ثمة تداعيات خطيرة يفرزها المرض الروحي حين يصيب الإنسان، بعد أن يزداد الأخير إيغالا بالجشع واللهاث المحموم وراء المادة، تاركا روحه عرضة لأخطر الأمراض النفسية التي تعيث بها فسادا، من دون أن يتنبّه أو يعبأ بهذا الداء الذي يصيب الروح الخالية من الإيمان والصبر والقيم والمبادئ التي تحمي الإنسان من الانزلاق في هاوية المحرمات والخطيئة التي تستولي على روحه وتضعفها، في الوقت الذي تتضخم لديه النزعات المادية بشكل مستدام.
وفي نظرة متفحصة لما يحيط بالإنسان، فإنه سوف يكتشف دون عناء كبير، الكثير من المحرمات التي تحيط به من كل جانب، لكن الفقر الروحي الذي يحيط به أيضا، يجعله غير عابئ بهذا الأمر، لأن ما يشغله هو الطمع والجشع والاستحواذ وحب الدنيا، وهذه الأمور تغطي بصيرته وبصره بغشاوة الملذات المحرّمة، وتجعله لا يرى سواها، ولا تعنيه هذه المحرمات المحيطة به وبذويه، والتي تذهب بهم بعيدا عن الرؤية الصحيحة والسلوك السليم.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في الكتاب القيّم الموسوم بـ (من عبق المرجعية:
(نحن نرى محيطنا مليئاً بالمحرّمات، وذوينا لا يؤدّون الواجبات، ولا نكترث).
إن عدم الاكتراث بحالة الانحدار التي يتعرض لها الإنسان بسبب انغماره بالمكاسب المادية الزائلة، سوف تقوده إلى سلسلة من الخسائر المتعاقبة، وأخطرها تلك التي تزرع في شخصيته وكينونته وأعماقه حب المكاسب المادية، وتفضيلها على الأرباح الروحية التي ترتقي به إلى درجات عليا، تضعه في مصاف المؤمنين الخاشعين العادلين الكبار، لكنه بسبب انغماسه على نحو كلي في الملذات الدنيوية وتفضيلها على معالجة الروح من مرضها وتنظيفها من أدرانها، سوف لا يتنبّه إلى الوضع الخطير الذي يحيط به، والغريب أن هذا الإنسان عندما يتعرض لمرض عضوي جسدي هو أو أحد أولاده يهبّ سريعا لمكافحته بكل ما يمتلك، أما المرض الروحي الأخطر فلا يعير له أية أهمية تُذكَر وسيكون هو الخاسر الأكبر في هذا الأمر.
يقول سماحة المرجع الشيرازي عن هذا الموضوع:
(لو أن أحداً من أبنائنا مرض وزادت سخونته نعمل كل شيء لطرد هذه السخونة، أما سخونة المرض الروحي، وضعف العقيدة والإيمان والسرطان الذي يأكل الإيمان فلا نبالي به)
حقوقنا والواجبات المترتبة علينا
أما عن الكيفية التي ينبغي على الإنسان أن يتعامل بها مع التداعيات التي يفرزها المرض الروحي الذي يصيب من ينشغل بالمادة وتوابعها، فهناك سبل يمكن اعتمادها واللجوء إليها كي يتخلص الإنسان من المرض الروحي، وأهم قضية يجب الانتباه لها في هذا الجانب، هو معرفة الإنسان لواجبه تجاه نفسه وإزاء الآخرين أيضا، فنفسكَ لها عليك واجبات كبيرة، وبنفس المستوى من الواجبات ينبغي أن تتخذها تجاه الآخرين، وإن فهم الشخص وعرف ما هي وظيفته تجاه نفسه والآخرين، ينبغي أن يقوم بما يلزم في هذا المجال، وإلا ليس ثمة فائدة من هذه المعرفة بلا تطبيق.
بعد ذلك ينبغي أن يعرف الواجبات التي تترتب عليه، لنفسه وللآخر، ولابد أن يبادر بقوة وإيمان بتنفيذ هذه الواجبات والتقيّد بها، ولا شك أن هنالك بعض المحرمات التي ستدخل في هذا الإطار، ولا مناص من الالتزام بها وتطبيقها عن طيب خاطر، لأنها سوف تساعد الإنسان على الولوج في المسار الصحيح، سواء تجاه نفسه أو تجاه الآخرين، وثمة نواهٍ على الإنسان أن يتحاشها ومحرمات يجب أن يتقرب منها بعيدا عن التبريرات والمسوّغات التي يسعى بعضهم للاحتجاج بها كي يوغل أكثر فأكثر في الخطيئة وارتكاب المحرمات.
لهذا يحذّر سماحة المرجع الشيرازي من ذلك قائلا:
(على كل فرد منّا أن ينظر ما هي وظيفته تجاه نفسه وتجاه الآخرين؟ وما هي الواجبات المترتبة عليه؟ وما هي النواهي والمحرّمات التي ينبغي له الانتهاء عنها؟).
ويضرب لنا سماحته مثال عن طبيعة العلاقات والتعامل بين الزوج وزوجته وبالعكس، وما هو الواجب على الزوج والزوجة، وكيفية التعامل السليم المتبادَل بينهما، وينبغي عليهما أن يبتعدا عن المحرمات بأقصى ما يمكن، وحين يصح التعامل بين الأزواج وبين الآباء والأولاد وبين الأفراد مع بعضهما البعض، فإن المجتمع كله سوف يلتزم التعامل السليم الذي يضع المحرمات خلف ظهور الناس، فلا يرون حينها سوى الحلال بعيدا عمّا هو محرَّم في الإسلام أو وفقا للتقاليد والقيم والمبادئ التي يؤمن بها المجتمع.
هنا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي بقوله:
(على كل فرد منّا أن يعرف ما هي الواجبات بحقّه؟ وما هي المحرّمات عليه؟ فعلى الزوج أن يعرف واجباته تجاه نفسه وتجاه عائلته، وتجاه الآخرين. كذا المرأة عليها أن تسعى لمعرفة ما يجب عليها تجاه زوجها وأولادها والمجتمع)
عليكَ أنْ تتصرّف بالنحو الصحيح
أما كيفية وصول الإنسان إلى درجة الاقتدار في التعامل القويم مع الآخرين، وتحاشي المحرمات، فهذا الأمر يمكن أن يتم اكتسابه من خلال سعي الإنسان ومثابرته العالية والدائمة وصولا إلى مستوى الحصول على ملَكة تحميه من اقتراف المحرمات، وتبعده عنها، بحيث ينأى بنفسه بعيدا عن تلك المحرمات التي يمكن أن تقوده إلى هاوية الانحراف والمادية المقيتة بسبب المرض الروحي الذي يحاصر روحه ويأسرها كونه لا يعبأ إلا بالربح المادي تحت ضغط الجشع الذي يقوده إلى إهمال الروح، ومن ثم الانحدار إلى المحرمات المتاحة لكل من يعجز عن حماية نفسه منها، خصوصا الشباب، رجالا ونساءً، فالجميع عليهم الحذر من السقوط في هاوية الحرام، بغض النظر عن كونه عالم أو كاسب، عارف أو جاهل.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب:
(على كل فرد منّا, سواء كان رجلا أو امرأة، شابّاً أم شيخاً، من أهل العلم أم كاسباً, أن يحصل على ملكة تحصّنه من ارتكاب المحرّمات أو التخلّف عن الواجبات، ثم عليه بتعليم الآخرين حسب مقدرته ومعرفته).
وينصح سماحته من لا يعطي الاهتمام المطلوب للجانب الروحي ويحصّن نفسه جيدا، فحركة المجتمع تضم بين طياتها مغريات ومكاسب غير مشروعة تغص بالمحرمات، لهذا على الإنسان أن يضبط نفسه إذا ما أتيحت له فرصة الحرام، وأن يردع نفسه وأهواءه بقوة إيمانه وتقواه، فالسقوط في براثن الحرام أمر في غاية الصعوبة والخلاص منه قد يكون أصعب، لذا من الأفضل أن يحذر الإنسان من السقوط في وحل المحرمات منذ البداية، معتمدا في ذلك على تربية روحه وملئها بالإيمان والسلوك القويم.
ويؤكد سماحة المرجع الشيرازي على أهمية أن يتصرف الإنسان على النحو الصحيح، بمعنى أهم هدف لديه أن يمنع نفسه من السقوط في الحرام، فإن استقام في أقواله وسلوكه لا عليه من سلوك الآخرين، سواء استفادوا منه أم لم يستفيدوا، فالمهم بالدرجة الأولى أن يحمي نفسه من الحرام، أما الآخرون فلهم أن يستفيدوا من سلوكه وإيمانه وطبيعة أعماله الصالحة، وإن أرادوا العكس فهذا لا يضره، وبالنتيجة إذا قام كل فرد بضبط توجهاته وأقواله وسلوكه، فإن الحصيلة سوف تكون مجتمعا صالحا ينأى بنفسه وكيانه بعيدا عن المحرمات.
ولهذا ينصح سماحة المرجع الشيرازي مخاطبا الفرد:
(تصرّف أنت بالنحو الصحيح واستفد من حياتك بصورة صحيحة ولا يهم بعد ذلك إن كان قد استفاد الآخرون منك ومن تعاملك معهم أو لا؛ فإن الله تعالى يقول: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم).
اضف تعليق