تتاح المنافسة بين جميع العناوين والمسميات، فهي مسموحة بالنسبة للأفراد مع بعضهم، وبين الجماعات فيما بينها، حتى في العائلة الواحدة يمكن أن يتنافس الزوج مع زوجته، ومن الممكن لأفراد العائلة أن يظهروا الدرجة نفسها من التنافس ولكن شريطة أن يكون ذلك في إطار الخير والفضيلة والتطور نحو الأحسن....
مما خلقه الله في تركيبة الإنسان لديمومة الحياة واستمرارها في التطور، عنصر (المنافسة)، فهي موجودة في ذات الإنسان، وهي التي جعلته يصل إلى ما وصل إليه من تقدم هائل في التكنولوجيا وفي الصناعات المختلفة وفي الأفكار والنظريات في العلوم كافة، ولولا المنافسة لما تقدَّم إنسان على آخر ولا أمة على أخرى قط، ولكن جعل الله في هذا العمل، شرطا لا يمكن تجاوزه وهو شرف المنافسة وعدم اعتماد أساليب ووسائل تُلحق غبنا وظلما بالأطراف الأخرى.
وهناك شرط آخر يجب أن تقترن به المنافسة أيضا وهو أن يجري التنافس بين الناس في مجالات الخير والفضيلة، وليس في عكسها، وتتاح المنافسة بين جميع العناوين والمسميات، فهي مسموحة بالنسبة للأفراد مع بعضهم، وبين الجماعات فيما بينها، حتى في العائلة الواحدة يمكن أن يتنافس الزوج مع زوجته، ومن الممكن لأفراد العائلة أن يظهروا الدرجة نفسها من التنافس ولكن شريطة أن يكون ذلك في إطار الخير والفضيلة والتطور نحو الأحسن.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، فصَّل في كلمة توجيهية قيمة أهمية التنافس للمسلمين والإنسانية كلها وحثّ المسلمين عليه، كونه أحد أهم الأسباب التي ترتقي بالإنسان والمجتمع في العلم والثقافة والسياسة والاقتصاد وفي عموم مجالات الحياة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حول المنافسة:
(القرآن يدعو كل البشر للتسابق في الخيرات والفضائل، بدءاً من العائلة المكوّنة من زوج وزوجة وإلى العائلة التي تضم أكثر، من بنين وبنات، وإلى العشائر وإلى القبائل وإلى الحكومات، وإلى الأمم والبشر ككلّ، رجالاً ونساء، فكلّ مأمور من الله عزّ وجلّ بأن يحاول أن يسبق الآخرين في الفضيلة).
الحكومات أيضا ينبغي أن تدخل في مدار المنافسة، وأن يسبق أحدها الأخرى ولكن كما ذكرنا سابقا، هذا التنافس يدور في إطار الخير والتطور لصالح الإنسانية، فليس الأفراد وحدهم ولا الجماعات ولا المؤسسات ولا المسميات التنظيمية الأخرى وحدها يشملها التنافس والسباق نحو الأفضل، فحتى الحكومات مشمولة بذلك، بل هي في مقدمة المتنافسين لتحقيق أمل الإنسانية في حياة أرقى.
كما نلاحظ في قول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(وهكذا على المستويات الرفيعة، كالحكومات، الإسلامية وغير الإسلامية. فإذا كان مستوى الجرائم في حكومة ما عشرة بالمئة في سنة، تحاول الحكومة الأخرى، والحكومات الأخرى بأن تكون النسبة عندها أقلّ من عشرة بالمئة).
الأخلاق هي الأساس في الحكم والإدارة
إن الشرط القاطع في المنافسة بين الأفراد مع بعضهم، أو بين الحكومات أو سواها، هي أن تكون ضمن دائرة الفضيلة والأخلاق السامية، وهذا ما أوجب بأن تكون المنافسة قائمة على الشرف في التنافس مع الندّ أو مع المقابل، وهذا لا يمكن أن يتحقق من دون عنصر الأخلاق، لأن غياب هذا العنصر أو الشرط عن المنافسة سوف يقلبها من مفهومها واطارها ومعناها إلى شيء آخر نقيض لها تماما، حيث تتحول إلى صراع غير شريف، لأن الصراع يمكن أن تُستخدَم فيه جميع الأساليب غير المشروعة، فالمهم لمن يتصارع مع الآخرين أن يكسب الجولة بغض النظر عن الوسائل والأساليب التي يستخدمها.
على العكس تماما من المنافسة التي تتطلب عنصر الأخلاق وحضوره في جميع مراحلها، فالحكومة أية حكومة كانت إذا تخلّت أو أقصت الأخلاق في إدارتها ونشاطاتها، إنما يعني ذلك لجوئها إلى التعسف والظلم والإقصاء والتعذيب وتدمير المنافس لها حتى لو كان يقع ضمن مسؤولياتها، لذلك تنتج الصراعات الدامية بين الحكومات وشعوبها، ولهذا كانت ولا تزال حكومة الرسول صلى الله عليه وآله هي النموذج الأقوى لجميع الحكومات من حيث اعتمادها الأخلاق في إدارة شؤون الأمة.
وهذا ما أكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(الأخلاق كانت هي الأساس في حكومة رسول الله صلى الله عليه وآله، ويقول القرآن الحكيم للبشر تعلّموا من رسول الله صلى الله عليه وآله. وهكذا حكومة أمير المؤمنين صلوات الله عليه المباركة في الكوفة التي حكم منها أكبر منطقة في دنيا ذلك اليوم).
ولكن ماذا عن الحكومات الإسلامية، هل اعتمدت النموذج الأفضل، وهل كان شرط الأخلاق حاضرا في إدارتها ونشاطاتها المختلفة؟، الجواب يمكن أن نحصل عليه من الواقع الذي تعيشه تلك الحكومات التي لم تنصف شعوبها حيث السلبيات تحيط بها وتغلّف أفعالها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(من المؤسف كثيراً أن نرى في الدول الإسلامية الألوف من السلبيات والملايين منها. فلماذا يزداد الفقر يومياً في كل الدول، وبالذات في الدول الإسلامية؟).
الكل مسؤول عن ترتيب مقدمات الوجود
إن الحكومات بالنتيجة هي عبارة عن أفراد، وهؤلاء جزء من الأمة أو الشعب، وبالتالي فإن المسؤولية تبدأ من الأفراد، أي أن كل فرد منّا مسؤول عن التنافس الأفضل في المجالات التي ينشط ويعمل فيها، على أن لا ينسى الشرط الأساس وهو أن تحكم منافسته للآخرين بالأخلاق، وأن تسود معايير الإنصاف والعدالة في هذه المنافسة التي قد تتم بين الأخ وأخيه أو الابن وأبيه أو الزوج وزوجته، أو الاستاذ وتلميذه، وهكذا فإن الجميع يدخلون ساحة المنافسة، بل يجب عليهم دخولها، فلا يصح أن يعزل إنسان نفسه عن هذه الساحة ويبقى متفرجا لأنه في هذه الحالة يتحول إلى عبء على الكل، فالمنافسة مطلوبة بشكل قاطع ولكن ضمن المعايير السليمة، وضمن الرؤية التي تؤكد على أن الجميع مسؤول عن التغيير والتطوير.
إذ يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على:
(إنّ الكل مسؤول، كلّ بنسبته، وكلّ بحسبه. فحسب الاصطلاح العلمي، على الكل أن يرتّبوا مقدّمات الوجود، حتى يصل البشر، وبالخصوص المسلمون، إلى التنافس في الخير وفي الفضيلة وفي الأخلاق).
فالكل مسؤول ولا عذر لديه، وعليه أن يركّز على سلامة الأساليب والغايات في المنافسة، وينبغي أن يبدأ كل فرد بنفسه، وكل عائلة تبدأ بنفسها، وكل حكومة ايضا يجب أن تبدأ بنفسها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، أي أن الفرد أو الحكومة إذا كانت غير ملتزمة بمعايير المنافسة، فإنها لا يمكن أن تنجح في مساعيها، أما إذا تخلّت عن ميدان المنافسة فهذا يعني أنها ركنتْ إلى العجز وسبقتها الحكومات الأخرى والضحية سيكون شعبها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(كل يبدأ من نفسه، وكل يبدأ من داره، وكل يبدأ من عائلته، ومن محلّته، ومن قريته ومن مدينته. نعم هي مسؤولية الحكومة، ومسؤولية المفكّرين، وفي الوقت نفسه هي مسؤولية كل رجل وكل امرأة أيضاً، وكل شاب وفتاة، كل بنسبته).
والسؤال الذي يطرح نفسه مع ما يعانيه المسلمون من تخلف وتراجع عن دورهم التاريخي هو: من المسؤول عن هذا التراجع، وما الذي أدّى إلى انخفاض وتدنّي معايير الفضيلة والأخلاق، ثم من الذي يتحمل مسؤولية نهضة المسلمين بالفضيلة والأخلاق، ومن أين تكون بداية النهوض، إذ يتساءل سماحة المرجع الشيرازي، أليس المسلمين هم المسؤولين بالنهوض بأنفسهم، ثم أليس الصحيح أن يبدأوا بأنفسهم؟، في الحقيقة لا يوجد بديل آخر عن البدء بالنفس، ولا يمكن أن نعثر على طريقة أخرى للنهوض إلا إذا بدأنا بأنفسنا، لهذا فإننا جميعا بلا استثناء مسؤولون عن النهوض بأنفسنا واللجوء الكامل للفضيلة والأخلاق وجعلها السبيل الأساس والأول الذي يعيدنا إلى سابق عهدنا ومكانتنا بين الأمم جميعا.
لذا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في كلمته هذه قائلا:
(من ينهض بالمسلمين إلى الفضيلة والأخلاق؟ أليسوا أنفسهم هم؟ ومن أين يبدأون؟ أليس البدء من أنفسهم؟. إذن لنحاول جميعاً، أن نعمل بالآية الكريمة التي ابتدأنا بها الكلام، من دارنا ومن بيتنا ومن عائلتنا إلى قريتنا ومدينتنا وإلى حكومتنا وإلى الحكومات الإسلامية، وإلى الحكومات كلّها في العالم).
اضف تعليق