q
العملات الرقمية المشفرة تتطلب كمية هائلة من الطاقة الخام لتأمينها حيث تقترب عمليات تعدين البيتكوين في أيسلندا من استهلاك كم من الطاقة أكبر
NOURIEL ROUBINI / PRESTON BYRNE

 

نيويورك ــ يبدو أن التنبؤات بفشل البيتكوين وغيرها من العملات الرقمية المشفرة تستفز عادة دفاعا أعرض اتساعا عن تكنولوجيا سلسلة الكتل (blockchain) التي تستند إليها هذه العملات. تقر هذه الحجة بفشل أكثر من نصف كل "العروض الأولية للعملة" حتى يومنا هذا، وسوف تفشل أيضا أغلب العملات الرقمية المشفرة التي يتجاوز عددها 1500 عملة، لكن تكنولوجيا "سلسلة الكتل" سوف تعمل رغم ذلك على إحداث ثورة في عالَم التمويل والتفاعلات البشرية في عموم الأمر.

الواقع أن سلسلة الكتل تُعَد من أكثر التكنولوجيات ضجيجا دعائيا على الإطلاق. فبادئ ذي بدء، تُعَد سلسلة الكتل أقل كفاءة من قواعد البيانات القائمة. وعندما يقول شخص ما إنه يقوم بتشغيل شيء ما "على سلسلة الكتل"، فإن ما يعنيه عادة هو أنه يشغل نموذجا لتطبيق برمجي مستنسخ عبر عدد كبير من الأجهزة الأخرى.

ومن المؤكد أن مساحة التخزين والقوة الحاسوبية المطلوبة أعظم كثيرا، وزمن الوصول أطول، مقارنة بأي تطبيق مركزي. وتتطلب سلاسل الكتل التي تتضمن تكنولوجيات "إثبات الحصة" أو "المعرفة صِفر" التحقق من جميع المعاملات من خلال التشفير، مما يؤدي إلى إبطائها. وتثير سلاسل الكتل التي تستخدم "إثبات العمل"، كما هي حال العديد من العملات الرقمية المشفرة، مشكلة أخرى: فهي تتطلب كمية هائلة من الطاقة الخام لتأمينها. وهذا يفسر لماذا تقترب عمليات "تعدين" البيتكوين في أيسلندا هذا العام من استهلاك كم من الطاقة أكبر من استهلاك كل الأسر الأيسلندية مجتمعة.

ربما تكون سلاسل الكتل منطقية في الحالات حيث تكون المقايضة بين السرعة/التحقق مستحقة بالفعل. لكن نادرا ما يجري التسويق لهذه التكنولوجيا من هذا المنظور. بل تبذل مقترحات الاستثمار في سلاسل الكتل بشكل روتيني وعودا جامحة بالإطاحة بصناعات بأسرها، مثل الحوسبة السحابية، دون الاعتراف بأوجه القصور الواضحة التي تقيد التكنولوجيا.

ولنتأمل هنا العديد من المخططات التي تستند إلى ادعاء مفاده أن سلاسل الكتل تمثل "جهاز كمبيوتر عالمي" موزع عالميا. ويفترض هذا الزعم أن البنوك، التي تستخدم أنظمة تتسم بالكفاءة بالفعل لمعالجة الملايين من المعاملات يوميا، لديها سبب يجعلها تنتقل إلى عملة رقمية مشفرة واحدة أبطأ وأقل كفاءة بشكل ملحوظ. ويتعارض هذا مع كل ما نعرفه عن استخدام الصناعة المالية للبرمجيات. إذ تحتاج المؤسسات المالية، وخاصة تلك العاملة في مجال التداول الخوارزمي، إلى معالجة سريعة وفعّالة للمعاملات. ولتحقيق هذه الغرض، لن تكون سلسلة كتل موزعة عالميا مثل إثريوم مفيدة على الإطلاق.

يتلخص افتراض خاطئ آخر في أن سلسلة الكتل تمثل شيئا أقرب إلى بروتوكول عالمي جديد، مثلما كانت الـ TCP-IP أو HTML لشبكة الإنترنت. ومثل هذه المزاعم تعني ضمنا أن سلسلة الكتل ستخدم كأساس لأغلب التعاملات والاتصالات على مستوى العالَم في المستقبل. ومرة أخرى، هذا غير منطقي عندما نفكر في الكيفية التي تعمل بها سلسلة الكتل فعليا. إذ تعتمد سلاسل الكتل ذاتها على بروتوكولات مثل TCP-IP، وعلى هذا فمن غير الواضح كيف قد تعمل كبديل.

فضلا عن ذلك، وخلافا للبروتوكولات على مستوى القاعدة، تُعَد سلاسل الكتل "وضعية"، بمعنى أنها تخزن كل اتصال صحيح أرسل إليها. ونتيجة لهذا، تحتاج سلاسل الكتل الجيدة التصميم إلى النظر في القيود التي تحد من قدرة أجهزة المستخدمين وتوفر الحماية ضد الرسائل المزعجة. ويفسر هذا لماذا يعالج جوهر البيتكوين، عميل برمجيات البيتكوين، من خمس إلى سبع معاملات فقط في الثانية، مقارنة بتطبيق الفيزا، الذي يعالج بشكل جدير بالثقة 25 ألف معاملة في الثانية.

وكما لا يمكننا تسجيل كل معاملات العالَم في قاعدة بيانات مركزية منفردة، فلن نتمكن أيضا من تسجيلها على قاعدة بيانات موزعة منفردة. الواقع أن مشكلة "قياس سلسلة الكتل" تظل غير محلولة، ومن المرجح أن تظل كذلك لفترة طويلة.

ورغم أننا نستطيع أن نتأكد إلى حد ما من أن سلسلة الكتل لن تتمكن من إزالة الـ TCP-IP، فإن مكونات بعينها من سلسلة الكتل ــ مثل تيزوس أو لغات العقد الذكية إثيريوم ــ ربما تكون قادرة في نهاية المطاف على وضع معيار لتطبيقات بعينها، تماما كما فعلت إنتربرايز لينوكس وويندوز لأنظمة تشغيل الكمبيوتر الشخصي. لكن الرهان على "عملة" بعينها، كما يفعل العديد من المستثمرين حاليا، ليس كمثل الرهان على تبني "بروتوكول" أكبر. ونظرا لما نعرفه عن كيفية استخدام البرمجيات المفتوحة المصدر، فليس لدينا من الأسباب ما يجعلنا نعتقد أن قيمة تطبيقات محددة لسلسلة الكتل في نظر الشركات قد تتركز رأسماليا في عملة واحدة أو عدد قليل من العملات.

يتعلق زعم كاذب ثالث بمدينة فاضلة "غير جديرة بالثقة" من المفترض أن تخلقها سلسلة الكتل من خلال إزالة الحاجة إلى وسطاء ماليين أو غيرهم من الوسطاء الجديرين بالثقة. وهو تصور سخيف لسبب بسيط: فكل عقد مالي موجود اليوم يمكن تعديله أو خرقه عمدا من قِبَل الأطراف المشاركة. ومن المؤكد أن أتمتة هذه الاحتمالات بالاستعانة بمصطلحات جامدة "غير جديرة بالثقة" أمر غير وارد تجاريا، خاصة وأنه يتطلب أن تكون كل الاتفاقات المالية مضمونة نقدا بنسبة 100%، وهو جنون تام من منظور تكلفة رأس المال.

وعلاوة على ذلك، تبين أن العديد من تطبيقات سلسلة الكتل التي ربما تكون لائقة في عالم التمويل ــ مثل التوريق أو مراقبة سلاسل الإمداد ــ ستظل تتطلب وجود وسطاء رغم كل شيء، لأن الأمر لن يخلو حتما من ظروف حيث تنشأ احتمالات غير منظورة تستلزم ممارسة السلطة التقديرية. والأمر الأكثر أهمية الذي قد تفعله سلسلة الكتل في مثل هذا الموقف هو ضمان اتفاق كل أطراف المعاملة في ما بينهم على وضع المعاملة والتزاماتهم إزائها.

الآن حان وقت إنهاء الضجيج الدعائي. إن عملة البيتكوين أشبه بديناصور بطيء مسرف في استهلاك الطاقة ولن يتمكن أبدا من معالجة العمليات بسرعة أو بتكلفة زهيدة كما تفعل جداول إكسل. والواقع أن خطط إيثريوم لإنشاء نظام توثيق غير آمن لإثبات الحصة من شأنها أن تجعله عرضة للتلاعب والاستغلال من قِبَل المطلعين النافذين من الداخل. وقريبا سوف يحل نظام سويفت، وهو اتحاد لا يطبق تكنولوجيا سلسلة الكتل وتستخدمه كل المؤسسات المالية الكبرى في العالَم بالفعل، محل تكنولوجيا ريبل للتحويلات المالية بين البنوك عبر الحدود. وعلى نحو مماثل، بدأت أنظمة الدفع الإلكتروني المركزية التي تنفذ المعاملات بلا تكلفة تقريبا ــ فاستر بايمنتس، وعلى باي، ووي تشات باي، وفينمو، وباي بال، وسكوير ــ تستخدم بالفعل من قِبَل المليارات من البشر في مختلف أنحاء العالَم.

الواقع أن "هوس العملة" اليوم لا يختلف عن هوس السكك الحديدية في فجر الثورة الصناعية في منتصف القرن التاسع عشر. فسلسلة الكتل في حد ذاتها ليست ثورية على الإطلاق. لكنها إذا اقترنت بالأتمتة الآمنة عن بُعد للعمليات المالية والآلية، فربما تخلف عواقب بعيدة المدى.

في نهاية المطاف، سوف تقتصر استخدامات سلسلة الكتل على تطبيقات محددة ومعقدة وتتطلب الشفافية ومقاومة العبث أكثر مما تستلزم السرعة ــ على سبيل المثال، الاتصال مع السيارات الذاتية القيادة أو الطائرات بدون طيار. أما عن أغلب العملات، فإنها لا تختلف كثيرا عن أسهم السكك الحديدية في أربعينيات القرن التاسع عشر، والتي أصابها الكساد عندما انفجرت الفقاعة ــ كما تنفجر أغلب الفقاعات.

* نوريل روبيني، الأستاذ في كلية ستيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك/بريستون بيرن، زميل معهد آدم سميث وعضو وحيد في تومرام للاستشارات
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق