إن مقومات العيش بسلام وتدعيم السلم الأهلي تتطلب القضاء على العنف، ومواصلة الجهود الساعية إلى نشر ثقافة الحوار، وعدم اللجوء إلى القوة إلى في الحالات التي تستوجب ذلك، وغالبا ما تكون هناك نوافذ كثيرة غير العنف والقوة يمكنها حل أقوى وأصعب وأعقد الاختلافات...
هناك تعريفات عديدة للعنف جلّها يصب في مجال استخدام القوة من طرف على آخر، والعنف هو تعبير عن القوة الجسدية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى. وتشير استخدامات مختلفة للمصطلح إلى تدمير الأشياء والجمادات (مثل تدمير الممتلكات). ويستخدم العنف في جميع أنحاء العالم كأداة للتأثير على الآخرين، كما أنه يعتبر من الأمور التي تحظى باهتمام القانون والثقافة حيث يسعى كلاهما إلى قمع ظاهرة العنف ومنع تفشيها. ومن الممكن أن يتخذ العنف صورًا كثيرة تبدو في أي مكان على وجه الأرض، بدايةً من مجرد الضرب بين شخصين والذي قد يسفر عن إيذاء بدني وانتهاءً بالحرب والإبادة الجماعية التي يموت فيها ملايين الأفراد. والجدير بالذكر أن العنف لا يقتصر على العنف البدني فحسب بل على العالم أجمع.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يرى في كتاب (من عبق المرجعية) بأن:
(العنف هو استخدام القوة المعتدية).
فأي استخدام غير سليم وغير مبرر للقوة يعد من الاستخدامات غير الصحيحة ولا المقبولة للقوة التي يمكن في حالات محددة وموصوفة أن تكون مقبولة لأن الحاجة لاستخدمها أجبرت طرف ما على اللجوء إليها، وهذه الحالات نادرة جدا، ومنها وأهمها حالة الدفاع عن النفس من الفناء، فإذا كانت القوة المعتدية تهدد حياة شخص ما أو مجتمع أو دولة، فإنه من غير الممكن الوقوف بأيدٍ مكتوفة أمام خطر الفناء، لهذا يمكن تبرير استخدام القوة في حالة الدفاع عن النفس.
وانطلاقا من هذا الفهم المتَّفق عليه، تحرم الأديان والإسلام على وجه الخصوص العنف واستخدام القوة بشكل خاطئ أو غاشم، لهذا حُرِّم الاغتيال والغدر والقتل العمد وما سيتبع ذلك من تداعيات شديدة كإثارة الرعب وترويع الناس الآمنين ونشر الرعب بين النسيج المجتمعي، لأن مثل هذه الأفعال الغادرة والعنيفة تخلخل وتشوه السلم الأمني إن لم تقضِ عليه، فضلا عن كونها أفعال عنيفة تزرع الاضطراب بين الناس، وتجعل الخوف هاجسا يرافق نشاطهم حتى في ممارستهم أعمالهم العادية، لذلك تبذل الحكومات والدول جهودا وأموالا طائلة كي تحد من ظواهر العنف بمختلف أشكالها، حتى تقوي النسيج المجتمعي وتحمي السلم الأهلي وتنشر حالة من التعايش راسخة بين الجميع.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(يحرّم الإسلام العنف والإرهاب، والغدر والاغتيال، ويحارب كل ما يؤدّي إلى الذعر والخوف، والرعب والاضطراب في الناس الآمنين).
أما الأسباب التي تساعد على انتشار ظاهرة العنف بين الأفراد أو بين مكونات المجتمع، فإنها كثيرة منها الجهل الذي يعد من أكبر أسباب العنف مدعوماً بالتعصب والفهم الخاطئ للدين، ومن أخطر منتجاته صنع الدكتاتورية والاستبداد.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(تكمن جذور العنف في الجهل والعصبية، والفهم الخاطئ للدين، والاستبداد والديكتاتورية والحرمان الاجتماعي، والظلم من قبل الحكومات والأفراد الذي يولّد العنف المضاد، وغلق قنوات الحوار البنّاء، أو ضيق هذه القنوات).
تأثير العنف على الأهداف المقدسة
وقد لا يعي من يمارس العنف تلك الأضرار الكبيرة التي تنعكس عليه بالضد مما يخطط له أو يرومه من أهداف، فاللجوء إلى العنف قد يحقق بعض الأهداف الآنية، كأن يرعب الناس ويحد من الانتقاد، ويخرس ألسن الناس المعارضين، لكن هذه المنافع الآنية سرعان ما تزول لتتعرض الأهداف الكبرى إلى نكسات كبيرة.
إن ما يتحقق من اللجوء لاستخدام العنف غاليا ما يكون سريعا، فهو ينتهي من أي تأثير، أما على المدى البعيد فإن انعكاس أضرار العنف على مستخدميه سيكون قويا وضاريا، خصوصا إذا كانت الجهات التي تستخدم العنف بحجة الدين أو بغطائه.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حول هذه النقطة بالذات:
إنّ (العنف ضارّ بالأهداف المقدّسة الكبرى على المدى البعيد، وإن فرض أنه حقّق بعض المكاسب الآنية السريعة).
لذلك يُنصَح بالحذر من اللجوء إلى العنف في معالجة الإشكالات والاختلافات مع الآخرين، لأن أضرار القائمين بالعنف تحت غطاء الإسلام سوف تنعكس بقوة على الإسلام نفسه، وسوف يتشوه الإسلام في أذهان الجميع خصوصا أن وسائل الإعلام اليوم سريعة وواسعة تغطي العالم كله، فضلا عن وجود جهات معدية للإسلام تسعى للبحث عن أية حجة أو مبرر لتشويه الدين وإلصاق التهم به، فما بالك حينما تلجأ مسميات دينية إلى العنف ضد المختلفين معها، إن هذا المسار سوف ينعكس بأضرار بالغة على الإسلام.
يرى سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) أنه:
(من أضرار العنف... أنه يشوّه صورة الإسلام في الأذهان، ويعطي ذريعة للأعداء كي يسمّوا الإسلام بالعنف والهمجية والوحشية، ويخلقوا حاجزاً نفسياً بين الناس والإسلام).
كيف نكافح العنف في المجتمع؟
من هنا فإن أي استخدام خاطئ للقوة باسم الإسلام لا يمكن أن يصب في الاتجاه الصحيح، وحين يظن من يستخدم العنف باسم الإسلام ضد المختلفين معه بأنه يقطع دابر المعارضة فإنه على خطأ في تفكيره، لأن الحوار والتفاهم هو الطريقة الوحيدة التي ينصح بها الإسلام في مواجهة الأضداد، ولا يسمح الإسلام باستخدام القوة إلا في حالة واحدة هي دفع الخطر عن تهديد النفس، ما عدا ذلك فالإسلام يدعو إلى السلم ويطالب الجميع بالجنوح إليه والابتعاد عن العنف.
لذلك يجب أن يعي كل من ينتسب للإسلام بصورة صادقة بأنه غير مسموح له باستخدام القوة ضد المخالفين له في الرأي والفكر، أما الإصرار على استخدام العنف فهذا يعني إصرارا على تشويه صورة الإسلام محليا وعالميا، وهي نتيجة لا تخدمنا ولا تصب في بناء مجتمع متماسك قائم على الانسجام والتعايش والتعددية تحت مظلة العدل والإنصاف وسيادة الحق الذي يعلة ولا يُعلى عليه.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لا يصحّ استخدام العنف الذي قد يتخذ منفذاً للهجوم على الإسلام ولو في مواجهة العنف).
أما السبل والطرائق المادية والفكرية التي يمكن من خلالها مكافحة العنف بصورة جادة وجذرية، فهي تكمن في المساعي الجادة لنشر ثقافة اللاعنف بين جميع مكونات وشرائح المجتمع، وشرح الأبعاد الخطيرة لأساليب العنف التي تهدد ركائز السلم الأهلي بقوة، بالإضافة إلى أنها تهدد القبول بالتعددية لمنهج حياة يعيش الجميع في ظله بأمن وسلام وانسجام، بعيدا عن كل أشكال العنف، ولابد من توضيح الآثار الخطيرة والكبيرة للعنف على نفسية الفرد والمجتمع عموما، وهناك أضرار اجتماعية ودينية تنشأ بسبب استخدام القوة الغادرة، لأن أجواء التخويف والترهيب والاستبداد، تقوض دعامات الحرية وتهدد كينونة المجتمع وتدفع بالناس نحو التطرف الذي ينتج بدوره حركات متعصبة تلجأ إلى العنف والعنف المضاد وهذا سوف يدخل الدولة والشعب في دوامة من الاحتراب الجميع في غنى عنها.
يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(يمكن مكافحة العنف في المجتمع من خلال تعميم ثقافة اللاعنف، وتوضيح أن العنف نار تحرق الكل ولا تستثني أحداً، وبيان مضار العنف النفسية والاجتماعية والدينية، وتوفير الحريّة للمجتمع، فإنه في أجواء الكبت والإرهاب والاستبداد والدكتاتورية تنمو الاتجاهات المتطرّفة والحركات التدميرية).
إن مقومات العيش بسلام وتدعيم السلم الأهلي تتطلب القضاء على العنف، ومواصلة الجهود الساعية إلى نشر ثقافة الحوار، وعدم اللجوء إلى القوة إلى في الحالات التي تستوجب ذلك، وغالبا ما تكون هناك نوافذ كثيرة غير العنف والقوة يمكنها حل أقوى وأصعب وأعقد الاختلافات.
اضف تعليق