الطغيان مفردة رافقت رحلة الانسان منذ بداية نشوئه، في الازمنة الغابرة لم يكن هناك عدل ولا مساواة، وكان منطق والظلم هو الذي يحكم العلاقات الفردية والجماعية المتبادلة، ثم تطور العقل، وتغيرت نظرة الانسان لطبيعة الحياة وعلاقاتها، وهبطت الاديان بتعاليمها الانسانية التي حاولت ان تروض عنصر الشر في الانسان، وفعلا حققت نجاحا كبيرا في هذا المجال، واشتغل الفكر الفلسفي ايضا على هذه النقطة، واصبح السلوك البشري اكثر تهذيبا مع مرور الوقت، ولكن بقي طغيان الحكام الظالمين قائما، فقد كان بعضهم ولا يزال يعارض بناء الدولة التي يحكمها العدل والمساواة، ولا شك أن السعي لبناء دولة العدالة يهدف الى القضاء الكلي على ظاهرة الطغيان الحكومي، لأن الطغيان والعدل لا يلتقيان، واينما كان العدل الحقيقي غاب الظلم والطغيان تماما، وهذا ما تهدف اليه الدولة العادلة، من خلال ارساء ركائز مهمة مثل تكافؤ الفرص واعتماد العدل والمساواة في التعامل مع الرعية، ونشر مبادئ التقارب الانساني بين افراد وجماعات المجتمع.
وهكذا كان الهدف الاول للفكر التنويري والسياسة المتوازنة هو القضاء على الطغيان بكل اشكاله، وهناك اساليب عدة لتحقيق هذا الهدف.
ويرى سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في معنى الطغيان بكتابه القيّم الموسوم بـ (الحرية في الاسلام): (يستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله تعالى، ومن هنا تُطلق كلمة الطاغوت على مَن كان في قمة الفكر المنحرف). فالطغيان هنا يمثل الانحراف عن النهج القويم والسليم للانسانية، لهذا وردت في الافكار الفلسفية نصوص كثيرة تنعت الطغيان بصفات تحطّ من قيمة هذا السلوك الذي يتجرد من الانسانية.
الفكر الاسلامي يرفض الطغيان
من يطلع على الفكر الاسلامي الأصيل، سوف يتأكد من أن الحرية التي تناقض الطغيان وترفضه، من اهم الركائز التي يرتكز عليها الفكر الاسلامي، لذلك من المؤكد أن من يهدف الى ترسيخ منهج العدالة، سوف يكون بحاجة الى النموذج كي يسير على هديه وخطواته، لذلك فإن دولة الاسلام في عصر الرسالة، عندما كان يقودها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، هي النموذج الامثل للسير على خطاها، والسبب ان الحرية والعدالة تكمن في جوهر الاسلام المناهض للطغيان والظلم بكل اشكاله.
من يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد على: (أنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية، فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها سوى الاسم، أمّا الإسلام فهو دين الحريات مبدأً وشعاراً، وقولاً وعملاً، وهذا موضوع طويل يتطلّب من الباحث أن يطالع الفقه الإسلامي بتعمّق، من أوّله إلى آخره، لكي يعرف كيف أنّ الإسلام التزم بمبدأ - لا إكراه في الدين- في مختلف مجالات الحياة). ولا شك أن هذا المبدأ يعد من أهم المقومات التي استند إليها الاسلام، في دولته ابان عصر الرسالة النبوية، ولعل النموذج الفريد الذي نلمسه في طيات التاريخ، يكمن في ذلك التعامل الانساني المتحضر من لدن القائد الاعلى للدولة الاسلامية مع خصومه واعدائه.
إذ نقرأ في الكتاب المذكور نفسه لسماحة المرجع الشيرازي قائلا: (على الرغم من كلّ ما فعله المشركون من أهل مكّة مع رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أنّ التاريخ لم يحدّثنا أنّه صلى الله عليه وآله أجبر ولو شخصاً واحداً على الإسلام، ولو أنّه صلى الله عليه وآله أراد أن يجبر أهل مكّة على الإسلام لأسلموا كلّهم تحت وطأة السيف، لكنّه صلى الله عليه وآله لم يفعل ذلك ولم يجبر أحداً على الإسلام).
وقد استخدم قائد الدولة الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، هذا الاسلوب المتحضر نفسه مع اهل مكة وهم الذين حاربوه وطاردوه وحاصروه وتسببوا بأشد الاذى له ولذويه، وحينما اشتد عود المسلمين وتم فتح مكة، كان الطغيان ابعد ما يكون عن قائد الدولة الأعلى، فنشأت هذه الدولة كأفضل نموذج يعتد به الجميع.
لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا حول هذا الجانب: (هكذا روى التاريخ عن سلوك نبينا صلى الله عليه وآله: يحاربه قومه مع ما يعرفونه من صدقه وأمانته ونبله وكرم أخلاقه، بمختلف أنواع الحروب القاسية ويطردونه من موطنه ومسقط رأسه، ثم يتركهم أحراراً وما يختارون من دين وطريقة حياة؟! لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يهديهم وينصحهم ويوضّح لهم طريق الرشد ويميّزه عن طريق الغيّ ثم يترك الاختيار لهم).
الإقناع سياسة مبدئية للاسلام
في جوهر المبادئ الاسلامية، حول ادارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، تكمن نقطة جوهرية، ان الاسلام لا يكره احدا على شيء، ولا يجبره على اعتناق غكر دون غيره، معتمدا اسلوب الاقناع طريقا لتحقيق هذا الهدف، فالاسلام يحترم عقل الانسان، لذلك منحه حرية التفكير والاختيار، فلا يوجد إجبار على الفكر او الانتماء او سواه، لأن الانسان ينبغي أن يكون حرا، ومقتنعا بما يرغب من فكر وأعمال، وفقا لمبدأ الحرية والعدل.
من هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في كتابه (الحرية في الاسلام) قائلا حول هذا الموضوع: (هكذا الحال في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله مع اليهود والنصارى. فلقد ردّ صلى الله عليه وآله عشرات الحروب والاعتداءات التي شنّها أهل الكتاب دون أن يجبر أحداً منهم على الإسلام. لم يسجّل التاريخ ولو حالة واحدة يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله قد أجبر ذمياً على اعتناق الإسلام، والتاريخ حافل بسيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله، وسجّل وحفظ الدقائق عن حياته).
ولنا ايضا نموذجا آخر في هذا المجال، يتمثل بقيادة الامام علي عليه السلام للمسلمين وكيفية نشره لمبدأ العدل، ومراعاته للدور المعارض للحكم، على الرغم من خطورة الاعداء واساليبهم الماكرة في الاساءة لدولة الاسلام، لذلك نلاحظ قول المرجع الشيرازي، إذ يركز سماحته على هذا الجانب قائلا: (لو انتقلنا من رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهل بيته سلام الله عليهم لرأينا الحالة نفسها. فها هو الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه قد كان مبتلىً بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل بل حتى تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقتلهم وسجنهم ونحو ذلك، وهو الحاكم الأعلى الذي بايعته الأمّة قاطبة).
لهذا يؤكد التاريخ أن الظلم تراجع كثيرا، والطغيان غاب تماما في الدولة النموذج، حتى العدو لا يتعرض للظلم في فكره أو فعله أو عمله، ومثالنا القاطع في هذا المجال، قيادة امير المؤمنين عليه السلام للدولة الاسلامية ومراعاته للجميع، سواءا المقربين منهم او الأعداء.
من هنا يذكّر سماحة المرجع الشيرازي بهذا المنهج، عندما يقول: (لقد أُقصي الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه خمساً وعشرين سنة ثم توجّهت إليه الأمّة وتزاحمت على بابه للبيعة حتى لقد وطئ الحسنان، ومع ذلك ذكر المؤرخون، سنّة وشيعة، أنّ الإمام بعدما بويع، ارتقى المنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وكان المسجد مكتظّاً بالناس الذين حضروا لاستماع أوّل خطبة لابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيّه وخليفته الحقيقي الذي أُبعد عن قيادة المسلمين خمساً وعشرين سنة، بعد أن آل إليه الحكم الظاهري، ثم أمر جماعة من أصحابه على رأسهم ابنه الإمام الحسن سلام الله عليه أن يذهبوا إلى الكوفة وينظروا هل فيها مَن لا يرضى بخلافته).
اضف تعليق