ويعد شهر رمضان من أنسب الأوقات لردع الشهوات بقوة مضاعفة، حيث يتمكن الإنسان من ضبط شهواته وتنظيف أدرانه وتصحيح أخطائه، وأعلى معدّل للتوبة وانتهاج الصواب يتم تسجيله في هذا الشهر لما تنطوي عليه أجواؤه من إيمان وتقوى وردع للنفس...
الزمن بتفاصيله وتوقيتاته الصغيرة والكبيرة، له طابعه المختلف، حتى الشهور لا تشبه بعضها البعض، وثمة الفصول الأربعة التي تتوزع بين البرد والحرارة والاعتدال، الشهور أيضا لها سماتها الخاصة، فشهر رمضان الكريم يختلف عن كل الشهور الأخرى، ويكاد يكون التوقيت الوحيد الذي يكسر رتابة الزمن المتتابع، فالزمن يمضي كالنهر، منسابا رتيبا متشابها، وشهر رمضان هو الذي يكسر هذه الرتابة، فيصبح الزمن في هذا الشهر مختلفا متجددا فيه مزايا لا يمكن أن نجدها في حوزة شهور السنة الأخرى.
أما حين نبحث في أوجه الاختلاف فهي بالغة الأهمية كونها تتعلق بمعنويات الناس وإعلاء شأن البشر، لذا يعد شهر رمضان المبارك من أهم الفرص التي تتاح أمام الإنسان المسلم على وجه الخصوص، لكي يتمكن من خلق التوازن بين المادي والروحي في ذاته، وذلك من خلال استثمار الجوانب الروحية وتعميقها في هذا الشهر، حيث اللجوء الى الزهد والتقوى وعيش حياة الكفاف وتدعيم الجانب الروحي، بكل ما يتوفر من أمور تعمق الروح وتصونها من الزلل وتدعم إيمان القلوب.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كلمة توجيهية إلى المسلمين:
(على المرء أن يعي جيّداً كيف يقضي أيام شهر رمضان المبارك. وعليه أيضاً أن يستفيد من آثار ومعنويات هذا الشهر المبارك بأن يتحلّى ويلتزم بتقوى الله تبارك وتعالى وبالورع، كما أمر القرآن الكريم بذلك).
فهذا الشهر الذي يتميز بكسر الرتابة الزمنية على مدى الأيام والشهور المتتابعة، يقدّم تزكية النفوس أولا، وذلك من خلال تدعيم التقوى في أبعادها كافة، ومنها أيضا إسهام المسلم الوعي في عملية الإرشاد، وزيادة وعي الناس في عموم مجالات الحياة وأنشطتها المختلفة، ابتداءً من فهم وهضم وإدراك التعاليم الدينية والشرعية والتمسك بها، وصولا الى العمل بما يحفظ حقوق الجميع من التجاوز، فالمسلم (من سلم الناس من لسانه ويده)، لذا على الإنسان أن يستثمر هذا الشهر الكريم لبناء نفسه أفضل البناء، مع مساعدة الآخرين لتحقيق هذا الهدف، خصوصا أن قيم وملَكات التقوى والتي تقود بدورها إلى تعضيد الإنصاف والتكافل وتزكية النفس وغير ذلك مما يعد من منتجات هذا الشهر الكريم.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي:
(إن للتقوى أبعاداً متنوّعة ومختلفة، وأهمّها تزكية النفس، وممارسة التبليغ وإرشاد الناس. ولا شكّ أن تزكية النفس هو واجب عيني والجميع مكلّفون به. ولذا يجب على الإنسان أن يعدّ نفسه ويبنيها بشكل جيّد حيث يتمكّن ويستطيع السيطرة عليها تجاه صعوبات الحياة، وقبال المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية).
انفلات الرغبات لا يحمد عقباه
ليس الزمن وحده بما يتصف به من ديمومة أزلية، هو الذي يتسبب بالمشكلات للإنسان، فهناك التركيبة التكوينية للبشر، هي أيضا تشترك في صنع المشكلات والعقبات له، فالرغبات تدفع بالجسد الى ارتكاب ما لا يحمد عقباه، فالنفس تريد المزيد بلا توقف، لذا يشكل الوقوف أمام انفلات الشهوات السبيل الوحيد لخلاص الإنسان من الوقوع في حضيض الرغبة والخطأ الخطير، ويعد شهر رمضان من أنسب الأوقات لردع الشهوات بقوة مضاعفة، حيث يتمكن الإنسان من ضبط شهواته وتنظيف أدرانه وتصحيح أخطائه، وأعلى معدّل للتوبة وانتهاج الصواب يتم تسجيله في هذا الشهر لما تنطوي عليه أجواؤه من إيمان وتقوى وردع للنفس.
ينصح سماحة المرجع الشيرازي قائلا: (يجب على الإنسان أن يسعى إلى أن لا يزلّ أمام الشهوات، وأن لا يكون ممن لا تشمله الرحمة الإلهية الواسعة، وأن لا يكون من الملعونين، لا سمح الله، في هذا الشهر المبارك).
ومع أن الناس في حالة تباين بشأن قدرتهم على ضبط النفس وتحجيم الرغبات، إلا أن البشر بحاجة دائمة للسيطرة على نفسه وليس العكس، مع الأهمية القصوى لتعميق التقوى واعتماد الزهد كأسلوب أوحد في الحياة العملية اليومية للإنسان، فكل له إرادته ودرجة سعيه، وكلما كان ساعيا بجد في هذا الاتجاه سيقترب كثيرا من درجة النجاح والتميّز، بحسب قوة الإرادة وصلابتها ووقوفه إلى جانب الصواب.
لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا:
(نعم كل إنسان يختلف عن غيره في مجال تزكية النفس وتهذيبها، فكل إنسان يحصل على ملكة التقوى ويرتقي الدرجات العالية في هذا المجال حسب إرادته وسعيه).
الصبر والمطاولة يؤديان للنجاح
من القضايا المهمة التي ينبغي أن يتشبث بها الإنسان والصفات التي يجب أن يتحلى بها، هما المطاولة والصبر، لأن طريق التقوى طويل وشاق ويتطلب صبرا متواصلا، وأي تلكّؤ يحدث قد يطيح بالإنسان في الحضيض، وهناك أمثلة كثيرة تؤكد تراجع التقوى لدى نفوس كانت قوية ولكنها تعرضت للضعف فسقطت في وحل الانحراف.
هذا ما يؤكد عليه سماحة المرجع الشيرازي في قوله:
(لقد ذكر القرآن الكريم والروايات الشريفة قصصاً عن بعض الناس الذين انتهت عاقبتهم إلى الخير، وبعضهم انتهت عاقبتهم بالسوء)، ويضيف سماحته قائلا:
(يجب على الإنسان أن ينتبه جيّداً ويحذر من أن لا يضيّع ولا يفني أعماله الصالحة وتقواه بسبب عمل طالح صغير يصدر منه، أو سيئة صغيرة, تصدر منه). وكما نلاحظ قد تكون الشهوة من أخطر ما يمكن أن يتعرض له الإنسان، وقد يسقط في الرذيلة.
إذ يرى سماحة المرجع الشيرازي: (إن الشهوات بمثابة ذئب مكشّر عن مخالبه وأنيابه للافتراس، حيث يمكن تشبيه شهوة الأموال، والقدرة، والجاه، والمقام الاجتماعي وأمثال ذلك بمخالب الذئب وأنيابه. فحريّ بكل واحد منّا أن يسأل نفسه: إن خلت أعمالي وتصرّفاتي وسلوكي من التقوى، فكيف ستكون عاقبتي؟).
لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على حتمية تركيز الإنسان في شهر رمضان، على امتلاك التقوى، والصبر الحثيث لتزكية النفس، حيث يصف سماحته شهر رمضان بأنه ربيع التزكية، وفي كلمته التوجيهية، يحث سماحته، جميع الفضلاء والمبلغين على أهمية القيام بدور التبليغ التوجيهي الصحيح، وأن يعملوا ما بوسعهم لكي يصلوا بالأفكار السليمة للناس كي يتسنى لهؤلاء تصحيح مساراتهم في الفكر والعمل.
فيخاطب سماحة المرجع الشيرازي الفضلاء بقوله:
(أنتم أيها الفضلاء والمبلّغون يجب عليكم أن تنيروا الطريق للناس وتهدوهم إلى السبيل الواضح والجادّة المستقيمة، وأن تزيلوا الشبهات والانحرافات التي يتعرّض لها أفراد المجتمع). وختاما يضيف سماحته: (ليعلم الطلبة والمبلّغين أنه في عالم اليوم هناك آلاف القنوات الفضائية، تمارس تضليل الناس والدعاية للطّغاة).
وقد يتباطأ احدهم في الاستزادة من التقوى، والصلاح، وعمل الاخر الى اجل غير مسمى، على امل أن العمر لا يزال مفتوحا امامه، ولكن هذا التصوّر خاطئ تماما، فالانسان لا يعلم ابدا متى وأين يلقى حتفه، لهذا عليه التزوّد من التقوى والايمان والعمل الجيد في عموم ايامه وسنوات عمره بغض النظر عن كونه شابا او كهلا او شيخا طاعنا في السن، لأن الجميع عليهم أن ينتهزوا فرصة الحياة من اجل التقرب الى الله تعالى، ورمضان المبارك هو الفسحة الزمنية الانسب لتحقيق هذا الهدف.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي: (إذن يجب على الإنسان الذي لا يعرف كيف ستكون عاقبته ومصيره، ولا يعرف أين ومتى يأتيه الأجل المحتوم، يجب عليه، بل ومن الأفضل له، أن يلتزم بتقوى الله تعالى دوماً، وليس في شهر رمضان المبارك فقط).
اضف تعليق