين إلى النظام السليم والدولة القوية الحرة المستقرة، وذلك بعد أنْ تستفيد من الفشل والأخطاء السابقة.
لماذا على الطبقة السياسية التسليم بوجوب التغيير السياسي بما يؤدي إلى نظام سياسي يحترم المواطن ويكفل حرية الرأي، فشعب العراق يشهد له التاريخ بأنه شعب مكافح متجدد وحين يشعر بالظلم يثور، وإذا تعرّض بلده للاحتلال يدافع عنه بشجاعة، وحين يقسو الحاكم عليهم، وتنتهك الحكومات حرياتهم وتغبن حقوقهم، فإنهم سيثورون ويطيحون بمن يسعى لسلب حقوقهم.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كلمة توجيهية قيّمة: (العراق بحاجة إلى شدّ حزام من قِبَل الجميع. فالعراق مظلوم، والشعب العراقي مظلوم. وقد ضرب هذا الشعب قبل قرن مثالا لا نظير له في التاريخ، وهذا يدركه ويفهمه من يعرف التاريخ).
لقد كانت الأسس السياسية التي بُنيَت عليها العملية السياسية خاطئة، ولم يضعها العراقيون بما يحمي تجربتهم الجديدة القائمة على احترام الدستور والتسليم بالمنهج التعدد، لذلك آلت أوضاع الشعب العراقي إلى التدهور على نحو مؤلم ومحزن، فهذا الشعب صاحب الأمجاد المشهودة، وصانع التاريخ الاستثنائي، لا يستحق ما يتعرض له اليوم من ظلم، صنعتهُ آفات الفساد التي ما تفتأ تعيث به وتوغل في استنزافه، وهو وضع لا يليق بالعراقيين الذين تعرّضوا لمختلف أساليب الانتهاك والحرمان وتجاوز الأنظمة والحكومات القمعية على حقوقه.
نهاية عصر القمع وتكميم الحريات
لذا هناك قضية بالغية الأهمية تقودنا إلى طرح السؤال الأهم الذي يتعلّق بأوضاع العراق، وخطوات المعالجة، مفاده كيف وماذا نفعل لانتشال العراق من مأزق الأوضاع الراهنة التي فُرضَت عليه؟، ومن هو المسؤول عن المشاركة في إنقاذ العراق والعراقيين مما يمرّون به من مآسٍ وويلات؟؟، الجواب، ليس هناك أحد مُستثنى من المسؤولية في مساعدة العراق على تجاوز أوضاعه العصيبة التي تحيط به وتشل قدراته، أما مستوى المسؤولية فهو يتبع ما مُتاح من صلاحيات ومشاركة في القرار، ولا يُستثنى حتى المواطن البسيط من ذلك، فالذي يتحمل المسؤولية أولا الطبقة السياسية ثم تليها المستويات الأقل في مراكز إدارة الدولة ومؤسساتها ومواردها النفطية الهائلة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إنّ الشعب العراقي اليوم لا يستحقّ الوضع الموجود حالياً، والكلّ مسؤول، كلّ بمقداره، وفي إطاره، في انتشال هذا الشعب الذي كان قرابة قرن تحت المطرقة وتحت المظالم).
مع بداية زوال الدكتاتورية، ومجيء نظام ديمقراطي تفاءل به العراقيون، سادت أجواء مختلفة عن القمع، فالجدير بالذكر هنا، أن العراق حفل بحريات لم تتوافر له في العهود والأنظمة السابقة، خصوصا في ظل حقبة الأنظمة السياسية التي فرضت نفسها على الشعب بأسلوب الانقلابات العسكرية، أو تلك التي حكمت العراق طوال عقود وفق نظام الحزب الواحد كما فعل البعثيون، لقد مرّ العراق بعقود عصيبة من التكميم وضرب الحريات ومصادرة الرأي، وقد عاش العراقيون بعد 2003 حريات ملموسة لا يستطيع أحد أن يكذّبه أو ينفيه، فقد بات المواطن قادر على قول ما يريد، ويمكنه انتقاد الحكومة من أعلى الهرم حتى قاعدته، وتوافرت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي ساهمت بقوة في إيصال صوت المواطن العراقي إلى الجميع، وهذه الحرية هي الميزة الأساسية لهذا العصر الذي بات فيه القمع سمة مرفوضة ومكشوفة للعالم.
المشاركة الفردية والجماعية بحماية العراق
لكن هل استفادت الطبقة الحاكمة من هذا الواقع، وهل تمكنت من وأد الفساد، وتمسكت بدولة الحريات والمؤسسات المستقلة، الجواب هذا لم يحدث بسبب أخطاء كثيرة من أسوئها وأخطرها التشبث بالسلطة وامتيازاتها، فالمطلوب من أهل الفكر، وأهل الشيمة والعزيمة أن يتعاونوا بقوة وتخطيط وتنظيم وتنسيق مسبق، لكي يوظفوا منسوب الحرية الجيد لصالح انتشال العراق والعراقيين من الأوضاع العصيبة التي تحيط بهم وتحاصرهم كالوباء، وهذا يتطلّب أن تكف الطبقة الحاكمة عن انتهاك الحقوق وتحافظ بل وتنشر العدالة الاجتماعية، وتتخلّص من شرنقة الفساد التي ضُرِبت وحيكت حول جسده، وتوغلت إلى روحه وشلّت الكثير من نقاط القوة فيه، بالنتيجة إذا تعاضد العراقيون ومناصروهم في كل مكان، لعبور هذه المرحلة العصيبة من تاريخ العراق، فإن هذه الخطوات إذا تمّ اتخاذها سوف تقود العراق إلى وشعبه بر الأمان.
الخروج من الأزمة الكبرى التي يعيشها العراق والعراقيون اليوم ممكنة في حال توافرت الشروط اللازمة لذلك، وأهمها عدم التفريط بالحرية التي عاشها العراقيون لأول مرة منذ عقود طويلة، وعدم التفريط بما حصلوا عليه من فرصة تاريخية لبناء دولتهم القوية المتقدمة، ولكن ينبغي أن يتم ذلك بعيدا عن العنف بكل أشكاله، واعتماد مبدأ تحمّل المسؤولية من قِبَل الجميع.
فضمان الوصول إلى نتيجة مشرفة لانتشال العراق، يتوقف على تعاون وتنسيق بين الجميع، على أن تتوافر الإرادة السياسية والشعبية لتجاوز المحنة الراهنة، على أن يكون الجهد تشاركي فردي وجمعي، رسمي وأهلي، مدني وحكومي، نخب ومن عامة الناس، وصولا إلى المطلوب في جعل العراق والعراقيين في المكانة التي يستحقونها من الرفعة والعلمية والتقدم ورفاهية العيش، مع أهمية وضع خريطة الطريقة وخطواتها التنفيذية المحددة بسقف زمني غير قابل للتسويف أو التملّص من المسؤولية التي تحتّم على الجميع اليوم أن يتصرّف في القول والعمل بما يوازي شرف حماية العراق من الذهاب إلى دوامة عنف لا يُحمد عقباها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (على أهل الشيم، وأهل الفكر، وأهل العزيمة أن يتعاضد بعضهم مع بعض، بالمقدار الممكن ولا أقول مئة بالمئة لأنه قد يصعب هذا الشيء، حتى يوفّقوا في انتشال العراق مما هو فيه الآن). كما أنَّ الجانب الأهم بعد التخطيط بعلمية والتنسيق المتبادل، هو معرفة وإيمان الجميع، أفراد أو مؤسسات أو منظمات، بأن العزيمة هي المرتكز والمنطلق الأقوى لتحقيق هدف انتشال العراق من وباء الفساد والتخلف، وكلما كان الإصرار والعزيمة أكبر، كان الاقتراب من تحقيق الهدف أسرع وأدقّ.
ومما أثبت أن العراقيين حريصون على بلدهم، تلك الخطوات الواضحة التي شكّلت خارطة طريق لتجاوز المحنة الراهنة، وهي خطوات بيّنتها المرجعية الدينية الشريفة لمن يتصدّر إدارة الدولة، ولكل الأطراف، بمن فيهم المواطنين المحتجين على سوء الإدارة الحكومية وتبعات ذلك عليهم، فالجميع بدأ يدرك المخاطر الكبيرة التي تهدد بسلامة العراق وأمنه، وعلى الجميع أن يؤدي الدور المطلوب منه في هذا الظرف العصيب.
اضف تعليق